لا شك ان الحمية الفياضة التي تغمرنا بها مشاهد كرة القدم، لتخرجنا من خمولنا العادي ومن روتين حياتنا اليومي، تستحق ان توقظنا للتساؤل عن هذه القوة السحرية التي تمتلكها كرة القدم اليوم. ولا شك ان السياسيين، خصوصاً الحزبيين منهم، يحيون هذه الظاهرة بغير قليل من الحزن. فهذه الجماهير التي هي اشبه ما تكون بكائن أصم او بجبل راسخ عندما يتوجه اليها الخطاب السياسي الحزبي سرعان ما تتحول الى لهب وهشيم مشتغل عند مشاهدة اول كرة في "صندوق العجائب". يتململ السياسي في مكانه متمتماً بكلمات مؤداها ان هذا العفريت ذا الملايين من الرؤوس، والذي ندعوه بالجماهير والذي هو كتلة صماء عندما ننفث اليه بخطابنا السياسي الاحتجاجي، ها هو الآن يهج ويميج في كل الاتجاهات، ويطن ويئن بكل الاصوات. ما السر؟ تنتصب لعبة كرة القدم كظاهرة استثنائية، كظاهرة اجتماعية كلية بامتياز، بمعنى انها ملامسة لمستويات الوجود الاجتماعي كافة. فظاهرة كرة القدم هي في الوقت نفسه ظاهرة سياسية وسيكولوجية واقتصادية، واعلامية، وثقافية، وظاهرة فرجة وتسلية، بل ظاهرة طقوسية الى جانب كونها ظاهرة رياضية في الاصل. هذه المستويات، والابعاد والدلالات كلها، لاصقة وعالقة بالحدث الكروي. فهو اساساً ظاهرة اجتماعية يتم فيها الانتقال من مجتمع الذرات الى مجتمع الموجات، اي من مجتمع فرداني، مكون من مونادات بالمعنى الليبنتزي مغلقة على نفسها، لا تتواصل ولا تتحاور مع جاراتها الا لماما، الى مجتمع تواصلي، حواري يتحول فيه الناس الى كائنات منفتحة على بعضها البعض لدرجة انه يصبح في حكم العادي ان يفاتحك اول قادم في الطريق قائلاً: ألم تر ان فريقنا كان على وشك انتزاع النصر وحيازة البطولة لولا سوء الحظ. وسرعان ما يندمج معك في الحديث وكأنك تعرفه قبل ألفي عام لأنه يعتبرك من دون وعي منه عضواً في الجمهورية الفاضلة لمحبي وعشاق كرة القدم التي هي جمهورية: Philofoot. المشهد الكروي يستبدل المجتمع الميكانيكي بمجتمع ديناميكي منفتح، اي مجتمع حواري وتواصلي، بل تنفيسي لانه يتيح لأفراده البوح بما هو مكبوت في بواطنهم من صور وأحقاد وغلّ ومشاعر سلبية. بل يتيح لهم كذلك تصريف المشاعر الايجابية نفسها التي ظلت مكبوتة ومكبوحة او في حال انكفاف وعطالة، اي مشاعر الحب والغيرية والتواد، والتضامن، والانصهار خالقين مجتمعاً جديداً هو المجتمع الطائفي الانصهاري Societژ communautaire. هذه الفورات الاجتماعية ترتبط بطقوس جماعية في الغناء والرقص، والمزحة، وغيرها من الحركات التفريغية. بل ان هذه الاحتفالية على الرغم من دنيويتها الواضحة وزمنيتها القوية هي شكل من اشكال التعامل مع المقدس. وقد ذهب بعض الدارسين لهذه الظاهرة لنذكر الانتروبولوجي الفرنسي المعاصر Marc Augژ في العديد من دراساته، خصوصاً في بحثه المعنون بپ"رياضة ام طقس شعائري" المعاد نشره ضمن منشورات مجلة "لوموند الديبلوماسي" الموازية الى تشبيه كرة القدم بديانة لها طقسها الشعائري المباراة وكنيستها الكونية الفيديرالية الدولية للفوتبول FIFA وباباها رئيس الفيديرالية ورهبانها وكهانهاالمدربون ورؤساء النوادي والفرق، والمعلقون الرياضيون. هذه "الرياضة"، من خلال المنظور الانثروبولوجي، شكل من اشكال ظاهرة كبرى تعم المجتمعات الحديثة، وهي ظاهرة التقديس الدهري Sacralite laique، التي تعكس بهذا القدر او ذاك غياب المعنى الميتافيزيقي وحلول الانشطة الدهرية الأسفار - مشاهدة المباريات - زيارة السادة العصريين اي المجمعات التجارية الكبرى - الدخول للسينما وللحفلات الموسيقية وغيرها من الانشطة الاستقطابية المعاصرة… محل الغائيات الكبرى ما يجعلها عنصراً اساسياً ضمن ميتافيزيقيا العصر. ان قوة الاستقطاب والتأثير التي تتمتع بها كرة القدم ترجع الى انها تضرب في اعماق النفس، في اعماق اللاشعور، بحيث تعبئ اعمق اعماقه: مسألة المقدس، والمعنى، والغاية، هذا بالاضافة الى فضائلها السيكولوجية العديدة المتمثلة في استقواء مشاعر الهوية والانتماء المشترك والروح القبلية وفي التفريغ الايجابي للمشاعر السلبية والايجابية معاً، وفي البعد العلاجي والاصلاحي من حيث انها شكل من اشكال التربية على الاستثمار في ما هو جماعي ومفيد، اي ما يقي اجيال الشبيبة من الانحراف في المخدرات المادية والروحية المعروضة بكثرة في المجتمع الحديث. هذا اضافة الى كونها محط استثمارات اقتصادية ومالية واسعة جداً، بل انها تتجه اليوم الى ان تشكل بعداً آخر للعولمة، عولمة المشاهد الرياضية، وعولمة المشاعر الكروية، وتسويقها كونياً عبر القنوات الفضائية الممتدة عروقها اليوم في كل بيت، والمبثوثة اشعتها في كل عين، وموجاتها الصوتية في كل أذن. فلا البابا ولا مايكل جاكسون ومادونا ولا اي بطل من ابطال الثقافة الجماهيرية، في هذا العالم المترنح، ولا أي نشاط سياسي او ثقافي او فني او تقني، قادر على ان يعبئ مئات الملايين من الناس، ويجعلهم مشدودين ومشدوهين الى هذه الاحداث، مثل كرة القدم. نعم ان هذه الجلدة لم تكتسب كل هذه الخطوة والحضور الكلي ! الا بفعل تحولها الى مشاهد منقولة عبر جهاز التلفزيون. فمشهدة ومسرحة هذه اللعبة عبر التلفزيون هو ما اكسب هذه اللعبة القدرة الوجدانية الاجتياحية التي لا راد لقوة سحرها، وهو ما رفعها الى اقصى درجات العولمة. * كاتب وجامعي مغربي.