آثرت الرسامة ريم الجندي بعد غياب خمس سنوات عن معارض بيروت أن تدعونا إلى تأمل مقارباتها الجديدة مع فن الأيقونة، من خلال 28 لوحة شكلت تجارب معرضها الجديد الذي يقام في غاليري جانين ربيز (حتى 25 حزيران/ يونيو) في بيروت بعنوان «القيامة». والمعروف أن ريم الجندي درست جماليات الفنون المسيحية وحازت على دبلوم دراسات معمقة في «الفن المقدس» من جامعة الروح القدس الكسليك، هذا إلى جانب استيحائها منذ سنوات تكوين الأيقونة في لوحاتها وجعله مصدراً حيوياً للاشتغال على مكونات الاستجابة لمواجهة مؤثرات الزمن الراهن في الفنون المعاصرة. فالانشقاقات المجتمعية في معارضها السابقة تجلت في تيمات تنوعت بين السفر ومصطلح «شجرة العائلة» والتباينات العرقية في المجتمعات المدينية، وفي معرضها الحالي بات مفهوم الزمن يتأرجح في استعادة الشكل الآخر لوجوه ضحايا المجازر في سوريا، قولها: «أراهم ملفوفين بأكفان مرتجلة، شراشف أتمت وظيفتها النهائية، وأتذكر وجوه الفيّوم. هؤلاء ليسوا وجوهاً من وجوه الفيّوم. ليسوا متخيلين أيضاً ولا هم على الصورة التي رأيتهم عليها تماماً. ما أراه في وجوههم سابق لصورتهم الأخيرة، سابق للكدمات وآثار العنف والتعذيب. أراهم الآن أحياء، محفوظين في لحظة جمالهم القصوى. جمال الضحية». سعت ريم الجندي إلى تبيان الوجه الآخر للضحايا من خلال وضعها في سمات أزمنة تاريخية متأرجحة، ما بين الماضي وإسقاطات الحاضر، كي تستمد مكوناتها من تداعيات أقنعة الفيوم التي أُخرجت من رمال الصحراء المصرية في القرن التاسع عشر، واعتبرها المؤرخون أنها أسست لتقاليد رسم الأيقونة البيزنطية في الشرق العربي. وهي بورتريهات واقعية نُفّذت بتقنية «الأنغوستيك»: ألوان شمعية مثبتة بالحرارة على ألواح من الخشب، تعود إلى الحقبة الممتدة ما بين القرن الأول ق.م. والثالث ب.م. وتمزج ما بين الأسلوب الكلاسيكي للحقبة اليونانية- الرومانية والطقوس والعقائد المدفنية للحضارة الفرعونية. وعلى الأرجح أن اللوحات التي كانت معدّة لتغطي وجوه المومياءات، رُسمت وأصحابها ما يزالون في عنفوان الحياة، مرتدين من الملابس ما يتفق مع منزلتهم الاجتماعية ومن الحلي أنفَسه وأحسَنه. إنها تصاوير متماسكة وقوية التعبير لوجوه ذات عيون بارزة تنظر إلينا من بعيد أزمانها تخترقنا بقوة حضورها، هي لوحات لأموات ليسوا كالأموات، لفرط ما ترتسم على ملامحهم الأحلام الدنيوية وزينتها، التي كسرت رهبة الموت باستعادة نسائم الحياة سعياً للخلود. إذاً المفارقة بين وجوه الفيوم ووجوه ريم الجندي لا تكمن في كيفية تجسيد عبور الموت بل في طريقة بعث الحياة التي لا تتراءى لدى ريم إلا من خلال الخلفيات الزخرفية التي تحوط الوجوه وصور الزفاف أو العناصر التزيينية التي تظهر كشرائط تعلو وجوه الراحلين، تلك الوجوه الاصطلاحية المتناسخة والنمطية بالمعنى الأيقونوغرافي الديني. فالتأويل الشعري- النظري لمفهوم القيامة، يتخطى مضمونه البصري، لاسيما على مستوى الطرح التشكيلي بالمعنى الاستيتيكي والتقني بما يتعلق بالنزعة التصويرية وأدواتها في التنفيذ الفني. فالحلة الدنيوية في الأسلوب الواقعي (أقنعة الفيوم)، تقابلها الحلة الدينية لأيقونات ريم الجندي، حيث الوجوه تبدو أحياناً مطاطية بسبب أسلوبها الفطري في مقاربة رسم الواقع (على طريقة المانييريزم المتكلّف)، الذي لا يخلو من العاطفة والشعائرية الملغزة والروحانية الكامنة تحديداً في شفافية الأكفان. هذا الأسلوب الفطري لدى ريم الجندي يذكّر بمنحاه الطقوسي الشعبي- الزخرفي بالرسامين الفطريين في أميركا اللاتينية، الذين ظهروا في أعقاب شهرة كلٍ من فريدا كاهلو ودييغو ريفيرا. إنها رحلة إلى العالم الآخر، الحاملة معها ذكريات صور الماضي التي تربط الميت بعالم الأحياء. وهي رحلة أيضاً تجتهد الفنانة في إقناعنا بقابلية عصرنة الوجه الديني للأيقونة كبديل عن الواقع، وهو استبدال للحاضر المؤجج بالمطلق الغيبي- اللازمني، على ثنائية المقدس والمدنس، في حين أن المعاصرة تقوم في صلب مبادئها على نقد الدين ومواجهة المظاهر الأيديولوجية المرافقة له، تحت شعار الإرهاب والتطرف والقتل وقمع الحريات والانخراط في أدوات السلطة. الحيرة هي الشعور الذي ينتابنا إزاء فعل هذه المصالحة المستحيلة بين ثقافات وحضارات وتاريخ وحاضر معقد، لم نصل فيه أن نكون أنفسنا حتى على مستوى الفن. لوحات القيامة التي رسمتها ريم الجندي لا تعكس زمن الموت وفواجعه في الواقع المعيش قدر ما تعكس تأويلات صوت المشاعر ومحاولات الاقتراب من رموز رهبة الطابع القدسي لوجوه الفيوم، من خلال لحظة واحدة هي لحظة انكشاف الوجوه وخروجها من الأكفان البيض، كما هي في الخيال الشعري. وفي هذا النوع من «الأيقنة» للحاضر، يطل رجال ونساء وأطفال، كعائلة من وجوه تعرف بعضها بعضاً يجمعها إطار واحد، تتشابه في الملامح والتوهج، وتتمايز في ما بينها بالتلطيخ اللوني والتزيين الزخرفي، لا يمكن أن نزعم أنها لضحايا إذ إنها بعيدة كل البعد عن سحنات الوجوه السورية (التي كانت مدعاة المعرض)، كما أن تأويلات الترميز للقيامة تتم عبر تنويعات التأليف المجازي لوجوه أقرب إلى الوجوه الأفريقية (التي لطالما كانت تعكس أسلوب الفنانة)، سوى أنها تظهر محاطة بهالات اللون الأبيض التي تعتليها شرائط الرموز السابحة في القسم الأعلى من اللوحة: من ثمار وقطاف أمنيات وغصون وقرابين، لكأن أحلامهم ما زالت معلقة فوق رؤوسهم. ثمة ظاهرة تطفو على سطح المشهد الفني المعاصر مفادها الحنين إلى الماضي والاشتباك مع التاريخ، وهي تنطوي على مخاطر هائلة بسبب رواجها الاستهلاكي والعشوائية في إسقاطات الماضي على الحاضر. والتموضع الصعب للفكرة التي اختارتها ريم الجندي، لا تدخل في جوهر التعبير عن الواقع المأزوم قدر ما تبحث عن مبررات شعرية لمقاربة تاريخية. وهنا يأتي حدس الحنين إلى الماضي كصدى لنتائج ما يحدث في الأزمنة الراهنة من حروب تنقل مجتمعاتنا العربية في زمن قصير من وضع إلى وضع مغاير تماماً، وهو أمر من شأنه أن يجعل الماضي القريب يبدو وكأنه ماضٍ بعيد، وهذا ما يفسر الحنين إلى الماضي السحيق في نتاج العديد من الفنانين العرب المعاصرين.