تحولت الكمالية في تركيا الى طوطم مقدس أو ايديولوجيا رسمية تحرسها نخبة عسكرية وسياسية مسيطرة بقفازات ديموقراطية. وتشكل أيلولتها النخبوية والبيروقراطية السلطوية أكبر عائق امام تطوير المجتمع السياسي التركي الحديث، وتأسيسه من جديد في اطار مؤسسي مركب للهوية، يعترف بديناميكية المجتمع وحركاته الجديدة، ويُمكن سائر اطرافه من ان تجد له محلا فيه. ان "الوحدة الأزلية ما بين الدولة والأمة" في الدستور التركي ليست سوى أدلوجة متقادمة في عصر تمزق هذه الوحدة. وقد اعتنقتها الكمالية منذ ما سمي في الحوليات التركية بحرب التحرير الوطنية بعيد الحرب العالمية الأولى تحت تأثير الدرس البشع لحركة القوميات في القرن التاسع عشر. ان ما قامت به الكمالية في ضوء هذا الدس لم يكن بكلمة موجزة ومختصرة سوى تتريك الاتراك. فخلافاً للسيرورة الكلاسيكية في الغرب حيث تنشئ الأمة دولتها، خلقت الدولة الكمالية الفتية هنا الأمة على قاعدة الدولة - الأمة والوحدة التي لا تنفصم ما بينهما، بحيث تتكرر الدولة في الامة وبالعكس. وفي الآن الذي تعولم فيه الاقتصاد التركي فان الدولة مازالت محافظة على نسقها الايديولوجي الكمالي المتصلب و"المغلق" الذي لا يعترف بواقع التعدد الثقافي واللغوي والعرقي والمذهبي المركب. ومن هنا ما كان ممكناً لنظام مؤسسي احادي الهوية الا ان يواجه باستمرار بعودة ما يقمعه وما يكبته. ليس "الرفاه" في تركيا مجرد تظاهرة من تظاهرات المكبوت. اذ انه في مستويات عديدة من مضاعفات النموذج الكمالي نفسه. غير ان هذه المضاعفة تحتمل لأول مرة في تاريخ تركية الحديث التأشير الى جمهورية نامية تتخطى الكمالية وتصفها في حدودها الفعلية أي حدود المشروع المنجز. ومن هنا فان حل الرفاه هو اكثر بكثير من مسألة حل حزب سياسي يجري الادعاء بخروجه على الدستور. انه في العمق دفاع الايديولوجيا الرسمية الحاكمة القديمة المتقادمة عن نفسها، ومحاولة لانقاذ نفسها في شروط جديدة، تجتمع برمتها لتطرح احتمالاً تاريخياً جديداً يمكننا تسميته بما بعد الكمالية. والرفاه هنا ليس حزب الماضي أو حزب المكبوت بل هو نوع من حزب مرحلة ما بعد الكمالية. فقد توفر للرفاه ما لم يتوفر لأي حزب يميني أو يساري في تركيا. لقد قدم الاسلام بوصفه محركاً للتنمية. لا يقل تحريضه على الحداثة عن النموذج البروتستانتي في الغرب أو النموذج الشفتوي في اليابان. وفي ذلك اختلف الرفاه كثيراً عن النمط الاخواني نسبة الى جماعة الاخوان المسلمين. ان اربكان نفسه تلقى تكوينه الأول في المدرسة الاخوانية، وكان تلميذاً مباشراً للاخواني الليبرالي السوري البارز والراحل عمر بهاء الأميري الذي ساعد اربكان الشاب على التفكير بنموذج اسلامي تركي يتكيف مع خصائص المجتمع التركي ويستوعبها ويستجيب اسلامياً الى آلياتها. ومن هنا لم تكن "مرونة" الرفاه تكتيكياً أو اسلوباً أو قناعاً بقدر ما كانت متجذرة في نسيجه الجديد، اذ لفظ بشكل مبكر الجماعة الراديكالية من صفوفه. ونعني بها جماعة جمال الدين قبلان، وتحول الى حزب تركي. فالرفاه "متآخٍ" مع الاخوان المسلمين في العالم وليس مجرد فرع قطري عضوي لتنظيمهم العالمي، وذلك في مرحلة قرر فيها التنظيم العالمي الاعتراف بخصوصيات الأقطار والعمل تمثيلياً في كل بلد يشهد تعددية سياسية تمثيلية. ومن هنا كان الرفاه تعبيراً عن أفق جديد لعمل الحركات الاسلامية. فالايديولوجيا السنية للرفاه لا تمنعه من فتح الحوار مع العلويين الاتراك الذي يصل تعدداهم الى حوالى 20 مليوناً ويتميزون بالحاحهم على العلمنة ولكن من منظور يختلف عن المنظور الكمالي المسيطر، وايديولوجيا "التركية" لم تمنعه من تصور حل للمسألة الكردية في تركية على قاعدة تختلف جذرياً عن القاعدة الكمالية قاعدة الصهر والتذويب وعن القاعدة الكردية قاعدة الاستقلال القومي والعرقي. ومن هنا كان الرفاه بهذا المعنى حزباً كردياً. بمعنى انه فعلياً ضاهى بأصواته الكردية أكبر الاحزاب الكردية "الشرعية". انه اكتسب بهذا المعنى بعداً كردياً. وبنفوذه الهائل في وسط الاناضول وشماله لا سيما في انقرة واسطنبول عبّر الرفاه عن هويته كحزب يمثل القطاع الحديث في المجتمع. ان المغزى الجوهري للرفاه يكمن في تصورنا في انه حاول ان يقدم لأول مرة نفسه كحزب يمثل الابعاد المركبة والمتنوعة الثقافية واللغوية والعرقية للهوية التركية. وحيثما اخفقت الكمالية في منظورها لمسألة الهوية نجح الرفاه. فمثَّل في وجه أساسي من وجوهه نوعاً من حاجة تركية داخلية، أي حاجة تركية لاستعادة العصب الاساسي لهويتها المتجذر في حياتها رغم "الميرون" الكمالي، وبهذا المعنى ليس الرفاه مجرد نموذج نقيض الكمالية، بل هو في عمقه يصادق ما هو واقع، أي تحول الكمالية الى مرحلة وبروز آفاق مرحلة جديدة في تركية هي مرحلة ما بعد الكمالية، ستدخل تركية وأدخلتها في أتون الاسئلة المتفجرة عن مفهوم آخر عن نفسها. ولن تمزق هذه الاسئلة تركيا بقدر ما ستمنحها ابعاداً جديدة. ان حل الرفاه لن يوقف تعريف تركيا من جديد نفسها بشكل مختلف عن التعريف الكمالي، فقد غدت الكمالية عبئاً وعائقاً امام ديناميكية المجتمع.