على مدى عام مضى، حاول اعضاء "تحالف كوبنهاغن" من المثقفين ورجال الأعمال المصريين عددهم كان لا يزيد في البداية على 15 عضوا بشتى السبل ان ينقلوا تحالفهم المزعوم من أجل السلام من صفوف النخبة إلى صفوف الجماهير، ففشلوا فشلاً ذريعاً، بل فشلوا حتى في أن ينقلوا مبادئ وأهداف هذا التحالف إلى حيث قطاعات أوسع من النخبة الثقافية المصرية على رغم توفر الإمكانات المادية والغطاء السياسي والإعلامي المنظم. إزاء الفشل هذا الذي اكدته مظاهر عدة، قام الفريق المصري نفسه بعد أن انضم إليه بعض الشباب والشيوخ ممن توقف إبداعهم ودورهم الثقافي والسياسي، بمحاولة أخرى بائسة على طريقة كوبنهاغن نفسها، وإن كانت هذه المرة بغطاء رسمي واضح وصريح، تمثلت في تأسيسهم جمعية اهلية تتبع وزارة الشؤون الاجتماعية المصرية، سموها "جمعية القاهرة للسلام" وأعلن بيان تأسيسها الأول في منتصف نيسان ابريل 1998. وأكدوا في ما بعد أنها تمثل "الجناح الفكري لتحالف كوبنهاغن" وأنه رصد لها مبلغ 40 مليون دولار بهدف انشاء مركز للابحاث والدراسات وللصرف على نشاطاتها، وضمت هذه الجمعية اسماء أعضاء كوبنهاغن انفسهم المعروفين بميولهم ناحية التطبيع والحوار مع الاسرائيليين والقاء اللوم دائما على "تخلف العرب وعدم قدرتهم على فهم العقلية الاسرائيلية المتطورة". هذه الجمعية منذ انشائها وحتى اليوم تثير جدلاً وسط المثقفين المصريين. وفي ما يلي رصد تحليلي لبيانها التأسيسي، وكشف هادئ لأهدافها: فأولاً: يقول البيان التأسيسي والذي حمل عنوان نبذة مختصرة حول جمعية القاهرة للسلام ان هدف الجمعية أن تكون "مركزاً علمياً وبحثياً ومنبراً للفكر المستنير وتعبيراً عن موقف الرأي العام المصري من أن السلام بمفهومه المتكامل لا يتحقق من خلال المواقف الاستفزازية واللاأخلاقية، واللا قانونية لحكومة اسرائيل". ونسأل هل يحتاج التعبير عن موقف الرأي العام المصري ضد حكومة اسرائيل، والمستوطنين ومواقفهم الى هذا الجهد الجبار الذي يبذله لطفي الخولي الذي نخشى على صحته من كثرة الانفعال سواء في مقالاته او مواجهاته التلفزيونية وعبدالمنعم سعيد وعلي سالم وشركاؤهم الثلاثون، وهل يحتاج ذلك الى انشاء جمعية من قبل تحالف دولي وطبعا هو ليس دوليا في شيء ورصد مبلغ 40 مليون دولار هكذا قالت الصحف !! من أجل أن نقول إن الشعب المصري ضد هذا السلام؟ هذا سبب واه وينطوي على قدر كبير من اخفاء الحقيقة !! ثم نأتي الى مسألة أن الجمعية أسست لتكون مركزا علميا وبحثيا ومنبرا للفكر المستنير ونسأل: ألا يوجد في مصر ما لا يقل عن 65 مركزا علميا وبحثيا؟ ألا توجد في مصر عشرات الهيئات والجمعيات الاهلية ومؤسسات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الانسان التي تضع على رأس اولوياتها حكاية الفكر المستنير تلك؟ الى الدرجة التي مقتناه فيها وصرنا نرتاب من مجرد ذكر كلمة المستنير بعد كلمة فكر!! ما الداعي، وما الذي استجد، لكي تنشأ جمعية بهذه التركيبة الطريفة والغريبة لتخبرنا بما نعلمه، وتنبئنا بما ندركه وتعلمنا ما حفظناه؟ بالتأكيد هناك أسباب أخرى، ومآرب خفية نعلم بعضها، ولا نعلم الباقي، وسأؤجل الحديث عنها الى نهاية المقال. وثانيا: يقول البيان التأسيسي للجمعية المذكورة إن السلام المنشود يتطلب النظرة البحثية المتعمقة في كل ما يرتبط به من دراسات ومواقف وصولاً الى تقديم الرؤى المتكاملة والموضوعية للسلام العادل المتكافئ. ونسأل: هل لا تكفي عشرات الأبحاث والدراسات التي أسست لمناهج كاملة في النظر الى هذا الصراع والسلام المنشود، وعشرات الكتب والأبحاث الميدانية التي تابعت تطوراته ورصدت متغيراته وبعضها - يا للطرفة - يأتي من مراكز بحثية وصحف رسمية يعمل فيها هؤلاء المؤسسون للجمعية المذكورة. ولنتأمل على سبيل المثال، ما يصدره مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في صحيفة "الاهرام" الذي يحتل مديره عبدالمنعم سعيد موقعاً متقدماً - ويا للأسف - في قائمة المؤسسين لهذه الجمعية وللتحالف المسمى "تحالف كوبنهاغن" إذ يصدر هذا المركز سنويا تقريراً استراتيجياً متميزاً يرصد تطورات الصراع بعلمية وحيادية شديدة، ويصدر مجلة "مختارات اسرائيلية" وسلسلة "كراسات استراتيجية" وسلسلة "الملف الاستراتيجي" و"قراءات استراتيجية" شهريا، ومجلة "السياسة الدولية" دوريا بالاضافة الى سلسلة كتب المركز وهذه الاصدارات كافة تتعرض بشكل مباشر الى قضايا السلام والصراع في الشرق الاوسط، بل ينشر المركز مقالات اسبوعية في "الاهرام" الواسعة الانتشار - يتصل معظمها بقضايا هذا "السلام" المزعوم. إذن ما الداعي الى انشاء مركز أو جمعية جديدة؟ أمامنا أحد احتمالين: إما أن دراسات مركز "الاهرام" وغيرها من المراكز البحثية المصرية 65 مركز ابحاث عامة وخاصة هي دون المستوى العلمي والفكري ولا يعتد بها، وإما أن ثمة اهدافا وغايات اخرى خفية يبتغيها اصحاب جمعية القاهرة للسلام ويخفونها، وهذا ما سنتحدث عنه لاحقا. وثالثا: يختتم البيان التأسيسي ل جمعية القاهرة للسلام بفقرة مضحكة، لكنه كما قال المتنبي ضحك كالبكاء، اذ جاء فيها "ان جمعية القاهرة للسلام تسعى الى تعميق الدراسات والبحوث حول السلام في المنطقة ككل، فالسلام لا يتقصر على السلام العربي - الاسرائيلي، وإنما يشمل مواجهة قضايا التوازن العسكري والاوضاع الاقتصادية، واستتباب الأمن والسلام في الخليج والسودان والصحراء الغربية ومواجهة سياسات الحصار والعقوبات في العراق والسودان وليبيا... "جمعية" لم يستطع اصحابها منذ 30/1/1997 يوم تأسيس تحالفهم في كوبنهاغن ان يعقدوا ولو مؤتمرا جماهيريا واحدا، أوندوة واحدة مع جمهور أو مثقفين. "جمعية" لا يتحدث اصحابها إلا مع بعضهم البعض، وفي مكاتبهم المغلقة، أو في مقهى وسط القاهرة وتستمد قوتها الحقيقية من الاجهزة الرسمية للدولة هي الوحيدة التي وافقت على انشائها وزارة الشؤون الاجتماعية في حين رفضت الموافقة على 17 جمعية شبيهة وتعمل في الفكر والسياسة ايضا. والرفض سببه أنها تعمل بالفكر والسياسة، فلماذا وافقوا على هذه ورفضوا تلك !!. "جمعية" و"تحالف" اخفقا في تحقيق الحد الادنى من الأهداف المعلنة، فكيف يتسنى لهما تحقيق كل هذا السلام في كل هذه المنطقة؟ أمامنا أحد احتمالين ايضا: إما أن اصحاب هذه الجمعية هم من الرجال الحالمين لا يرون التناقض الصارخ في مقولاتهم. وإما أن لهؤلاء أهدافا أخرى، أبعد وأخفى، ويستخدمون جمعيتهم وتحالفهم في سبيل التعمية عليها. إذن ما هي اهداف اصحاب جمعية القاهرة للسلام: الجناح الفكري لتحالف كوبنهاغن؟! في تقديرنا ان هناك ثلاثة اهداف أساسية: فأولا: اختراق وتفتيت جبهة المثقفين المصريين المعادين للكيان الصهيوني وهي الجبهة التي اثبتت فاعليتها ضد عمليات التطبيع الثقافي والسياسي طيلة الفترة من 1979 حتى 1998 وبأشكال عدة وأحالت التعامل مع التجمعات الصهيونية الى فعل فاضح لا يجرؤ أحد على ارتكابه إلا في الخفاء. هكذا أرست الجماعة الثقافية المصرية على اختلاف مشاربها، أساساً نفسياً شديد التماسك، بجعل "التطبيع" مع اسرائيل مكافئا لفعل يستحق صاحبه ان ينبذ، وانسحب هذا "الاساس" النفسي والاخلاقي والسياسي على غالبية القطاعات الشعبية والسياسية والاقتصادية في مصر، واستعصى على الكيان الصهيوني اختراق هذا الاساس الذي مثل - ربما من دون أن يدري اصحابه - جبهة صلدة متناغمة، فكان لا بد من الاستعانة ب "تحالف كوبنهاغن"، إلا انه اخفق فكان لابد من اداة جديدة منظمة، تختص بالساحة الاكثر شراسة في الصراع والاكثر تماسكا في رفض التطبيع او الحوار كما يسميه لطفي الخولي بقدرته الفائقة على نحت المصطلحات، فكانت "جمعية القاهرة للسلام" ذات الاربعين مليون دولار والثلاثين عضوا. هذا هو الهدف الأول الخفي. وثانيا: يأتي الهدف الثاني لهذه الجمعية منطلقا من قناعة ثبت فشلها، وهي مراهنة بعض الاجهزة الرسمية العربية على أن في إمكانها شق المجتمع الاسرائيلي من داخله وتوظيف ما يسمى قوى السلام ومعسكر السلام من أجل الضغط على حكومة الليكود لكي تنفذ الاتفاقات البائسة التي ولدت ميتة في مدريد واوسلو، لأننا ببساطة أمام ثكنة عسكرية لا فرق حقيقياً في داخلها بين مدني وعسكري ولا وجود لمؤثر فعلي لما يسمى بقوى السلام أو معسكراته الوهمية، وأقصى "دعاة السلام" بيريز ورفاقة هم مرتكبو ابشع المذابح الانسانية المعاصرة قانا/ 1996. ولكي ندلل على سذاجة الهدف وتفاهة منطقه لنتأمل هذه الحقائق: 1 - حجم ميزانية وزارة الدفاع الاسرائيلية عام 1997 هي 9،8 مليار دولار بنصيب 5،16 في المئة من الميزانية العامة مع ملاحظة أن هذه الميزانية هي للدفاع عن حدود اغلبها صامت!. 2 - اسرائيل تحتل المرتبة الخامسة بين دول العالم في تصدير اسلحة الدمار الشامل المصدر صحيفة جورنال دو جنيف الدولية يوم 19/10/1997. 3 - في السجون الاسرائيلية قرابة ال 25 الف معتقل فلسطيني منذ حكم بيريز وحتى اليوم منظمة العفو الدولية 1997. 4 - اسرائيل تمتلك اكبر ترسانة للاسلحة التقليدية والنووية في المنطقة ولا يستقيم معها إلا توازن عسكري مضاد وليس دعوة واهنة للسلام انظر التقرير الاستراتيجي لمركز الاهرام 97/1998. 5 - اليمين الاسرائيلي يضم 76 من 120 نائبا هم اعضاء الكنيست، وما يسمى "باليسار" الداعي للحوار المزعوم لا يحتل سوى 4 مقاعد!!! 6 - برنامج دعاة السلام والحوار مع الاسرائيليين يستبعد القدس و80 في المئة من الضفة والجولان ومياه جنوبلبنان من أي مفاوضات مقبلة، فعلى أي اساس سيتم "الحوار" أو التطبيع ثقافيا وسياسياً؟ وإذا اضفنا أن عدد المستوطنات وصل في الضفة وغزة الى 303 مستوطنات أغلبها أنشئ في صمت وذكاء إبان عهد دعاة الحوار بيريز وصحبه ! ووفق تصور هندسي وعسكري عدواني دقيق يشطر قرى ومدن فلسطين ويمحو وجودها تماماً، واذا أضفنا ايضا أن ملف الفلسطينيين في الخارج 5 ملايين لا يزال وسيظل مغلقاً، ولا يقبل دعاة الحوار الصهاينة الحديث فيه من الاساس. إذن، على أي اساس سيتم الحوار؟ هل بقي شئ يستحق التوظيف وتأسيس تلك الجمعيات الوهمية للسلام !! 7 - ولمزيد من إقامة الحجة على "أهل كوبنهاغن" نقرأ معهم برنامج حزب العمل الاسرائيلي الذي وضعه كبار مفكريهم من اصدقاء لطفي الخولي وجماعته السلامية. يقول البرنامج: أ - القدس موحدة عاصمة اسرائيل وتحت سيادة اسرائيل والقدس الكبرى كما نعلم تساوي ثلث الضفة الغربية. ب - نهر الاردن هو الحدود الآمنة الشرقية لإسرائيل، وإن اجراءات الفصل بين اسرائيل وتجمعات العرب تتم استجابة لاحتياجات الأمن الاسرائيلي والحفاظ على الهوية اليهودية. ج - السيادة على نهر الاردن وشمال غرب البحر الميت والمنطقة الممتدة بين بيت لحم والخليل ومناطق أخرى حيوية لأمن اسرائيل. د - الابقاء على كل المستوطنات القائمة تحت السيطرة الاسرائيلية. فعلى أي اساس اذن سيتم الحوار ومع من؟ اذا كانت هذه حال دعاته في اسرائيل فهل من فائدة حقيقية ترجى من توظيف مفترض لقوى السلام هناك من خلال جمعية هنا؟!!! الإجابة العاقلة الوحيدة تقول إن الأمر وهم، وأنه سذاجة ولكنها للاسف سذاجة مكلفة ومستنزفة لطاقات الأمة وعقولها، وكأن المطلوب فعلا انظر البند أولا هو انهاك هذه العقول والطاقات للرد على هذه الترهات، خصوصاً اذا كانت تلك الطاقات مضادة للمشروع الصهيوني بكامله ولتطبيعه الدامي مع امتنا ومشغولة اساسا بما هو أهم. الهدف الثاني: الذي يختلط فيه الثقافي بالسياسي، يكشف من زاوية أخرى حال النخبة في بلادنا، وإلى أي حدّ أصابها الوهن، فقد ضاقت دنياها الى درجة افتعال القضايا والعيش في أوهام ليس لها اساس، تماما مثل وهم توظيف "قوى السلام هناك" بإنشاء وتمويل "جمعية للسلام هنا" وترك الابواب الاخرى للفعل السياسي والجهادي الوحيد المطلوب مع هذا الكيان ولعل في نموذج لبنان على بساطته أسوة لمن أراد الحياة بكرامة من نخبتنا الحاكمة. وفي تقديرنا أن ثمة هدفا ثالثا لإنشاء "جمعية القاهرة للسلام" بهذه التركيبة الغريبة من الافراد الذين يفتقدون الجذر الشعبي أو حتى النخبوي الواسع هو الوصول الى مواقع التأثير والمنصب السياسي، اكثر منه اشاعة ثقافة السلام وتحقيق السلام، واقامة مركز علمي للفكر المستنير الى آخر قائمة الاهداف الزاعقة التي اشهروها في وجوهنا من خلال بيانهم التأسيسي. ومن حق أي أحد ان يسعى الى تحقيق هكذا هدفإ إلا أن من حقنا أن نعترض على كثافة الأتربة التي يريد هؤلاء ذرها في العيون حتى لا نرى احلامهم الخاصة، وهي اتربة للاسف لا يقتصر اثرها المرضي على عيون بعض المثقفين الوطنيين المعاديين لاسرائيل، بل يمتد الى عيون الأمة وثوابتها وهويتها المراد خلعها من الجذر واستبدالها بأخرى. وفي تقديرنا لمنظومة الاهداف السياسية والشخصية الكامنة حول المحاولة الجديدة ل"فريق كوبنهاغن"، ان محاولة انشاء جمعية اهلية تحت مسمى جمعية القاهرة للسلام هى محاولة بائسة من جوانبها كافة ومحكوم عليها بالفشل مسبقا لأنها ولدت في إطار معاد لطروحاتها وأهدافها، وتحوم حولها الشكوك، وعلامات الاستفهام، خصوصاً ان من تستهدفه، سواء حكومة الليكود او مجمل التجمع الاسرائيلي في فلسطين، يضرب بها وبأطروحاتها يوميا عرض الحائط، ولا يقيم لها وزنا، ويدرك - كما سبق الاشارة - الاهدف الحقيقية لقيامها، مهما ذرت من اتربة، وأثارت من غبار أمام عيون المراقبين. إنها محاولة مسكونة بالفشل حتى لو لم يقاومها المثقفون في مصر. والله اعلم.