الإعلان المشترك الذي صدر في 8 حزيران يونيو الجاري عن ما يسمى بحركتي السلام المصرية والاسرائيلية، سوف يضيف وقوداً للتناظر المحتدم في الأوساط الثقافية، المصرية خصوصاً والعربية عموماً، في شأن قضية التطبيع مع اسرائيل. وسوف يتفرع عن هذه القضية مجدداً ذلك الجدل الذي أثير على ضفاف عملية التسوية منذ نهاية السبعينات حول علاقة الثقافي بالسياسي في تحديد المواقف العربية من مضمون هذه العملية ومخرجاتها تباعاً. ولأن الإعلان لا يترك مجالاً للشك في اتصاله بحقل هو من صميم السياسة، كونه يحدد برنامج عمل لتسوية الصراع العربي - الاسرائيلي، فمن غير المستبعد ان يصبح مستنداً قوياً في ملف القوى التي ترتاب في الصحة القانونية لقيام "جمعية القاهرة للسلام" طبقاً للقانون المصري المنظم لعمل الجمعيات المدنية والأهلية. وكان قيام هذه الجمعية منذ بضعة اسابيع، أثار حفيظة الكثيرين لأسباب عدة، بينها انحراف برامجها وأهدافها عن جادة ذلك القانون الذي يحظر على الجمعيات الأهلية خوض العمل السياسي. وبالنسبة الى هؤلاء المتحفظين، فإن إشهار "جمعية القاهرة"، على رغم هذا الحظر، وكذا بالمخالفة لمواقف المُشرع المصري من محاولات سابقة لجمعيات رفضت، بحجة جنوحها عن القانون واقترابها من دائرة السياسة، يشي بالرضا الرسمي عنها. واشار بعض منتقدي الجمعية الى ذلك تلميحاً أو تصريحاً، ومنهم من ذهب الى أنها تقول وتفعل ما يملى عليها. في تقديمها لنص الإعلان، ذكرت صحيفة "الاهرام" المصرية 17 حزيران، انه يستند الى مجموعة من الدراسات، قام بها كل من "مركز دراسات حركة السلام الآن" اسرائيل و"جمعية القاهرة للسلام"، واصفة إياها ب "الجناح البحثي لحركة السلام المصرية"، وذلك على مدار عام كامل، ولعل هذه المسميات مما يوقع المتابع في متاهة. ففضلاً عن أنها تنطوي على مبالغة بقصد الايهام بكبر حجم ما يجري رأسياً وأفقياً بين يدي الحركتين، فإن أحداً لم يسمع من قبل عن ما دعي ب "حركة السلام المصرية" كإطار محدد على المسار المصري الشعبي او الاكاديمي او البحثي او الثقافي. كذلك فإن وصف "جمعية القاهرة" عند إشهارها بأنها الجناح المصري ل"تحالف كوبنهاغن من اجل السلام"، ثم اشتقاق وظيفة اخرى للجمعية بأنها الجناح البحثي لحركة السلام المصرية، قد يرجى منه الافادة، بأنها أي الجمعية مجرد جزء من شيء اكبر تصعب معرفة حجمه على وجه اليقين، وهذا مخرج مناسب من مأزق الوصف بالضآلة العددية التي يعانيها التحالف وجناحه المصري على حد سواء. ومهما يكن من أمر، فإن التعليقات الأولية لم تخل من اشارة الى انها مسميات كبيرة لأشياء صغيرة. يتحدث الإعلان عن "شعوب الشرق الاوسط المثخنة بجراح الحروب وشوقها للسلام"، هكذا بالجملة، وهو لا يتهم احدا في شكل مباشر ويترك رواية تاريخ الصراع ظاهرياً، بما يعطي انطباعاً بمساواة الطرفين العربي والصهيوني في المسؤولية، وانطباعاً آخر بصحة مفهوم "الشرق الأوسط" الذي يفترض ان يفسح مكاناً للمستوطنين الصهاينة وكيانهم في مرحلة ما كأحد فروض عملية السلام. ومن وجهة نظر يعرفها المبتدئون في دراسات الصراعات، لا سيما الممتدة منها، فإنه يكاد يكون من المستحيل التوصل الى تسوية مستقرة - ناهيك عن السلام الشامل والعادل - من دون تحليل تاريخ الصراع موضوع الاهتمام، شأن اي مرض انساني. يعتقد اصحاب الاعلان بعمق "ان العرب واليهود في المنطقة يرغبون في السلام"، وهذا صحيح ظاهرياً، إذ السؤال هنا هو اي سلام يرغب فيه كل على حدة؟.. ثم إن الصراع لا يدور تحديداً بين عرب و"يهود". ويُفصل الاعلان برنامج الحركتين للتسوية على المسار الفلسطيني كالآتي: 1- "اعتراف اسرائيل بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وإقامة دولته لم يذكر المستقلة بجوار اسرائيل". 2- "حدود ما قبل 5 حزيران 1967 هي الاساس في تقرير الحدود الدائمة بين اسرائيل وفلسطين"، لكن هذا التحديد يرد عليه استثناء غامض وربما كان ناسفاً هو "سيأخذ الجانبان في اعتبارهما الحقائق التي جرت على ارض الواقع بتعديلات متبادلة في الحدود، وبما يضمن الاتصال الجغرافي بين الضفة وغزة". 3- "بمقدور المستوطنين داخل حدود الدولة الفلسطينية العودة الى اسرائيل والتعويض من حكومتها". وهكذا فإنه الى حين تنفيذ هذا البرنامج، يمكن لأي جماعة مهووسة من المستوطنين الانتقال الى الاراضي الفلسطينية، على الأقل بأمل الحصول على حق العودة "والتعويض". 4- "يتفق الطرفان على المستوطنات التي تبقى في الدولة الفلسطينية، وتجلى المستوطنات الأخرى، ويطالب المستوطنون المتبقون بالامتثال للسيادة الفلسطينية". وهذا مبدأ يقر منتجات سياسة الامر الواقع المفروضة بقوة الاحتلال، التي اشتكى منها العرب لأكثر من مئة عام، ويجافي القانون الدولي ومقررات الشرعية الدولية الفلسطينية على طول الخط. 5- "تطبق اسرائيل والسلطة الوطنية التزاماتهما في الاتفاقات، وتمتنع كل منهما عن اتخاذ خطوات تؤثر سلباً على مفاوضات الوضع النهائي، بما في ذلك مصادرة الأراضي العامة والخاصة وبناء وتوسيع المستوطنات". 6- "تظل القدس مدينة موحدة ويعاد تحديد مساحتها، ويحظى الطرفان فيها بالحقوق الوطنية والدينية، ويتم وضع الأطر البلدية، وستوجد عاصمتان داخل هذه المنطقة البلدية لإسرائيل وفلسطين، ويتم وضع ترتيبات للأماكن المقدسة". وأخطر ما يتضمنه هذا النص، طبقاً لبعض الآراء، بعد الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل، هو إعادة تحديد مساحة المدينة، فبعملية كهذه قد يجد الفلسطينيون عاصمتهم في قرية نائية وضُمت الى للقدس بلدياً في ما يشبه الاستنساخ في حقل المدن والعواصم. 7- "يكون لفلسطين حق استيعاب اللاجئين داخل حدودها ويعوض المتبقون، بدعم دولي... وتنتهي بعد الاتفاق أية دعاوى بخصوص هذه القضية". ويحسب كثيرون أن هذا المبدأ يجتث النضال الفلسطيني والعربي والدولي للخمسين عاماً الخالية من أجل تطبيق حق العودة الفلسطيني المضمون بالشرعية الاممية وشرعة حقوق الانسان والشعوب. والنص عموما يلخص الرؤية الاسرائيلية التقليدية لتسوية هذه القضية التي تمثل جسم الجريمة الصهيونية، التي لم يسبق لإطار عربي التصديق عليها. وعلى خلاف إهمال تراث القضية الفلسطينية في الاممالمتحدة، فيما يخص المسار الفلسطيني، يشير الاعلان الى قرارات مجلس الأمن وقاعدة الارض مقابل السلام، من اجل التسوية على المسارين السوري واللبناني. وبالتداعي، تبدو القضية الأم، أُس الصراع، كمسألة مشاع، يستطيع ان يفتي فيها من يشاء بمرجعية من عندياته. ويرجح لدى المراقبين ان التصور المطروح في شأن هذه القضية ليس جديداً بالمرة، ولا هو بحاجة الى "عام كامل من دراسات مراكز الأبحاث"، كونه مستلهماً - هل نقول حرفياً في جزئياته الأهم - من الحل "غير الرسمي" الشهير بوثيقة "ابو مازن - بيلين" الموقعة في اول تشرين الثاني نوفمبر 1995، والظاهر، ان من يبغي مزيداً من التفاصيل ماعليه الا الرجوع الى هذه الوثيقة. ويلفت النظر ان الاعلان البرنامج - التصور يتحرك تحت سقف اقل من الطمرح عربياً ومصرياً حتى الآن على الصعيد الرسمي لا سيما في ما يتعلق بقضايا الاستيطان والقدس واللاجئين. * كاتب فلسطيني مقيم في القاهرة