لدينا الآن ثلاث رؤى واضحة من الناحية الشكلية لم يحدث التفاعل التام بينها أو الاشتباك الساخن. وقد تسرع البعض فأفتى، بناء على السوابق والثوابت، بينما رأى البعض الآخر أن ما يبدو من اتساق بين الرؤى الثلاث هو الأمل والألفاظ. فالرؤى الثلاث تؤكد أنها تتوق إلى السلام، ولكن، لكل سلامه الخاص به. وكان يفترض أن واشنطن توفق بين الرؤيتين العربية والإسرائيلية. وأظن أن الظرف الحالي يفترض أولاً التسليم بأن الشعور بالخطر على القضية الفلسطينية برمتها له ما يبرره وأن نقطة الحسم التى تمكنت منها إسرائيل - ضمن نقاط أخرى أقل حسماً – هي في الواقع تمزق الصف الفلسطيني الذي تراهن عليه إسرائيل بعد أن استفادت من الشقاق العربي حول أشباح السلام. كما أظن أن الوضوح الآن والحزم وعدم السكوت المهذب والمواربة وانتظار ما لا يجيء لم يعد يجدي بل أدّى إلى تسرب أركان القرار من أيدي العرب. فالرؤية العربية تقوم على أن السلام يعني أن يحصل كل على حقه وفق قواعد تعارف المجتمع الدولى عليها وترك للفرقاء التفاوض حولها، بحيث تجمع التسوية بين نظرية الأوزان النسبية للأطراف، وبين المبادئ المجردة التى ارتضاها مجتمع الأمم المتمدنة. وتنطلق المبادرة العربية من أن إسرائيل بحدود 4 حزيران (يونيو) أي قبل احتلال أراض عربية، وبعد احتلال 21.5 في المئة من مساحة فلسطين فوق ما قرره لها قرار التقسيم، هذه الوحدة السياسية بهذا الحجم – رغم كل شيء - يمكن الاعتراف بها، وأن تتم تسوية هذا الصراع الدامي، لذلك فإن إسرائيل – في نظر العالم العربي والعالم كله - دولة احتلت أراضي عربية في مصر وسورية ولبنان (لا ينطبق على هذه الأخيرة القرار 242)، وحيث بقيت الأراضي الفلسطينية بما فيها القدسالشرقية تمثل 22 في المئة من مساحة فلسطين ويجب أن تجلو إسرائيل عنها، وأن تسمح لملايين اللاجئين الذين فروا عند قيام إسرائيل بالعودة إلى بيوتهم وإلى وطن صار إسرائيل بعد فرارهم، وألا تعترض على إقامة دولة فلسطينية في هذا الجزء الباقي بعد قرار التقسيم وبعد التهام شريحة تمثل في مجموعها 78 في المئة من مساحة فلسطين. واعتقد العالم العربي أن طرح هذه المبادرة يكفي لتتفاعل إسرائيل معها وتدور المفاوضات حولها إذا تم قبول أسسها ومنطلقاتها. في الجانب الآخر، كان من المستحيل قبول المبادرة، لأن رؤية نتانياهو، وهي لا تختلف عن سابقيها سوى في الصراحة والوضوح والصدق في الإعلان، تنطلق من عكس منطلقات المبادرة العربية والفهم الدولي لأسس الصراع. و نقطة الانطلاق الأولى هي أن كل فلسطين كانت ملكاً لليهود وأنهم الآن يستردونها، ومن ثم التبس موقف إسرائيل بين حقيقة ما تريد، وبين الطرح الدولي لجوهر القضية. فإذا أكد نتانياهو أنه يقبل بقيام دولة فلسطينية (غير مستقلة) دون تحديد جسمها، فقد قال عنها بيريز أنها موقتة، وقال عنها الكنيست أنها في الأردن، كما أنها دولة منزوعة السلاح، تسيطر عليها إسرائيل من كل صوب وتضعها تحت نظرها. أما الحدود فيجب أن تكفل الأمن لإسرائيل وحدها، أي تنفرد إسرائيل بتحديدها، ولم يقل نتانياهو هل تقوم الدولة في ما تبقى من فلسطين أم في الأردن. وأما القدس فهي عاصمة إسرائيل، كما أن إسرائيل نفسها دولة يهودية خالصة. أما اللاجئون فإنهم مأساة يجب حلها ولكن بعيداً من إسرائيل. ونستطيع أن نتصور شكل الدولة الفلسطينية إذا سمح بقيامها في فلسطين بأنها تلفظ كل من عادى إسرائيل من الفلسطينيين، أو أنها، بالفهم القانوني الدولي، محمية إسرائيلية يطلق عليها وصف الدولة، كما أن مياهها وما قد يظهر فيها ملك لإسرائيل. وطبيعي في إطار هذا المشروع الظاهر أن يظل الاستيطان هو وسيلة ضم الأراضي واستيعاب المهاجرين اليهود حتى تستولي إسرائيل النقية على كل الأرض وتطرد كل من عاش عليها أو بجوارها في مراحل لاحقة. ولم يفت نتانياهو أن يشدد على أن العائق الوحيد للسلام الذي تريده إسرائيل هو حماس وإيران، ولو اسبعدا من الصورة فإن السلام سيرفرف على ربوع فلسطين، سلام الأحياء لليهود وسلام المقابر للفلسطينيين في ملحمة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً. فما هي رؤية أوباما للسلام؟ الخطوط الأساسية التى عبر عنها في خطابه في جامعة القاهرة ثلاثة، هي: دولة فلسطينية قادرة على البقاء، وقدس مفتوحة للعبادة لكل أتباع الأديان الثلاثة، ووقف الاستيطان حتى يترك جزء لجسد الدولة الموعودة. فهل اتفق نتانياهو أم خالف رؤية أوباما؟ يجب أن نفرق في صدد هذه النقطة بين ما يقال علناً بين واشنطن وإسرائيل وما يقال في شكل خاص، لكن الظرف الحالي يتطلب أعلى درجات الوضوح، فقد ذهب البعض إلى أن طروحات نتانياهو ستغضب واشنطن وأن واشنطن في انتظار إيضاحات، ومن أنصار هذا الرأي الرئيس الأسبق جيمي كارتر الذي توقع صداماً بين البلدين، وعزز ذلك أن بعض المراقبين أوضحوا خلال أول لقاء رسمي بين أوباما ونتانياهو أنهما غريبان يستكشف كل منهما الآخر. في هذا الإطار لا بد أن كل طرف يستحث أوراقه في معركة، إن صح الحديث عنها، فإنها لمصلحة العرب، لكن المعركة وحدها لا تفعل شيئاً على الأرض، ولو شاءت واشنطن لفعلت رغماً عن إسرائيل، ولعل المرافقين لأوباما خلال زيارته القاهرة والرياض لم يفتهم التلويح بأنهم درسوا طرق معاقبة إسرائيل إن لم تتوافق مع الرغبات الأميركية. في الجانب الآخر، أعتقد أن المنطلقات الأساسية بين إسرائيل وواشنطن لا خلاف عليها، لكن واشنطن تريد إرضاء إسرائيل وعدم إغضاب العرب، وهى تعلم أنهم لن يغضبوا، ولعل واشنطن فوجئت بتصريحات الرئيس حسني مبارك والجانب الفلسطيني من أن نتانياهو نسف كل فرصة للسلام، مما يعني أن الموقف العربي من رؤية نتانياهو يدعو إلى بداية جديدة وأن واشنطن هي المطالبة بتقديم هذه البداية. المشكلة كما أراها أن نتانياهو تجاوب مع طلب أوباما بالاعتراف بحق الفلسطينيين في دولة ولم يشترط أوباما وصفاً معيناً للدولة، أما وقف الاستيطان فمسألة كما قال نتانياهو يمكن الحديث مع واشنطن في شأنها، وكأن القضية كلها تنحصر بين إسرائيل وواشنطن، وأن إسرائيل كانت حريصة في تقديم رؤيتها على عدم إحراج أوباما. والحقيقة أنني لا أرى تناقضاً بين أوباما ونتانياهو، فكلاهما يدعو إلى السلام وكلاهما أكمل الصورة من موقعه، فطالب أوباما بدولة وسارع نتانياهو الى تقديم صورتها، ودعا أوباما إلى وقف الاستيطان فأوضح نتانياهو أن ذلك لن يضر بعلاقة الرجلين، وطالب أوباما بحرية المعتقد والعبادة في القدس وقال نتانياهو أنه سيضمن ذلك تحت سيادة إسرائيل، ثم أن أوباما رحب بالرؤية الإسرائيلية. لدينا إذاً رؤيتان تبدوان متوافقتين، مع خلاف في بعض التفاصيل ومحاذير من الطرفين من الخلاف، ورؤية عربية تجاوزتها الأحداث، ورفض عربي واستنجاد بواشنطن. فما هي فرص السلام الحائر في فلسطين في هذه اللوحة السوريالية؟ البداية الحقيقية هي وحدة الأطراف الفلسطينية وموقف عربي محدد إزاء الإصرار على المشروع الصهيوني، وأوراق عربية مساندة لئلا يتهم العرب بالتواطؤ لتصفية القضية أو السكوت عنها أو الانسحاب أمام الهجمة الإسرائيلية، أو في أضعف الفرضيات ألا نكون كالأيتام على مأدبة اللئام. * كاتب مصري.