فى لحظات كهذه، وخيوط الشمس الاخيرة توشك على الافلات من زجاج الشرفة، تتحرك عيناها الى الداخل لترى بيتها مرة اخرى وهى تتحسس بحذر وريبة تلك الشعرة البيضاء التى ظهرت فجأة اسفل ذقنها. وتفكر من جديد فى محاولة انتزاعها، وتعرف انها لن تسطيع وانها ستفلت حتماً من بين اصابعها، او تفشل فى امساكها بالملقاط الذى يقبع طوال الايام السابقة في جيب الروب، ملتصقاً بجسدها. راحت تنظر بثقل ناحية الشجرة ، المنتصبة ، امام البيت. تعرف انه سيمر الان، كما عرفتة تماماً فارع الجسد بسمرته الرائعة وفتنته التى تربكها كطفلة صغيرة وخبزه الذى يحمله اليها فوق دراجته آخر النهار . راحت تخطو الى الداخل، ثم تتوقف هناك كعادتها ، لتنظر مرة اخيرة الى مقعدها فى الشرفة، وتترك عينيها تعبران السور الى الشجرة. وتراه هناك . المرأة الوحيدة بالبيت كبيرة جداً، مع ذلك لا اراها ابدا !! هكذا فكرت وهى تتحسسها فى محاولة لنزعها ، لتفلت من بين اصابعها من جديد . وكانت تسمع خطواته فوق الدرج .. وتساءلت كعادتها عن عمره بالضبط. خمّنت انه يصغرها بأعوام كثيرة ، وشعرت بأن اثاث البيت يلمع اكثر مما يجب ، وانها يوما ما ستموت وسطه تخطو لترى وجهة من الشراعه ، تغضبها فتوته ، وعينه القابضة عليها . تفتح الباب ، ويدخل الى المطبخ وهى تتبعه .. ويضع الخبز على المنضدة الصغيرة. تتحرك اصابعها بآلية والفة، وتبدأ فى إعداد القهوة، وهى تخفي بظهرها تلك الخزانة الصغيرة الزجاجية، الممتلئة بالدواء .. ثم تحكم الروب عليها من الصدر، وتفكر وهى تراقبة، وهو جالس فوق المقعد ... بأن كل ذلك يشبه شيئاً ما لم تعرف ما هو بالضبط. - تسلم إيدك. قالها وهو ينتظر الى الشمعة الموقدة الصغيرة قالت بخفوت : البن دا كويس ريحته حلوة . تعاودها الرغبة من جديد بملامسته ... تفكر فى انها لم تخبر احدا بها من قبل وان ذلك الشيء المتشبث بأسفل ذقنها بإصرار .. يخضها ويؤلمها . -عايزة مني حاجة اعملها لك - ابداً اطفأت الموقد، وراحت تصب القهوة فى فنجانين، وتراقبة بطرف عينها .. ثم شعرت بغصة فى القلب. - قال : عمري ما حبيت وش القهوة - ماكانش بيشربها الابوش - الله يرحمه ورآها شاحبه ، تحك اصابعها بذقنها ... ونظرات زائغة بعينيها لم يدركها من قبل - تعبانة؟ - أبداً - حاجة قرصتك؟ - .............. تلمست اصابعها الملقاط فى جيب روبها ، وفكرت انة يستطيع ان ينتزعها بالفعل. سيراها حتماً ويمسك بها ... - حاسّه بحاجه؟ - ابداً قهوتك هاتبرد اخذت ترشفها، يخنقها الضيق والخجل، وراح يختلس النظرات اليها وخيل اليه انها ستموت فى الحال - امبارح اتأخرت شوية - ................... - عدّيت على جماعة كده همهمت بكلمات مبهمة، وهى تختلس النظرات الى الشجرة المزهرة خلف زجاج النافذة، وأحكمت الروب عليها من جديد ... وشعور بالضيق يثقل صدرها. قال : لقيت الصورة - صورة ايه ؟ - صورتِك وانتي صغيرة - كلها ضاعت .. ما انا قلتلك. - بس فية واحدة عندك - آه .. كنت ورا الشجرة ... مش باينه - عارفها... ورا الشجرة عادت تراقبه وهو يرشف قهوته ، ورغبة تلح عليها بأن تخبره بأمر تلك الشعرة .. تساءلت لماذا تؤلمها كل هذا الالم واخذت تضغط عليها بعنف .. وتحدق عند قدميها، وكان صوته يأتيها من البعيد ... ونظراتها، رغماً عنها، تحوم حول الشجرة وهي تتمايل خلف الزجاج. ايام وهي تود أن تفتح النافذة وتراها كاملة لكنها، على نحو غامض، لا تجرؤ وذلك الانقباض من تلك الشعرة العجيبة يزداد يوماً بعد يوم تعرف انه سيمضي بعد قليل ثم يأتي غداً ولم تخبره بأمرها - أتيهأ لي أنك تعبانه شويه - لا - في حاجة؟ - ........ تدفعها الآن وبعنف، يراقبها صامتاً .. وهو يرى وجهها يتقلص من فرط الالم. تختلس النظرات اليه وهي تشعر بالاختناق. يرتشف ما تبقى من الفنجان .. ويخيل اليها انه قال شيئاً ما عن وقوفها خلف الشجرة في الصورة الوحيدة. كانت لا تزال مكانها حين راح يخطو، في طريقة الى الباب، ومن خلف النافذة المغلقة، رأت ظله يتأرجح فوق الدرج ثم يختفي.