مضى أكثر من ربع قرن على الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1993) وتبعتها الانتفاضة الثانية (2000 - 2005)، إلى أن اندلعت مؤخرا مرحلة ثورية جديدة من أبرز أدواتها استخدام السكاكين، بدلا عن الحجارة والكلاشنكوف. وإن كانت وما زالت الأحوال المزرية للفلسطينيين تحت الاحتلال، واستمرار حرمانهم من أبسط حقوقهم السياسية أسوة بشعوب العالم الأخرى، هي التي تدفعهم -بصورة أساسية- للمقاومة، إلا أن ما يجمع بين انتفاضة الحجارة الثانية وانتفاضة السكاكين الحالية، هو الانتهاكات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ومحاولات الصهاينة تدنيسه والاعتداء على المصلين فيه ومنعهم من ممارسة شعائرهم والتخطيط لتقسيمه زمانيا ومكانيا بين المسلمين واليهود، من أجل الاستيلاء على باحاته البالغ مساحتها أكثر من 140 ألف متر مربع، تمهيدا لإقامة هيكلهم المزعوم. بخلاف الانتفاضات السابقة، فإن انتفاضة السكاكين الحالية تندلع في وقت بالغ الحرج، بالنسبة لأي مقاومة فلسطينية فعالة في محيط مدينة القدسالمحتلة. لقد اجتمعت الأضداد معا ضد الفلسطينيين في القدس، وبقية الأراضي المحتلة. هناك إصرار حكومة نتنياهو على تغيير جغرافية وديموغرافية القدسالمحتلة، في مقابل ما يظهر من فتور عربي وإسلامي، دعك من القول بوجود اهتمام دولي، بما يحصل في القدسالمحتلة ولها. لقد اختلفت أولويات العرب فيما يخص أوضاع المنطقة، بل حتى موقفهم من قضية أمنهم القومي، ووجود إسرائيل -نفسها- في قلب العالم العربي. لقد تفككت الجبهة الأمامية العربية في مواجهة إسرائيل، بما يتجاوز أحلام الدولة العبرية بمراحل. لم تنهر الجبهة الأمامية العربية، جراء اتفاقات السلام بين إسرائيل، وكل من مصر والأردن، بل إن ما بقي من تلك الجبهة تفكك داخليا وبعنف، مثل ما حدث للعراق بعد الغزو الأمريكي 2003.. وما يحدث في سوريا الآن من حرب أهلية مدمرة جعلتها مرتعا لتدخلات إقليمية ودولية خارجية، حتى أضحى مصير سوريا (الجبهة والدولة) معا على المحك. لقد أضحت إسرائيل تنعم بميزة تواري الشعور بخطرها عربيا، إلى مراتب تسبقها فيه قوى إقليمية وجماعات غير نظامية تعمل معا على تفكيك آخر دفاعات العرب الأمامية.. وتهدد أمن واستقرار الخط الثاني من المواجهة العربية ضد إسرائيل شرق السويس. هذا الوضع الجغرافي على الأرض الذي فرض تواري خطر المتغير الإسرائيلي على الأمن القومي العربي، انعكس سياسيا ودبلوماسيا على الفلسطينيين والعرب، على حد سواء. هناك خلاف أزلي فلسطيني فلسطيني على كيفية مواجهة الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين كلها، بما فيها القدسالمحتلة. السلطة الفلسطينية تبدو أنها متمسكة بخيار «الحل السلمي»، حتى مع تعنت حكومة نتنياهو.! لقد ذهبت السلطة الفلسطينية الى تصنيف الانتفاضة الحالية في القدس بأنها أعمال إرهابية! بينما ضاعفت إسرائيل من إجراءاتها القمعية ضد الفلسطينيين بصورة منظمة، حتى إنها تبيح لقوات الاحتلال استخدام الرصاص الحي لقمع مسيرات الفلسطينيين السلمية، دفاعا عن المسجد الأقصى.. وكذا تشديد سياسة العقاب الجماعي ضد الفلسطينيين في القدسالمحتلة، والضفة الغربية. العرب، بدورهم مختلفون على إدارة أزمة التصعيد الإسرائيلي في القدسالمحتلة. عدا بيان هزيل من أمين الجامعة العربية يدين فيه ما وصفه بانتهاكات إسرائيل في القدس، ويهدد فيه بتصعيد الأمر في الأممالمتحدة! إلا أن الأمر في حقيقته يشير إلى أن هناك خلافا بين دول الجامعة حول التعامل تجاه ما يحدث من تصعيد إسرائيلي يهدد وضع المدينة المقدسة... هذا الخلاف العربي العربي، حول ما يحدث في القدس، يتماشى مع ما يحدث من خلاف بين العرب حول ما يحدث -هذه الأيام- جراء التدخلات الأجنبية في مناطق عربية أخرى. لقد فشل العرب في عقد اجتماع لوزراء الخارجية العرب في مقر الجامعة، لأنه كان من المستحيل الخروج ببيان موحد قوي ضد إسرائيل ودعما للفلسطينيين، في القدسالمحتلة! بدلا من أن يذهب العرب موحدين للأمم المتحدة في ظل موقف جماعي يصدر من الجامعة، نجدهم يلجأون إلى مجلس الأمن، بدعوة من ما سمي بالمجموعة العربية لمناقشة الوضع في القدس! وإعادة الجدل في المطالبة بحماية دولية للفلسطينيين في الأراضي المحتلة! بينما هم يعرفون أن مثل هذه المناورات في مجلس الأمن مصيرها الفشل، بسبب الحماية السياسية والدبلوماسية التي توفرها الولاياتالمتحدة لإسرائيل. وما يقال عن الجامعة العربية يقال أيضا عن منظمة التعاون الإسلامي، حيث فشل مسعاها في عقد اجتماع لوزراء الخارجية.. وكذا ما أعلنته من عزمها الدعوة لعقد قمة استثنائية، من أجل القدس. في النهاية يعرف الفلسطينيون في القدس والأراضي المحتلة أن عليهم ألا ينتظروا الدعم والمدد من الآخرين، بمن فيهم ساستهم في رام الله. عليهم أن يحملوا قضيتهم بأيديهم.. وأن يتعاملوا مع عدوهم بالطريقة التي تجبره على احترامهم والانصياع لمطالبهم، فهذا قدرهم بما شرفهم الله أن يظلوا في رباط بين أكناف بيت المقدس إلى أن تقوم الساعة. لقد استمرت الانتفاضة الأولى سبع سنوات حتى جاءت نهايتها على يد اتفاقات أوسلو سبتمبر 1993، والانتفاضة الثانية استمرت خمس سنوات وانتهت باتفاق التهدئة بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء الإسرائيلي، حينها، إيريل شارون في مؤتمر شرم الشيخ فبراير 2005. وفي كلا الانتفاضتين لم يقترب الشعب الفلسطيني من تحقيق مطالبه المشروعة في إنهاء الاحتلال، وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس... ولا حتى حماية المسجد الأقصى من عبث الصهاينة وضمان ممارسة المسلمين لشعائرهم فيه، بعيدا عن مضايقات وعنف أجهزة القمع الإسرائيلية. بالرغم من حرج موقف الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، خاصة في القدس، في ظل هذه الظروف البالغة الدقة التي تمر بها قضيتهم، فإنه يبدو أن ليس هناك من خيار أمامهم سوى مواصلة ملحمتهم الثورية الحالية حتى يحصلوا على حقوقهم كاملة، بعيدا عن الآخرين... بل وبعيدا عن العالم بأسره.