العقل العربي لا هو بالمصاب ولا هو بالمعافى. فالأحداث الماضية القريبة. تدل الى ان هذا العقل لا يزال غارقاً في الحقد والشكوك وعدم الثقة، وتفكير يعاني من مخاوف، بعضها واقعي وبعضها وهمي، ويكتنفها الخداع والخيانة. كما ان التفاعلات والتعاملات السياسية والاجتماعية اليومية بين العرب تتأسس على الاعتقادات الراسخة التفكير والأسلوب في التعامل مع الآخرين، بأن الصدق هو ممارسة الكذب بعينه، وان الشطارة تكمن في غش البسطاء، والعدل يعني تجريم الأبرياء، بينما العدالة الحقة هي تبرئة المذنبين. ويستخدم التدين كشعار للتفاني والاعتزاز بالنفس، الا انه في واقع الأمر هو التعصب بعينه يرتدي معطفاً طويلاً من التظاهر بالتقوى والفضيلة. لا شك في ان هذه الحال من القلق النفسي المتفشي بين أفراد الشعب يتجسد في الغضب الواضح من دون أي خجل. ويبدو اليوم ان العقل والروح عند العرب يعيشان ظاهرة «باومان» الأخلاقية، أي انها تدفع الشخص لأن يعيش خارج الأحاسيس والمشاعر البشرية الطبيعية وترمي به في عالم اللاإنسانية. لذا فإن موت وتلاشي الصفات والمزايا الإنسانية انما تدفع الفرد الى حالة روتينية خالية من القيم الأخلاقية والمثل الإنسانية ويبينان العداء المتعمد المستفحل في النفس بحيث يصبح الحقد، وكذلك القتل وغيره من أشكال العنف، أمراً مقبولاً، بل يمارسه المجتمع من دون تردد أو خجل أو وجل. لكننا نعلم ان الحقد مصدره الشعور بالخوف من الآخرين والقلق النفسي، في حين نجد ان أولئك الذين هم على يقين من هويتهم يتعرفون اكثر من غيرهم على الحقد والكراهية. العقل العربي يكره الأشخاص الواثقين من هويتهم، لأن ذلك يقلل من شأن ثوابته التاريخية الوهمية ويهدد بكشف الفوضى والبلبلة المستفحلة في مجتمعه أضف الى ذلك بأن عدم وجود المحاسبة الأخلاقية يحول الفرد الى العيش في حال من البدائية والتوحش. هذا.. ويمكننا تفسير العيش بأسلوب غير متحضر وممارسة اللامبالاة الأخلاقية بعدد من العوامل، مثل اعتماد العنف في تربية الأطفال، والعادات المتزمتة وغير المتعاطفة والخالية من الرحمة بين العائلات. وفي تقاليد المجتمع والتقليل من أهمية الفرد بتهميشه، والتطرف الديني والخوف من التغيير، والشعور المستمر بعدم الأمان والطمأنينة والاستقرار، الى جانب أنظمة حكم مستبدة وعزل للمجتمعات. تراكم هذه العوامل مجتمعة يخلق بيئة راكدة متحجرة ينتج منها تراكم الجهل والتخلف والتزمت والتطرف الديني والآراء الرجعية ليتوارثها المجتمع من جيل الى آخر. كأننا في مجتمع مريض حيث يتخاصم أفراد الشعب من دون ان يتمكنوا من تبين الأسباب الجذرية ليميزوا بين من هو عاقل ومن هو غير عاقل. وبين الالتزام بالتقاليد والانطلاق الى التجديد والتحديث، وبين العنف الذي يقابله التصالح والتسامح، وبين الطاعة التي يقابلها العصيان، وبين الفوضى التي يقابلها النظام، وبين العدالة التي يقابلها الإجحاف في حقوق الناس. وقد أثبت «الربيع العربي»، والذي يجدر بنا ان نسميه «الألم العربي»، ان كل عربي يعمل لنفسه، وان المصلحة لا تعني شيئاً بالنسبة لذاته الشخصية، أي الذات المفضلة. ولكن الشخصية العربية لم تحتفظ إلا بالقليل من السمات الإيجابية الأصيلة التي تبرر كيان الإنسان. لذا اصبح من المحتم على كل عربي ان يبني أساساً جديداً من الفكر الأخلاقي، ويتبنى صرحاً جديداً من المقومات الشخصية والهوية التي تعتمد على الفكر الأخلاقي العالمي وليس على الأساطير. عليه ان يتحمل مسؤولية تصرفه ويقر بأخطائه ويعمل على تحقيق حسن النية في التعامل مع الآخرين. الفراغ السياسي والحرمان الأخلاقي واللامبالاة التي كونت الشخصية العربية على مر الزمن، جعلته معزولاً عن الإنسانية وخلقت فيه حقداً مستديماً. ولكن، حالما يتخلص المواطن العربي من الحقد على نفسه والتخلص من هويته الزائفة، سينمو فيه الشعور بالثقة ويكتنفه الإحساس بالأمان والطمأنينة والاستقرار. وهذا بدوره يشجع على تنمية افراد أصحاء معافين من التطرف الإيديولوجي والتشاؤم التاريخي، ليكون العرب قادرين على مسايرة الإنسانية في تقدمها نحو الأفضل. كما ان الحوار مع الآخر لن يتحقق الا عندما نتخلى عن فكرة ان الآخر يشكل مصدر تهديد لنا، ويجب ان يتحرر العقل العربي من الادعاء بأن رؤيته هي العقيدة الأكيدة والصحيحة للطريق الذي يجب ان يسلكه الناس جميعاً.