شهدت الكويت الأسبوع الماضي حادثة إطلاق نار ذهب ضحيتها عدد من رجال الأمن الكويتي، في تطور أثار لدى الناس في المنطقة تساؤلا عما إذا كانت حوادث الإرهاب الأخيرة في المملكة العربية السعودية قد شهدت امتدادا خطيا باتجاه دول أخرى في الخليج قد لا تكون الكويت آخرها . ولكن بغض النظر عن ماهية الإجابة أو الاستشراف المستتبع لهذا التساؤل، فإن ما يمكن قوله والتأكيد عليه هو أن الإرهاب، أو لنقل العنف الداخلي المليشياوي المرتدي عباءة الدين، قد أضحى أحد المتغيرات الكبرى في بيئة أمن الخليج، ليس على الصعد الوطنية وحسب، بل على الصعيد الإقليمي العام . هذا ما سوف نحاول البحث فيه على مدى ثلاث حلقات، بيد أننا سنبدأ بإطلالة على بعض المصطلحات والمقولات ذات العلاقة . يقول ابن منظور في لسان العرب إن التعصب "هو أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبيته والتألّب معهم على من يناوئهم ظالمين كانوا أو مظلومين" . والتعصب قد يكون تعصبا للذات الفردية أو الجمعية، وفي الحالة الثانية، يكون التعصب لفئة على حساب أخرى أو على حساب كل الآخرين . ولا يختلف هذا التعريف في شيء عما قدمه لاحقاً علم النفس حول التعصب، إذ أن التعصب من وجهة نظر علم النفس هو ميل انفعالي يفرض على صاحبه أساليب وطرق في التفكير والإدراك والسلوك تتفق مع حكم بالتفضيل أو عدم التفضيل لشخص أو جماعة. وهذا الحكم يكون سابقا لوجود دليل منطقي أو دون دليل إطلاقا. وهو غير قابل للتغير بسهولة رغم توفر البراهين المنطقية المعارضة التي تشير إلى عدم صحته لأنه ينطوي على نسق من القوالب النمطية. أي تصورات تتسم بالتصلب والتبسيط وكذلك بالتعميمات المفرطة عن جماعة معينة وفي أغلب الحيان مختلفة. ويقودنا هذا إلى مصطلح آخر، هو "الجمود الذهنيّ"، الذي يعرّف علم النفس بأنه "عجز المرء عن تغيير وجهة نظره ووضع نفسه مكان الآخر لفهمه وتفهم رأيه". وبما أن الفرد لا يستطيع العيش دون تواصل مع الآخرين، فسوف يبحث المصاب بالجمود الذهني عن آخرين غير مختلفين عنه، يشبهونه ولا يمارسون عليه أي ضغط أو نقد وسوف يجدهم في عشيرته أو حزبه. والصورة التي تنطوي عليها هذه العلاقة هي صورته وقد عززها ودعمها وبررها الآخرون. وهي صورة نرجسية مطمئنة. ويشكل هؤلاء الآخرون امتدادا يكاد يكون بيولوجيا للأم الحامية ويلعبون دور "الحضن الطيب" - حسب تعبير ميلاني كلين. كما يمثل الآخرون مجموعة يحاول من خلالها الفرد إعادة بناء "نحن جماعية". وداخل هذه المجموعة المتشابهة الباحثة عن الأمن والأمان (المتسمرة في الحنين إلى حضن الأم الطيبة) يسود التماثل ويطغى النقاء، فهذه المجموعة تجسّد النظام الطبيعي للأشياء وكلّ من ينحرف عنها (الدخيل "الغريب" المختلف) أو يحتجّ على معاييرها، أي على أوامرها ونواهيها، يمثل خطراً على نظام المجتمع ويسبب الفوضى والفساد. وتشعر هذه المجموعة أنها مهددة نرجسياً عندما يخاطر احد بمناقشة قناعاتها أو بإبراز نقاط ضعفها، التي تفضل إخفاءها حتى على نفسها عندما تعمل بعناد شديد للمحافظة على صورتها المثالية. ومن وجهة نظر المنهج النفسي، يتحول الأتباع المتعصبون إلى أبناء روحيين عوضوا أناهم المثالي بصورة الزعيم السياسي أو الديني الذي أصبح أبا اجتماعيا والذي يفترض انه يحبهم محبة متساوية. ويقود التعصب والجمود الذهني إلى خطر أكبر فداحة هو الجنوح إلى العنف بغرض إثبات الذات وتحقيق ما لا يمكن تحقيقه بقوة الحجة والمنطق . ويمكن النظر إلى العنف باعتباره مصطلحا متعدد المضامين، وليس ثمة تعريف جامع يمكن اعتماده للدلالة عليه . بيد أن الثابت هو أن العنف مشكلة معقَّدة يسبِّبها التفاعل بين العديد من العوامل البيولوجية، والنفسية - الاجتماعية، والبيئية. وتشير الدراسات الاجتماعية - السيكولوجية إلى وجود فروق أو اختلافات بين البشر فيما يتعلق بالميل في المشاركة في أحداث العنف، ويعتبر السن من الخصائص الرئيسية التي تحدد درجة هذا الميل . إن الإنسان في مرحلة الشباب يكون أكثر ميلا للمشاركة في أعمال العنف، ويرجع ذلك بالأساس إلى عدة اعتبارات منها الخصائص السلوكية والنفسية لمرحلة الشباب . يضاف إلى ذلك أن الشباب طاقة وقوة واندفاع، ومن ثم يتسم سلوكه السياسي بالخيالية والمثالية ورفض الواقع والسعي للتغيير .وإن مشاهدة الطفل للعنف في المنزل أو تعرّضه هو نفسه للأذى البدني، مثلاً، قد يولِّد لديه الميل إلى العنف في مراهقته، إذ إنه قد ينشأ معتقداً أن العنف يمثِّل استراتيجية مقبولة لحل ما يكون بين الأشخاص من مشكلات. وفئات العنف الرئيسية الثلاث هي: العنف ضد الذات، والعنف ضد الآخر، والعنف الجماعي. ويقسَّم العنف الجماعي إلى ثلاث فئات رئيسية هي: العنف الاجتماعي، والعنف السياسي، والعنف الاقتصادي. أما العنف الاجتماعي فهو العنف الذي يُرتكب لدفع مخطَّط اجتماعي معيَّن قُدُماً، مثل الجرائم التي ترتكبها جماعات منظَّمة بدافع الكراهية والحقد، والأعمال الإرهابية، وعنف الغوغاء. وأما العنف السياسي فيشمل الحرب، والعنف الذي تمارسه الدول، وأمثال ذلك مما ترتكبه مجموعات ذات توجُّهات سياسية معيَّنة. وأما العنف الاقتصادي، فيشمل الغارات التي تشنُّها جماعات كبرى لتحقيق كسب اقتصادي، بما في ذلك أعمال الهجوم التي تستهدف تعطيل النشاط الاقتصادي. وهنالك نموذج إيكولوجي يحدِّد العلاقة بين عوامل العنف الفردي، والعنف ضد الآخر، والعنف المجتمعي يمكن استخدامه لتحليل مشكلة العنف وتداعياتها على النُظُم الاجتماعية - الاقتصادية. وإذا انتقلنا من الحديث عن العنف إلى الحديث عن الإرهاب، فإن المصطلح الأخير، حاله كحال العنف، لا تعريف جامعاً له، بل إن المضامين الأيديولوجية والمعايير الحضارية المتباينة تلعب دورا بارزا في نسج تعريفه وبيان محدداته . وقد ظهر الإرهاب كمصطلح إلى حيز الوجود إبان الثورة الفرنسية 1789- 1799حين تبنى بعض الثوريين الذين استولوا على السلطة في فرنسا سياسة العنف ضد أعدائهم، وعرفت فترة حكمهم باسم "عهد الإرهاب". وقد أورد المجمع الفقهي الإسلامي، في بيان أصدره اثر اجتماع مجموعة من العلماء في الرابع من كانون الثاني - يناير من العام 2004، تعريفا للإرهاب على أنه "العدوان الذي يمارسه أفراد أو جماعات أو دول بغيا على الإنسان: دينه ودمه وعقله وماله وعرضه، وانه يشمل صنوف التخويف والأذى والتهديد ويهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس أو ترويعهم أو تعريض حياتهم أو حرياتهم أو أمنهم للخطر، ويعتبر إلحاق الضرر بالبيئة أو بأحد المرافق والأملاك العامة أو الخاصة أو تعريض احد الموارد الوطنية أو الطبيعية للخطر والقتل بغير حق وقطع الطريق إرهابا". وكان جان سرفيه قد عرف الإرهاب بأنه سلوك "يجمع في طياته أعمال العنف المرتكبة من قبل فرد أو مجموعة من الأفراد ضد ضحايا يتم اختيارهم عشوائيا بهدف تأكيد قوة معينة وإرادة خفية ببثها التخويف والرعب الذي ما يلبث أن ينتشر بسرعة وتصيب عدواه كافة أصناف المجتمعات". ويقدم سرفيه بهذا الصدد الأمثلة المستمدة من أعمال الإرهاب التي مارستها القوى المتصارعة خلال وبعد الثورة الفرنسية وعلى مختلف ساحاتها الدموية. وهو يحدد بالتالي استراتيجية الرعب بأنها تلك التصرفات التي تمارسها المجموعات الإرهابية بهدف " الحصول على قرارات سياسية واجتماعية بالقوة أو بالتهديد وذلك بوضع الأراضي والمؤسسات أو فئة معينة من المجموعات البشرية أو كلها داخل جو ينعدم فيه الأمان ويولد فيه الرعب المتواصل الذي يؤدي إلى تفكك السلطة نتيجة لعدم تمكنها من وضع حد للإرهاب. وإلى تدمير هيكلية الدولة بتعطيل مؤسساتها عن العمل وبحيث ينتج عن ذلك فتح الطريق أمام الفوضى التي لا يمكن بدونها أن تصل حتى ولو إلى جزء بسيط من أهدافها". ويعرف قانون العقوبات المصري الإرهاب بأنه "كل استخدام للقوة أو العنف أو التهديد أو الترويع يلجأ إليه الجاني لتنفيذ مشروع إجرامي فردي أو جماعي يخل بالنظام العام ويعرض امن المجتمع للخطر، بإيذاء الأشخاص أو إلقاء الرعب بينهم وتعريض حياتهم وحرياتهم للخطر وإلحاق الضرر بالبيئة أو بالاتصالات أو المواصلات أو الأموال أو المباني أو بالأملاك العامة والخاصة، أو احتلالها أو منع ممارسة السلطات العامة أو استخدام دور العبادة ومعاهد العلم، أو تعطيل تطبيق الدستور أو اللوائح". وعرف الأميركيون في مراجعهم العسكرية الإرهاب بأنه: "الاستخدام المحسوب للعنف أو التهديد باستخدامه لإكراه المواطنين أو الحكومات أو الأفراد على تلبية مطالب الإرهابيين التي قد تكون سياسية أو دينية أو أيديولوجية في طبيعتها، ويشمل الأعمال الإجرامية التي قد تكون رمزية في طابعها أو مقصودة لإحداث خسائر بشرية أو مادية". وقدمت لجنة القانون الدولي في العام 1984تعريفا للإرهاب الدولي على أنه "أعمال العنف التي تحتوي على عنصر دولي، وتوجه ضد المدنيين الأبرياء، أو من يتمتعون بحماية دولية، والتي تنتهك القواعد الدولية وتثير الفوضى والاضطراب في بنية المجتمع الدولي، سواء في زمن السلم أو وقت الحرب". وعادة ما يستخدم "الإرهاب" كمصطلح مرادف ل"العنف"، بيد أن الأمر ليس كذلك بالمعايير العلمية البحتة، فالعنف أكثر شمولية من الإرهاب، بل يمكن القول بشيء من الحذر أن الثاني إفراز للأول، أو لنقل أنه التجلي المادي الأبرز له . وبدوره يستخدم التطرف كمرادف للإرهاب، وهو في الحقيقة نعت لأحد مضامينه، كأن نقول تطرف سياسي أو تطرف اجتماعي، ونقصد به إما المغالاة في تفسير مقولات سياسية أو اجتماعية معينة، أو استخدام الإكراه في السعي لنشر هذه المقولات والترويج لها. وثمة خيط رفيع يفصل بين مصطلحي التطرف والتعصب بالمدلول الفلسفي البحت، ولكن لا طائل هنا للخوض في ذلك . وهكذا، نحن بصدد أربعة مصطلحات هي العنف والتعصب والتطرف والإرهاب. و"العنف" هو المفهوم الذي يرتكز عليه، أو ينبع منه، أو يتجلى فيه الإرهاب والتطرف . كما أن التعصب قد يكون صفة مصاحبة إلى العنف أو مندمجة فيه، وقد يكون، وهذا هو الأهم، خلفية له . وفي هذه الحالة يكون التعصب أيضا منبتا لكل من التطرف والإرهاب . الأصولية والإسلاموية بقى أن معظم المقاربات الدولية الخاصة بالإرهاب قد جاءت، بالنسبة للشرق الأوسط والعالم الإسلامي بصفة عامة، في سياق الحديث عن جماعات "الإسلام السياسي"، إن صح التعبير . وهو الأمر الذي قاد إلى خلط واسع بين حدود ما هو سياسي وما هو ديني . بين ما ينبع من تصورات مرتبطة بمفاهيم ومقولات دينية، أو مؤولة دينياً، وبين ما ينبع من أهداف وتطلعات سياسية بحتة . وتلك إحدى أكثر المعضلات التي تواجهها المقاربات الدولية في هذا الصدد . كما وقعت الكثير من هذه المقاربات في حالة من التيه التحليلي والاستقرائي عند دراسة الأصول والخلفيات الخاصة بهذه الظاهرة، إذ لم تستطع وضع معالم واضحة بين ما هو أيديولوجي وما هو اجتماعي وما هو خليط بين الأمرين، وهنا تاهت النتائج والدلالات من حيث تاهت الخلفيات الاستقرائية، وبالطبع أدوات التحليل . ولقد رأى البعض أن التطرف "الديني" المعاصر استطاع أن يستقطب أعداداً من المؤيدين "بعد أن دخل طرفاً في الصراع السياسي وليس قبله، بسببه وليس لأسباب أخرى، فالصبغة السياسية له هي وحدها التي تغري الأفراد وتثير الجماهير". ويذهب هذا التحليل إلى القول أن حركات التطرف المعاصر هي حركات سياسية قبل أن تكون حركات إصلاح اجتماعي- أخلاقي. فإصلاح هذين الأخيرين لا يحتاج، أو على الأقل يُمكن أن يحدث ويجب أن يحدث بالوعي الاجتماعي، بالضمير الاجتماعي وليس بالسلاح. ومن الصعب تبرير صراع الاتجاهات المتطرفة على السلطة باسم هذا الإصلاح. ويستند هذا التحليل في حقيقة الأمر إلى مقولة ميشيل كورناتون التي ترى أن "المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أسس يقوم عليها المتغير النفسي- الواقعي المحرك للعنف ". والحقيقة أن لا خلاف على أن الإصلاح الاجتماعي والأخلاقي يمكن، بل يجب، أن يتم دون اللجوء إلى السلاح، كما أن الإصلاح السياسي يجب أن يمضي هو الآخر إصلاحا سلميا مدنيا لا دور للعنف ولا للسلاح فيه . بيد أن القول بأن المتغير النفسي هو متغير تابع للمتغير الاقتصادي ينطوي على تحليل مادي بين للسلوك الاجتماعي . بل إن أخذ الخليج العربي كحالة دراسية، أو كعينة للتحليل، من شأنه أن يصطدم بهذه المقولة، التي تمضي إلى القول أنه ليس بوسع المرء الحديث عن "الأصولية المعاصرة" بأمانٍ علمي إلا من حيث اعتبارها مُخرجات Outputs لفترة تاريخية محددة من نمذجة المعايشات الاجتماعية للفرد في إطار من المصاعب والعوائق التي انتظمت وفق ممارسات سياسية واجتماعية مهمِلة للفرد وتوجهاته واحتياجاته المحتملة، وليس كمدخلات Inputs محددة الهوية مجهولة المصدر