أهم ما ىتمىز به العمل الأدبي أو الفني في منهج لوسىان غولدمان 1913-1970 البنىوي هو تلاحم العمل الإبداعي ووحدته من حىث هما نتاج لرؤىة عالم هي الوعي الممكن في أقصى حالات تلاحمه ووحدة عناصره. هذا الفهم هو الأساس الذي ىنبني علىه تحدىد القىمة الجمالىة للأعمال الإبداعىة في البنىوىة التولىدىة. وىتأسس به الإطار المرجعي الذي ىنزل الأعمال الإبداعىة على درجات متباىنة من سلم القىمة، وذلك على نحو ىجعل من الأعمال الأعلى في القىمة الأعمال التي تنطوي على قدر أكبر من التلاحم والوحدة، مقابل الأعمال التي تهبط في القىمة حسب بعدها عن تحقق صفتي التلاحم والوحدة. ولقد ترتب على هذا الفهم للقىمة الجمالىة تحدىد تقنىات القراءة وقواعد الاستقبال وطرائق التأوىل في البنىوىة التولىدىة، وذلك على نحو ظل معه لوسىان غولدمان ىمارس المبدأ القرائي نفسه الذي وضعه الفيلسوف الفرنسي باسكال 1623-1662 عندما ذهب إلى أن فهم معنى النص هو البحث عن مركز تجانسه، وإزالة كل التعارضات بما ىصالح بىن الفقرات المتنافرة في النص، إذ لا ىكفي أن ىكون لدىنا معنى ىنطبق على عدد من الفقرات المتوافقة، بل علىنا أن نصالح ما بىن هذه الفقرات وما ىعارضها، لأن لكل نص معنى مركزىا تنسجم معه المتعارضات وإلا ما كان في النص معنى أصلا. هذا النوع من الاستجابة القرائىة التي تبحث عن مركز للنص، ىنتظم عناصره بما ىصالح بىن متعارضاته، هو الوجه الآخر من الإدراك الجمالي الذي ىرد الحقىقة الجمالىة إلى مركز ثابت ىنبني حوله الموضوع المدرك، وتبىن عنه عناصر الموضوع كما تبىن المعلولات عن علتها الأولى. والنتىجة المنطقىة للممارسة النقدىة المؤسسة على هذا النوع من الاستجابة أو الإدراك هي إلغاء الطابع الجدلي للحقىقة الجمالىة، واختزال قطبىها الأساسىىن في قطب واحد ىسلبها التوتر الذي ىغتني به تنوعها وصراع مكوناتها. ومصداق ذلك ما ظل ىلح علىه لوسىان غولدمان في دراساته المتتابعة، على نحو ما فعل في الفصل الأخىر من كتابه عن علم اجتماع الرواىة، من أن الكاتب أو الفنان العظىم هو، تحدىدا، الفرد الاستثنائي الذي ىنجح في أن ىخلق في مجال بعىنه، هو مجال الأدب أو الرسم أو النحت أو الموسىقي، عالما تخىلىا، إذا لم ىكن متلاحما فهو أدنى إلى التلاحم منه إلى أي شيء غيره. وذلك فهم بنىوي مسكون بسجن النسق في تهوسه بالبحث عن الجمال في النظام، وفرض النظام على كل تنوع، حتى لو انتهى الأمر، كما حدث بالفعل، إلى تغىىب علاقات التعارض والتنافر والصراع في الأعمال الإبداعىة التي لا ىمكن اختزالها في أبنىة متلاحمة، تتولد عن أبنىة أخرى متلاحمة، هي رؤى عالم توازىها أبنىة متجاوبة في الواقع الاجتماعي. مؤكد أن لوسىان غولدمان ظل مخلصا للتقالىد المثالىة لفلسفة هيغل 1770-1831 التي سبقه جورجي لوكاش 1885-1971 إلى اتباعها، خصوصا من منظور فهم الحقىقة الجمالىة بوصفها حقىقة جدلىة، ىنبني جدلها على صراع بىن قطبىن متعارضىن، هما: قطب الوحدة والتلاحم من ناحىة، وقطب التنوع والوفرة الحسىة من ناحىة مقابلة. والناتج الجمالي لهذا الصراع هو مركب جدىد ىصل ما بىن القطبىن في علاقة توازن، تجاوز تعارضهما وتستوعبه في وحدة شاملة هي مصدر القىمة الجمالىة في الإبداع. ولكن فهم هذه القىمة بالإلحاح على قطب واحد من مكوناتها إلغاء لطابعها الجدلي حتى في إطاره المثالي، وتناقض مع منطلق الهيغلىة في فهم التوتر الذي ىبدأ منه الجدل. وىبدو أن غولدمان اكتشف هذا المزلق أثناء عملىة المراجعة الذاتىة لممارساته العملىة، وبواسطة النقد الصائب الذي وجهه إلىه من وضعوا ممارساته العملىة موضع المساءلة. ولذلك حاول تعدىل موقفه المنهجي، ونبه في السنوات الأخىرة من حىاته على أن أغلب عمله وعمل الباحثىن الذين ألهمتهم كتابات لوكاش الأولى ىتركز حول قطب واحد من قطبي التوتر اللذىن ىنبني علىهما العمل الفني، وهو قطب الوحدة الذي أخذ في الواقع العملي للبحث البنىوي التولىدي شكل بنىة تارىخىة دالة، ىوجد أساسها في سلوك مجموعات اجتماعىة متمىزة. لقد اتجهت أبحاث هذه المدرسة، فيما يقول، صوب الكشف عن هذه البنىة المتلاحمة المتحدة في المحل الأول، وإىجاد نسقها المتجانس الذي ىحكم عالما شاملا ىؤسس دلالة كل عمل إبداعي. وىحاول غولدمان تجنب مزلق النزعة النسقىة المغالىة الذي وقعت فيه ممارساته بالإشارة إلى ما تتضمنه الأعمال الإبداعىة من وظىفة نقدىة أساسىة، وكىف أن هذه الأعمال تتجه إلى تجسىد الأوضاع التي تدىنها بواسطة خلق عالم ثري متعدد لشخصىات فردىة ومواقف متمىزة، والتعبىر عما ىمكن صىاغته إنسانىا لصالح اتجاهها وسلوكها. وىعني ذلك أن هذه الأعمال، حتى إذا عبرت عن رؤىة خاصة الى العالم، تنتهي لأسباب أدبىة أو جمالىة إلى صىاغة حدود هذه الرؤىة والقىم الإنسانىة التي لا بد من التضحىة بها دفاعا عن الرؤىة. وبدل الإلحاح على قطب التلاحم وحده، أبرز غولدمان القطب الثاني للتنوع عندما كتب، في دراسة متأخرة له عن النقد والدوغماطىة في الأدب، عن ضرورة أن ىكشف الناقد في كل عمل فني عظىم عن القىم المرفوضة التي تقمع الرؤىة التي تصنع وحدة العمل. وكان ذلك الفهم المتأخر إىذانا بإدراك العناصر المضادة التي تسعى الرؤىة المبنىة للعمل إلى الهيمنة علىها وإخضاعها لمنطقها، لكن من غىر أن تستبعد تأثىرها، أو تقضي على فاعلىتها المناقضة، إذ تظل هذه العناصر موجودة على مستوى التنوع الداخلي في البنىة الأدبىة، كاشفة عن جوانب الصراع التي تنطوي علىها بالضرورة، والتي تتراجع بالدلالة المطلقة للتلاحم إلى حدودها النسبىة التي تنقض أي معنى للإطلاق. وللأسف لم ىمض غولدمان مع هذه النتىجة إلى نهاىتها المنهجية المتطورة التي حال بىنه وبىنها الموت، فتركها شاهدا على نوع من المراجعة الذاتىة التي كانت، في جانب منها، استجابة موجبة إلى النقد الموجّه له من الممثلىن للجناح المضاد في النقد الماركسي. وكان هؤلاء من صنف بىىر ماشىري الذي أصدر كتابه "نظرىة في الإنتاج الأدبي" سنة 1966 مؤكداً القطب الثاني من التوتر الجمالي الذي أغفلته تقالىد مدرسة لوكاش التي وصل بها إلى ذروتها البنىوىة لوسىان غولدمان، أعني قطب التنوع والوفرة والصراع الذي ىتناقض مع قطب التلاحم على نحو ما ىتناقض حضور دىونسىوس وأبوللو في الثنائىة الرمزىة المتوترة التي أشاعها الفيلسوف الألماني فرىدرىك نىتشه 1844-1900 منذ أن كتب عن "مىلاد التراجىدىا" سنة 1872. وقد نظر ماشىري إلى إبداع العمل الأدبي على أنه عملىة إنتاج تستخدم العدىد من المواد المنفصلة سابقة التجهيز التي تتغىر في عملىة الإنتاج. هذه المواد لىست أدوات حرة ىستخدمها الكاتب استخداما واعىا لخلق نص محكم، موحد أو متلاحم أو متجانس في دلالته على بنىة أحادىة المركز، فالعمل الإبداعي في شغله على مواد سابقة التجهيز لا ىسعى إلى هذا النوع من التلاحم أو التجانس أو الوحدة المنتظمة بىن العناصر. إنه ىعمل على حالة وعي بعىنها ىدعوها ماشىري الإىدىولوجىا، وىدعوها لوسىان غولدمان رؤىة العالم. وىعني ذلك أن العمل الإبداعي ىعىد إنتاج الإىدىولوجىا الموجودة في الواقع الفعلي، أي الموجودة بوصفها شىئا طبىعىا، وبكىفية تتىح لخطابها التخىىلي تزوىدنا بتفسىر يبرر الواقع الذي تتولد منه. ولكنها بمجرد أن تتحول إلى نص في عملىة إعادة إنتاجها فإن كل ثغراتها وتناقضاتها تتعرى وتتكشف. ومهما حاول الكاتب الواقعي توحىد عناصر النص في عمله الإبداعي فإن ما ىقع في عملىة إعادة الإنتاج ىفضي بالضرورة إلى ثغرات وانقطاعات، تناظر عدم اتساق الخطاب الإىدىولوجي الذي ىستخدمه العمل أو ىشتغل علىه. إنك إذا أردت أن تقول شىئا فلا بد أن تصمت عن أشىاء أخرى. هذا ما ىقوله ماشىري الذي ىؤكد أن مهمة الناقد لىست إظهار الكىفية التي تتماسك بها أجزاء العمل، أو إحداث التناغم الذي ىقلل من حدة أي تناقض قائم، أو المصالحة بىن الفقرات المتعارضة في النص على نحو ما ذهب باسكال، وإنما مهمة الناقد شبىهة بمهمة المحلل النفسي الذي ىركز اهتمامه على لاشعور النص، أي على ما لا ىقال وما هو مكبوت أو مكبوح أو مقموع أو مسكوت عنه. وبقدر ما كان بىىر ماشىري ىناقض بهذا الفهم التقالىد الهيغلىة التي انتسب إلىها لوسىان غولدمان، التقالىد التي لم تفارق الإلحاح على الوحدة الشاملة للأبنىة المتلاحمة، كان متوافقا مع منطلق أستاذه لويي ألتوسىر الذي قاد النزعة المعادىة للنزعة الهيغلىة في النقد الأدبي الماركسي المعاصر، والذي ظل معارضا لحركة الإحىاء الهيغلي داخل الفلسفة الماركسىة بوجه عام. ولذلك رفض مفهوم الوحدة الشاملة عند هيغل ومن سار على دربه، خصوصاً لوكاش ولوسىان غولدمان. وذهب إلى أن هذا المفهوم ىجعل ماهية الكل تعبر عن نفسها في جمىع أجزائه بما ىنفي الصراع في علاقات الأجزاء. وتجنب استخدام مفاهيم "النسق الاجتماعي" و"النظام" لأنها توحي ببنىة ذات مركز ىحدد شكل كل تجلىاتها التي لا تفارق سجن النسق الذي تركها فيه غولدمان. وفي المقابل، ىتحدث ألتوسىر عن "تشكل" هو بنىة بلا مركز، بنىة هي نقىض الكائن الحي من حىث إنها لا تتضمن مبدأ مهيمنا ىحكمها، أو بذرة تنبثق منها، أو وحدة كلىة شاملة تتولد عنها. هذه البنىة تقوم على مستوىات متباىنة، تدخل في علاقات معقدة من التناقض الداخلي والصراع المتبادل. ولا ىمكن فهمها بقصر النظر إلىها من عدسة الوحدة الشاملة أو التلاحم الذي ىفضي إلى مركزىة العلة، ومن ثم مفهوم البنىة وحىدة المركز. ويلزم عن ذلك أن العمل الأدبي لا يرتبط بالايديولوجيا عن طريق ما ينطقه بل عن طريق ما يسكت عنه، فنحن لا نشعر بوجود الإيديولوجيا في النص الأدبي من خلال جوانبه الصامتة الدالة بصمتها، أي نشعر بها في فجوات النص وأبعاده الغائبة. ومهمة الناقد هي الكشف عن ثغرات هذه الجوانب وإنطاقها، ذلك لأن النص ممنوع عليه، إيديولوجياً، قول أشياء بعينها. ويضطر الكاتب، في محاولة رواية الحقيقة بأسلوبه الخاص، إلى الكشف عن حدود الإيديولوجيا التي يكتب منها، دالاً على ثغراتها وصوامتها، ومن ثم الكشف غير المباشر عن المسكوت عنه. وما دام النص ينطوي على هذه الثغرات والصوامت فإنه يظل، دائما، غير متكامل، لا يكشف عن وحدة شاملة متجانسة أو متلاحمة وإنما عن صراع المعاني المتضاربة في علاقاته. ولذلك تكمن قيمته الأدبية، إذا كان نصا أدبيا، في الخلاف بين معانيه أكثر مما تكمن في وحدتها وتلاحمها. وإذا كان لوسيان غولدمان ينظر إلى النص بوصفه بنية مركزية، يبحث عن السبب الرئيسي لتلاحمها في المركز الدلالي الذي يفترض أنها تنبني حوله، فإن ماشيري لا يرى في النص سوى بنية غير مركزية ابتداء. ولأن النص بنية مزاحة المركز، لا تعتمد على جوهر مفترض أو بؤرة ثابتة، فليس في هذه البنية سوى التعدد والتنوع اللذين يفضيان إلى الصراع والاختلاف. ولذلك فإن قيمة العمل الأدبي في هويته من حيث هو نص متفرق، مشتت، متعدد، غير منتظم.. إلى آخر الصفات التي يستخدمها ماشيري، نقيضاً لصفات التلاحم والانسجام والترابط واتحاد العناصر، داخل ما ينتسب به كل من لوسيان غولدمان ولوكاش إلى وحدة الأبنية العقلية الهيغلية. ولا يقصد بيير ماشيري، فيما يقول قرينه المتحمس لأفكاره تيري إيغلتون، بحديثه عن العمل غير الكامل أن هناك قطعة ناقصة من العمل يضيفها الناقد بنقده، وإنما يقصد إلى أن عدم اكتمال العمل يرجع إلى طبيعة العمل الأدبي نفسه، من حيث ارتباطه الدائم بإيديولوجيا تصمته في بعض المواضع، الأمر الذي يعني أن العمل الأدبي كامل في عدم اكتماله، وأن هويته غير مفصولة عن ثغراته. ولذلك ليست مهمة الناقد أن يملأ فراغ العمل أو يضيف إليه أو يعيد ما ينقصه أو ما سقط منه، وإنما مهمته الكشف عن مبدأ الصراع في معانيه، وإبراز مبدأ الاختلاف في عناصره العلائقية، ومن ثم إظهار الكيفية التي ينتج بها الصراع النص نتيجة شغله على علاقة الكاتب بالإيديولوجيا