ظهر علم اجتماع الأدب في الستينات من القرن الماضي من خلال التقاء علم النفس التحليلي والمادية الجدليّة، ووسّع حقل أبحاثه من خلال قبوله أهمية البنيوية كمنهجية بحثٍ وتفسير، مع السعي إلى تجاوزها بغية تفسير العمل الأدبي، في ضوء ارتباطه بالواقع الاجتماعي والسياسي. يُجمع مؤسسو هذا الاتجاه النقدي أمثال كارل مانهايم، وجورج لوكاش، ولوسيان غولدمان، على إقامة الصلة بين الأفكار السياسية والفلسفية والجمالية، وبين المجتمع الذي أوجدها. وقد أصر هؤلاء تمثلاً بعلم الاجتماع الماركسي على اختزال النصوص الأدبية إلى مجرد مفاهيم، وعلى استكشاف روابط متواطئة ما بين هذه المفاهيم وبين مراجعها الاجتماعية. هكذا كان علم اجتماع الأدب يعنى بدراسة المجتمع من دون الاهتمام باللغة، ويُعنى بالمضامين الأدبية من دون الإشارة إلى دور الكلام في الصنيع الأدبي. في كتابه «النص والمجتمع» (المنظمة العربية للترجمة، ترجمة أنطوان أبو زيد) يحاول بيار زيما أن يقلب المنظور بأن يتساءل عن الطابع الألسني للأيديولوجيات والفلسفات والنظريات الاجتماعية، منطلقاً مما قاله الشاعر الفرنسي ستيفان مالارميه في ردّه على صديقه ديغا: «ليس بالأفكار تنظم الأبيات، ديغا، وإنما النظم يكون بالكلمات». علاقات متبادلة يعود الفضل في إقامة رابط ألسني بين الأدبي والاجتماعي إلى الشكلانيين الروس ولا سيما تينيانوف في حديثه عن «العلاقة المتبادلة بين الأدب والسلاسل القريبة منه». وهو أبدى اعتراضه الصريح على أي اختزال للأدب في قول فلسفي أو إيديولوجي، أو ما يعادل البنى المفهومية، التي تحدث عنها هيغل ومن بعده ماركس، وشدّد على الطابع الألسني لهذه العلاقة المتبادلة: «فالحياة الاجتماعية تقيم صلة متبادلة مع الأدب من خلال مظهرها الكلامي في المقام الأول». وتعدّ أعمال غريماس السيميائية أساسية في هذا المجال لكونه أضاف بُعداً نظرياً إلى العلاقة بين الأدب والمجتمع، متمثلاً في قوله إن الفلسفات السياسية والنظريات العلمية إنما هي لهجات، أو بالأحرى لغات داخل اللغة، شأن النصوص الأدبية، وأن التبصّر في علاقة المجتمع بالأدب إنما تتوضّح في ضوء مظهره الكلامي. إذا كان تينيانوف أقام رابطاً ألسنياً بين الأدبي والاجتماعي، فإن ميخائيل باختين هو الذي أرسى قواعد علم اجتماع النقد من خلال نظريته القائلة إن غالبية ملفوظات الخطاب لا يمكن أن تدرك إلا في سياق حواري، من مثل الردود الإثباتية والنقدية، أو تلك المثيرة للجدل بين الخطب المتداخلة للآخرين. وعلى هذا النحو فإنّ خطاب الكاتب، أو بكلام آخر فاعل التلفظ، يتشكل أولاً بالنسبة إلى خطاب الآخر وحضوره. ويستتبع ذلك أن نرى إلى المجتمع على أنه شبكة مترامية الأطراف من العلاقات الحوارية بين الكتّاب وبين خطبهم. وكان سبق لكل من باختين وفولوشينوف أن وصف تعدّد الأصوات المجتمعية والألسنية بالقول: «في الواقع، ليس ما نلفظه أو نسمعه مجرّد كلمات، وإنما هي حقائق أو خرافات، أو هي أمور حسنة أو سيئة، مهمة أو مبتذلة، مستحسنة أو مستكرهة... فلطالما حُمّلت الكلمة مضموناً، أو معنى إيديولوجياً، أو وقائعياً». كلمة «الكوزموبوليتيّة» على سبيل المثال تكتسب في الخطاب الليبرالي- كما يقول صاحب الكتاب- إيحاءات إيجابية في أغلب الحالات، إلاّ أن الكلمة عينها، في الخطاب الماركسي تتخذ معنى سلبياً على نحو واضح. تعّزز علم اجتماع النقد تاريخياً بالإضافات النظرية التي أدخلها الشكليون الروس، ومن بعدهم غريماس وجوليا كريستيفا، والتي أحدثت مفهوم «التناص». ومؤدّى هذا المفهوم أن النص ليس جوهراً منعزلاً عن غيره، وإنما هو تقاطع حواري للنصوص. يعني هذا الأمر أن «المجتمع يتظّهر في النص الأدبي خلال مسار تناصّي هو المسار الحواري الاستيعابي (النقدي، المعارض، المتهكم) الذي تسلكه نصوص المؤلف في تفاعلها مع نصوص المؤلفين الآخرين، وعلى هذا يغدو النص «واقعة اجتماعية». ففاعل التلفظ (الكاتب) لا يحدّد نفسه، باعتباره فاعل الكتابة الأدبية، وباعتباره كائناً اجتماعياً في إطار المؤسسة الأدبية، إلا إذا اتخذ موقفاً واضحاً حيال الخطب الإيديولوجية والفلسفية والدينية والأدبية المنتشرة داخل المجتمع الذي يعيش فيه. أضف إلى ذلك، أنّ الكتّاب لا يكتبون لأنفسهم وحدهم، تحقيقاً لرغبة فحسب، أو من أجل أن يكشفوا النقاب عن أمر مهم ليس إلاّ، وإنما يكتبون كذلك من أجل أن يعرّفوا القراء بكتابة جديدة وسط «الحقل الأدبي»، على ما يقول بورديو، أو لصالح قراءة خاصة يفضلونها على سائر أنماط القراءة. يبدو في ضوء ما تقدم أنّ الكلمات في النصوص الدينية والسياسية والأدبية التي يكتبها الكتّاب، لا تنتج في الفراغ، أو بكل بساطة في سياق سيرة مؤلفيها الذاتية، وإنما تكون محمّلة على الدوام بمحتوى إيديولوجي، يبرز من خلال البحث عن تاريخ الكلمة ووظيفتها في التعبير عن صراعات اجتماعية «إذ يمكن للصراع الطبقي بذاته أن يختزل في الصراع من أجل كلمة، وضدّ كلمة أخرى». فقولنا «رجعي»، و»مرتد»، و»أممي» كما يقول بيار زيما من شأنه أن يعلن عن معجم جماعي ماركسي يمتاز عن غيره من المعاجم. وعندما تنقل الكلمات من المستوى المعجمي إلى المستوى الدلالي، هي تنقل معها مصالح المجتمعات التي تتكلّمها، على حدّ تعبير غريماس، وتوزّعها في «أدوار دراميّة». وبيّن غريماس أيضاً أنّ للخطب السياسية والنظرية والقانونية بنية عاملية يعبّر طابعها الدرامي والجدالي عن الصراعات الاجتماعية، على غرار ما يوجد في النصوص الأدبية من أبطال، وأبطال سلبيّين، ومرسلين ومرسلين سلبيّين، وعوامل مساعدة، وأخرى معاكسة، نجد هؤلاء أنفسهم في الخطب السياسية والفلسفية أو العلمية وهذا ما يبيّنه مؤلف الكتاب في تحليله لنصوص موزيل، كامو، وسارتر. ربط الأدب بالمجتمع عبر اللغة، بدلاً من الكلام على «الموضوعاتية»، أو «المضامين»، أو «رؤية العالم»، أو «إيديولوجيا المؤلف»، هو مشروعٌ قديم تبنّاه عدد كبير من الكتاب، ومن بينهم بيار زيما الذي شرع في تحقيقه منذ سبعينات القرن الماضي. وكان مما وصل إليه من نتائج هو ضرورة تجاوز المجال الأدبي، والاتجاه نحو نظرية في علم اجتماع النصوص الإيديولوجية، والنظرية. وهذا ما يشكّل رابطاً بين علم اجتماع النص وبين السيمياء والبنيوية. وعند هذا الحدّ يتحوّل علم اجتماع النص إلى نقد للخطاب الأيديولوجي، وإلى إبستمولوجيا اجتماعية. وفي موازاة السؤال المطروح «ما هو الأدب؟» يعمد علم اجتماع النقد إلى طرح السؤال الآتي «ما هي النظرية؟». إنه لمكسب نظري وتطبيقي، أن ينشط علم يُركّز على العلاقة بين الأدب والمجتمع. وإنه لمكسب ثقافي أن يترجم هذا الكتاب الذي يثير أسئلة حول علاقة، كاد أن يطويها النسيان في عالمنا العربي مع انهيار الأيديولوجيا الماركسية، وتراجع المادية الجدلية، وتحليلاتها الإنشائية.