لم يتوقع الجزائريون أن يحدث لهم ما يجري هذه الأيام، منذ أن شاركوا في الانتخابات الرئاسية العام 1995 وما بعدها، خصوصاً الانتخابات البرلمانية التي جرت في حزيران يونيو 1997. فالنواب الذين اختاروهم ليمثلوهم في البرلمان مدافعين عن حقوقهم، وتحقيق الحد الأدنى من الحياة الكريمة، صاروا هم أول من يضحي بالشعب من أجل مصالحهم الخاصة. المدهش في كل هذا أنه يتم في شكل قانوني، وتدعمه مؤسسات أخرى، كان من المفروض أن تدافع عن مصالح الشعب، ما دامت تمثل في نظره الملجأ الذي يمكن الاعتماد عليه في الظرف الراهن. ويبدو هذا الحديث نوعاً من المبالغة أو النظرة الخارجية للأحداث، لكن هذا ما يحدث فعلاً. والذين تابعوا جلسات البرلمان على شاشة التلفزيون الجزائري، سمعوا مطالبة النواب أو بالأحرى ما تقدموا به من مطالب بخصوص رفع أجورهم يفوق الحد المطلوب، بغض النظر عن التبريرات التي يقدمها بعض الأطراف. يحصل هذا في وقت نشهد عودة الى الفترة الاستعمارية، من ذلك ظهور أعمال كانت اختفت بعد الاستقلال مباشرة مثل ماسحي الأحذية ومنظفي السيارات والنواطير. ليس هذا فقط، بل حتى أولئك الذي يشغلون وظائف دائمة في الدولة أو في القطاع الخاص يواجهون حالاً من البؤس، حتى أن بعضهم تخلى مُكرها عن خطوط الهاتف، وبعضهم الآخر يعجز عن دفع فواتير الكهرباء، وآخرون لا تكفيهم أجورهم الى أكثر من النصف الأول من الشهر. أمام هذا الوضع كله، نجد النواب في البرلمان يطالبون، وبالقانون، أن تكون أجورهم وملحقاتها ضعف ما يتقاضاه رئيس الجمهورية. وكان الاعتقاد السائد أن مجلس الأمة، الغرفة الثانية في البرلمان، يرفض هذا المطلب على اعتبار أنه يُحدث نوعاً من الخلل الاجتماعي. لكن بدا الأمر عادياً، لأنه سيساعد أعضاء مجلس الأمة على تحصيل أجور ربما أعلى من أجور نواب البرلمان. وإذا كان هذا مقبولاً من جانب بعض الشخصيات التي لا علاقة لها بالتاريخ أو الثورة أو حتى بالنزاهة، فإنه كان من الضروري أن يُرفض من أولئك الذين يحملون إرثاً تاريخياً، ولهم صورة نزيهة لدى عامة الشعب. إذن فليس هناك من تفسير إلا القول بأن الجزائر تمر الآن في مرحلة النهب، نهب القيم، وقبلها وبعدها نهب الأرواح والأعراض، وها نحن نعيش مرحلة نهب أرزاق المواطنين، ويتزامن هذا مع محاولات عدة تحضر مستقبلاً لتنظيم قوانين أسرة وأعلام ومجالات أخرى من أناس تخلوا منذ البداية عن روح تلك القوانين في مقابل إنقاذ مصالحهم الخاصة. وإذا كنا ندرك جيداً التكاليف الحياتية للنواب في ضوء غلاء المعيشة، فإننا نعرف مقابل ذلك أنهم لا يعيشون في جزيرة نائية، وإنما يتعاملون مع مجتمع يعاني معاناة شديدة من سلوكيات الساسة بمختلف آرائهم. وليس أدل على ذلك اختلاف الكتل البرلمانية الممثلة للأحزاب على كل شيء باستثناء مسألة الأجور. لا شك في أن رئيس الحكومة أحمد أويحيى كان واضحاً وكشف لممثلي الشعب حين سمح بنقل جلسات مجلس الشعب الوطني مباشرة على الهواء. غير أن هذا ليس كافياً لأنه لا يتعدى الصراع السياسي بين المسؤولين في شكل أو آخر. وإنما كان من المفروض أن يعود الى الشعب محاولاً بكل ما أوتى من سلطة أن يرفض هذا القانون، الذي لا نعرف مدى دستوريته بعد، وإن كنا ندرك أنه ستكون له انعكاسات اجتماعية، حتى أن البعض يتوقع حدوث مزيد من العنف في الصيف الجاري بسبب هذا القانون. والواقع أن ترك المسألة في أيدي النواب بحجة أنهم يمثلون الشعب هو أمر غير مقبول. فسلطة رئيس الجمهورية أعلى من سلطة البرلمان، لذلك كان من المتوقع أن يتخذ الرئيس اليمين زروال موقفاً بالرفض أو على الأقل بالتقليل من المبالغ المطلوبة، ما دام هو نفسه أعلن عن ممتلكاته قبل الانتخابات الرئاسية، علماً بأن كل مطالبة من طرف هذا الفريق أو ذاك ستؤدي لا محال الى مطالبة كل القطاعات بالزيادة، ولا أعتقد أن أحداً يمكن له أن ينكر حقها في المطالبة. من ناحية أخرى تتحدث مصادر مطلعة داخل السلطة عن تذمر في أوساط القيادات العسكرية مما يقوم به النواب وغيرهم من الذين يستفيدون من الوضع الراهن في زيادة ثرواتهم حتى أن أحدهم قال بمرارة: "لا يعقل أن يموت أفراد الجيش والشرطة والشباب الجزائري بما في ذلك الذين هم في الجبال من أجل أن يحقق بعض الناس مصالحهم الخاصة، إننا على استعداد أن نموت من أجل بقاء الدولة، لا من اجل أن يحل الآخرون كبديل عن الدولة". ولهذه الرؤيا ما يدعمها من الناحية الواقعية، فهناك محاولات جادة لترتيب أوضاع مستقبلية مع قيادات إسلامية مسلحة، حتى أن أحد العناصر القريبة من الانقاذ كشف أن "أحد الأمراء الكبار في الجيش الإسلامي للإنقاذ يجوب شوارع العاصمة في سيارة مرسيدس حاملاً هاتف نقال، ويحظى بحراسة لا يتمتع بها بعض المسؤولين الكبار في الدولة". واضاف: "أن الجبهة الإسلامية للإنقاذ تدرك أنها انتهت، ومن الصعب عودتها على الأقل في الوقت الراهن، لكنها تعمل الآن على تحديد كيفية الخروج من هذا المأزق بتكاليف أقل". وبخلاف الناس فإن المنخرطين في الأحزاب، وبالذات الذين يحومون حول القيادات، يحققون كل يوم مكاسب جديدة، لذلك يتمنون استمرار العنف لأنه يجعل الدولة تقدم مزيداً من التنازلات، وتغض الطرف عن كثير من مظاهر الفساد مثل الرشوة والاختلاس، وغسيل الأموال، وجرائم العرض، بل تغض الطرف عن تلك الشراكة القائمة الآن بين بعض المسؤولين في البنوك، وبعض الاحزاب التي تمول مشاريع من دون أن تكون لها أرصدة أو أموال، في مقابل أن يحقق مسؤولو البنوك أرباحاً من صفقات تتم بأموال الدولة، ولهذا دخلت بعض عناصر الانقاذ اللعبة أيضا. وتكتسح الآن كثيراً من المواقع المهمة في الدولة وبمعرفة الأجهزة نفسها. وهناك تغيير واضح للأدوار، فحل مشاكل المواطنين مثل البطالة يتم على أساس حزبي وليس على أساس دولة تطبق برامج حزبية، وهذه بدائل تعد المشكلة الأساسية مستقبلاً في الجزائر. ويذهب بعض الأحزاب الى استحضار وظائف في الداخل وعقود عمل في الخارج، في مقابل أن يدفع المعني نسبة معينة لحزبه، ولهذا تعد الأحزاب الآن خصوصاً تلك المشاركة في السلطة خليطاً من أصحاب رؤوس الأموال، ومجموعات استغلال القانون. وهذا يتلاقى مع تلك الرغبة الجادة في تدمير الطبقة الوسطى في الجزائر سواء من طرف صندوق النقد الدولي أو من طرف الأثرياء الجدد. عموماً ان هناك تغيراً واضحاً في حياة الجزائريين ليس سببه العنف فقط، وإنما ظهور طبقة جديدة يساندها القانون وتدعمها السلطة. وتحركها سنوات الفقر الماضية، وبذلك يتم تحقيق انتصارات للمرتزقة السياسيين على حساب تلك التحركات الاجتماعية التي بدأت منذ تشرين الأول اكتوبر 1988. إن مكاسب السنوات العشر - إن كانت فيها مكاسب - عادت الى أثرياء جدد ظهروا من خلال عمليات النصب السياسي، يؤكد ذلك مثلاً الملفات السود لكثير من المسؤولين في القاعدة وفي القمة أثبتوا بجدارة أنه بإمكانهم التعايش في كل المراحل. وتظل القوى الفاعلة يطاردها الرصاص والاتهامات وتضييق سبل العيش كالوضع الذي يواجهه الصحافيون هذه الأيام، لجهة أن المؤسسات التابعة لوزارة السياحة تطالب بطردهم من الفنادق التي اعتصموا بها فراراً من الموت، ومن فقر مدقع شمل كل قطاعات المجتمع