ما الذي يجمع عملين فنيين مختلفين في الموضوع والمزاج وأدوات التعبير، سوى ما يمكن لعقل المتلقي ان يزاوجهما فيما يشبه اللقاء الخاطف الذي تنظمه الصدفة؟ شيء مجهول يجعل ذلك التطابق في مدرك يبدو كما اللحظة الضائعة ولكنها راسخة كاليقين. هناك مجرات تتولى تنظيم تلك التخاطرات بين الاعمال الابداعية في ذهن المتلقي، والا كيف لنا ان نرى خلال اسبوع واحد الحال وشبيهه في مسرحية بريطانية وفيلم ايراني: المسرحية عنوانها "اورسولا" لهيوارد باركر، وهو من طليعة الكتّاب السبعينيين في بريطانيا، الف فرقته الخاصة ليكرس طريقته في الاخراج والتأليف، سعياً وراء مسرح يهدم اصول المسرح البريطاني التقليدي حسبما يكتب. والفيلم عنوانه "طعم الكرز" للايراني عباس كياروستمي الحائز على جوائز عالمية وعلى جائزة مهرجان كان، ولا شيء فيه يشبه مسرحية "اورسولا" سوى بأمر وجدناه شديد الاهمية، ربما يفوق تحقق الحالين سينمائياً ومسرحياً، وهو اللحظة الناقصة في الابداع. البرهة الناقصة تبدأ حين تنتهي البداية الرائعة الى فلتر يمتص قوتها ويحولها الى صدى الفكرة الاساسية. سنكون على درجة من التخيل التي لا تسمح لنا بأن نصدر احكاماً، ولكن هذه الفكرة جديرة بأن نبحث في منطوياتها عن سر عذاب الابداع: كيف تجتاز خيوله حواجز السباق كلها، او كيف تكبو في منتصف الطريق؟ الفن هو معيار الومضة التي تطلقها المخيلة، وهذه تختلف في قوة ارسالها بين شخص وآخر، كما تختلف في طريقة تشكلها في عقل المبدع، يقول موزارت: "حين امضي لتدوين افكاري، اخرج من جعبة ذاكرتي، ما كان قد تجمع فيها من قبل - تلك المسرات التي تبهجني، واعتاد، كما يمكن القول، على الترنم بها لنفسي - وإذا ما تابعت السير بهذا المنحى سرعان ما يخطر لي كيف يمكنني ان احول هذه النتفة الصغيرة من لحن او تلك الجملة الموسيقية الى شيء ذي فائدة". وهكذا تبدأ مسرحية "اورسولا" في دير او على مسرح او على حافة نهر في هذا العالم، انها تبدأ برحلة افتراضية بطلتها القديسة اورسولا التي وجدت نفسها في أقصى حالات الصراع بين الاعتقاد الروحي بالطهارة والعاطفة المتأججة للجسد، فقادت معها عشرة آلاف راهبة ليجتزن نهر الراين حسب الاسطورة التي دونت مسرحياً في القرن السادس عشر، والتي أراد هوارد باركر ان يعيد كتابتها بشكل معاصر ومبتكر، فقام بتفكيك عناصرها وأعاد بنيانها من جديد. وفي المبحث النظري يرى ان العذرية تعني - حسب المعتقد الطهراني - خوف الجحيم لأنها تتلبس في وضعها الانساني جحيم الرغبة المتقلبة الى الآخر. غير ان الحال لديه تتخذ مساراً مضطرباً حين تتمحور حول مفهوم الاعتقاد، اي التعلق بالمذهب او الفكرة التي يولع بها الانسان، حينها تصبح اختياراً يبغي تأكيد الذات في اصرارها على الانفصال عن الطبيعة. العذرية بالتالي، كما يقول باركر في مقدمته: هاجس يحاذر الابتذال، فهي موقف من الواقع ينزل اللذة الجسدية منزلاً ادنى. عندها ينبثق سؤاله المركزي: اذا امكن للمرء ان يتنكر للجنس او لرغبات الجسد، أفليس بوسعه ايضاً ان ينكر الموت؟ ثماني ممثلات ورجل وحيد يلعب دور الامير او السلطة، يتجولون مجتمعين على مسرح يخلو الا من ديكورات بسيطة توحي بتحرك المساحة وعدم ثباتها. وباستخدام تكنيك العجلات التي تسير عليها محفات الموت يصبح الانتقال داخل المكان اكثر يسراً. هي رحلة مضت فيها القديسة اورسولا هرباً من خطوبتها نحو خلاصها الروحي، فوجدت نفسها متورطة في المحبة والكراهية معاً. سؤال المسرح الذي تقدمه الام، يبدأ بتعيين هوية الحال كلها: من هي اورسولا، هل هي تلك الشابة الطاهرة الجميلة، ام هي الاخرى التي تسير الى حتفها بعماء؟ سنكتشف ان اورسولا هنا موضوع وليس بطلة. فالبطل ان صح ان نبحث عن بطولة هو الجسد المعذب برغباته، باجتماع الموت والحياة فيه، او ربما الام الطاهرة التي تتماهى مع السؤال الذي يؤرقها عن هوية الطهارة، لتستسلم الى جسد الامير بالنيابة عن مريداتها. وسنعرف في المحصلة ان استخدامها سيف الامير لتنظيم مذبحة لجميع الراهبات بعد ان تستيقظ رغبتها المدمرة، يحمل الدلالة الاهم في المسرحية، فالرجل جلاد يستبق عنفه بالسيطرة على ارواح ضحاياه. يظهر السيف على المسرح في النهاية ملوحاً باتحاد الرغبة والموت الذي يحصد الرقاب. السيف او العنف، تتشكل خلفه جحافل الشر وجيوش الشيطان في العالم. هذا الاعتبار ليس مقولة جانبية في مبحث هوارد باركر، فهو القيمة المركزية في عمله كما يذكر في الكتالوغ ولكنه يبعثره في منتصف الطريق، ويتفتت في مسار فكرته الغامضة عن الضحية والجلاد. الجلاد لا يستخدم سيفه ولكنه يوحي باستخدامه من قبل الضحية المفترضة. وحين يصل المؤلف والمخرج في الوقت عينه الى تلك البؤرة التي تتطلب حالاً من التأمل، تزدحم لديه الصور البصرية والافكار، فيمتص ذلك الازدحام قوة العمل. العنفوان الذي يملأ المسرح بالحركة يحول الحال الى جحيم معذب للمشاهد، فهو يلتقط الاشارات المحرقة لهذا النص بارتباك: الميثولوجيا والواقع اليومي والفلسفة والطقوس الدينية والعنف الجنسي والسياسي كلها تتجمع في بؤرة متصادمة تمزق طمأنينة العرض ومتعته اللتين بثتهما مشاهده الأولى. هيوارد باركر الشاعر والمؤلف والمخرج لديه عدا الدواوين والنصوص المسرحية تنظيرات بشأن المسرح، ولعل نصه "النصر" يلخص مجمل افكاره ورؤيته اليسارية الى موطنه بريطانيا، ويعد من النصوص المعاصرة المهمة، وهو يشبه نصه "اورسولا" في بعض ابعاده الفكرية والسيكولوجية والسياسية، وبقوة خطابه الغاضب المنتقد لتقاليد بلده السياسية، جامعاً الحاضر والماضي بوضوح وصفاء ذهني، غير انه يختلف عنه بأمر واحد وهو قوة تماسكه. ومع ان عرض مسرحية "النصر" الذي شاهدناه قبل ثلاث سنوات كان من اخراج جونثان جادوك استاذ الدراما في اكاديمية لندن للفنون الموسيقية والدرامية، وكان عمله هذا لطلاب السنة النهائية في الاكاديمية، الا ان قوة النص ساعدت الطلبة والاستاذ في الوصول الى مستويات الاحتراف المبهر. هيوارد باركر في "اورسولا" كبت خيوله الابداعية في منتصف المسافة، فترك مشاهديه حيارى تفسيرات لا تنفع مقابل المتعة والنفع اللذين يحققهما اكتمال العمل المسرحي. وحكاية فيلم عباس كياروستمي "طعم الكرز" تكاد تشبه مسرحية هيوارد باركر، فهو يبدأ بداية توحي باختلافها طقساً ومضموناً عن السينما العادية، وبطله لعب دوره بتمكين همايون ارشدي رجل في منتصف العمر يقود سيارته عبر مرتفعات صخرية متربة، باحثاً عن انسان يقبل مساومته الغريبة: مقابل المساعدة على انتحاره يحصل على مال يتركه له! في دربه هذا يمر المخرج على ايران الحرب والسياسة من دون ان يتطرق الى موقف منهما، وفي واحد من المنعطفات يحمل البطل معه في السيارة كردياً عائداً من فترة التدريب في ميليشيا الجيش كمهنة يعتاش منها، ويدير معه حواراً مسترسلاً، ينبني على اسئلة تستجوب الفتى عن عائلته وأهله. ويشكل هذا الحوار ذروة الفيلم، لأن العادي فيه يبث اشارات فاعلة تجعل منه اكثر صلة بما يمكن ان نسميه واقع الحياة في ايران الحاضر. ثم تمر السيارة على امتداد تلك الحوافي الجرداء في ايران اليوم لتتعرف على هوية ساكنيها. اختيار المخرج لهذا المكان يحتمل تأويلات في غاية الاهمية، فهو يعرفنا على علامات الموت التي مرت بإيران وما زالت تلوح في سمائها: الوجود الافغاني، الحرب العراقية - الايرانية، الاكراد كشعب مقموع، ثم طقس التدريب العسكري اليومي الذي يسخر منه البطل من دون ان يدينه. لم يجعل كياروستمي رغبة الانتحار مأسوية، وهذه واحدة من فضائل الفيلم، ولكنه جعل منها موشورا ترى من خلاله الكاميرا تضاريس ايران المرصودة بين منحدرات صخرية تتحرك فيها الجرارات وعمليات الهدم والبناء التي تملأ المشهد بالأتربة. في رحلة الغريب بحثاً عن موته يلتقي بعمال وفلاحين، طلبة وأفراد في الميليشيات العسكرية، وعندما يحاول اقناعهم بفكرته يهربون فزعاً، غير ان احد الرجال المسنين الذي يمتهن ارشاد مرتادي احد المتاحف يوافق على عرضه، ولكنه يحاول ان يقنعه بممكنات الحياة لا استحالاتها، وهو امر يقبل تفسيرات منوعة من بينها اختزان هذا الشيخ حكمة الماضي الروحي لايراني. ولكن في المنعطف الذي تدخل فيه سيارة الرجل ارضاً مزروعة ومطمئنة، يكون الشريط شارف على امتصاص وبعثرة قوة زخم فكرته الأولى. فموعظة الرجل عن الحياة والموت ووجوده في المتحف، أدخلاه في عاطفية تنبو عن مساره الأول. النهاية الجميلة حيث استيقظ المنتحر صباحاً على صوت المخرج والمصورين فمضت سيارته بعيداً في تلك الطرق المغبرة التي تحلق في سمائها الغربان، لم تستطع ان تغطي تلك الفجوة التي تقف بين بداية قوية وخاتمة بسيطة مؤثرة، ولكن الجسر الذي يربطهما توهن حباله في المنتصف فيشعر المشاهد بالملل. حاز عباس كياروستمي على جائزة مهرجان كان عن هذا الفيلم للعام 1997، ولكن هذه الجائزة لا تجعل من فيلمه مشروعاً مكتملاً في ذهن مشاهد يضع الحال خارج تقديرات الأوروبيين لسينما العالم الثالث، فهذه السينما اليوم تكاد تكون اكثر جمالاً وقوة من سينما الغرب. مع كل زخم الموضوع في "طعم الكرز" وجمال الكاميرا وبساطة الاخراج، فالبرهة الناقصة في الابداع كانت تساكن هذا المشروع وتبعثر خطابه كما حدث الامر مع مخرج ومؤلف متميز مثل هيوارد باركر