من بين اختياراتها السنوية، لم تتوان مجلة "تايم" الأميركية عن وضع الشريط الايراني "طعم الكرز"، الذي فاز مناصفة بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان للعام الماضي للمخرج عباس كياروستمي، على رأس قائمة الأفلام العشرة المنتقاة ضمن عددها المخصص لأهم أحداث العام 97. وبقدر ما يعكس هذا الاختيار اعترافاً جلياً باشتغالات هذا المبدع الذي طوع كاميرته الى أقصى مدياتها في مقاربة حالات شديدة الألفة والبساطة، فانه بمثابة اقرار بحقيقة ان النص السينمائي القادم من العالم الثالث، بما يحمله من أفكار جدية وجديدة، بإمكانه استثارة النقد الايجابي بعيداً عن الاعتبارات السياسية التي يحلو للبعض اقحامها عند النظر الى مثل هذه الاختيارات، او قراءة مثل هذه الافلام بوصفها صنواً للسذاجة. فالمشهد السينمائي العالمي، مثلما هو معروف، يؤشر الى غلبة عروض أفلام المغامرات التي شوهت بدورها ذائقة المشاهد العادي، كونها أحلت المظاهر الشكلية والمؤثرات والخدع السينمائية محل الوقائع اليومية. وكان من نتائج ذلك تخريب الحواس والعواطف واستشراء نزعة العنف والعيش في واقع جديد من طبيعة افتراضية، خصوصاً تلك الافلام التي تصور لنا العلاقة الجديدة مع الفضاء، او التي يقارب موضوعها العنف، حتى بدا وكأن المؤسسة الهوليوودية - عدا بعض الاستثناءات - عبارة عن ماكينة ضخمة لانتاج افلام الرعب والترفيه. اما حظوظ أفلام العالم الثالث، ربما كانت ايران أكثر حظاً من سواها، فمصيرها صالات نوادي العرض السينمائية في أحسن الحالات، إذ ينظر اليها باعتبارها سلعة غير رابحة. يتساوق هذا الكلام مع بداية العرض الشعبي لشريط "Close- Up" 1990، إذ نلاحظ ان ثمة مسافة سبعة أعوام فاصلة ما بين تاريخ انتاجه وتاريخ عرضه هنا في لندن. وجاء هذا العرض المتأخر بناء على توصية صادرة عن أسماء لها وقعها على الخارطة السينمائية العالمية، مثل المخرج مارتن سكورسيزي والمخرج كونتن تورنتينو والفرنسي جاك لوك غودار، اما المخرج الايطالي ناني مورتي فقدم تحيته لكياروستمي على طريقته الخاصة، وكانت عبارة عن شريط سينمائي قصير طوله سبع دقائق أسماه "يوم افتتاح Close-Up"، عن صاحب صالة عرض سينمائية ايطالي يحتفل بيوم عرض الفيلم الايراني. واذ كانت حماسة هؤلاء بعرض الفيلم لا يمكن التشكيك بها، فإن "كلوز أب" أشار مبكراً الى نصاعة هذا المخرج القدير باعتباره أحد أعمدة السينما الايرانية الجديدة. السينما التي أستوحت مادتها الدرامية من حالات يومية عادية جداً، ولكنها عكستها من أجل شحذ شعور المشاهد وخياله الى توجيه نظرة متسائلة عما يمور به مجتمع هُزت أركانه مثل المجتمع الايراني بعد الثورة. ولئن اتبع كياروستمي أسلوباً بريشتياً، عبر المحافظة على نوع من الاستقلالية في سرد الحبكة، واللجوء الى تبسيط وأختصار شخصياته، أغلبهم من الهواة، وأستخدام المخاطبة المباشرة للمشاهد في عرض القصة، فإن نزعته الانسانية ظلت صفة تسم أغلب اعماله مروراً بثلاثيته، "أين منزل صديقي" و"وتستمر الحياة" و"عبر أشجار الزيتون" وانتهاء بشريطه الأخير "طعم الكرز". يدور الفيلم حول شاب عاطل عن العمل يدعى حسين سابزيان، يتعرف على سيدة في طهران من الطبقة الوسطى بعد انتحاله لشخصية المخرج الايراني المعروف محسن مخملباف، صاحب "الدراج" و"سلام سينما" و"كبة"، ويهديها نص فيلم "الدراج" وعليه توقيعه المزور. يتصل سابزيان بتلك السيدة بعد فترة قصيرة فتدعوه الى زيارتها بفخر، فيتعرف على العائلة ويقترح عليهم تصوير فيلم سينمائي في البيت الضخم، ومستغلاً في الوقت نفسه حب العائلة للسينما، وبالتالي يقترض منهم مقابل وعد بإشراك أحد الأبناء في تأدية دور فيه. لكن تزايد شكوك العائلة حول حقيقة هذا الشاب، خصوصاً بعد مشاهدة صورة مخملباف الحقيقية في أحدى المجلات، تدفعهم الى الاتصال بالشرطة التي تعتقله في الحال وتودعه السجن على أمل محاكمته. يتم إعتقال سابزيان بحضور صحافي كان يأمل بعمل خبطة صحافية، فينشر تفاصيل وملابسات تلك القضية. وحال قراءته الخبر كما ورد في الصحف، يقرر كياروستمي زيارة الشاب في السجن وتصوير شريط وثائقي عن مجمل القضية. لذا يعيد تركيب هذه القصة الطريفة من جديد، بدءاً من لحظة تعرف الشاب على السيدة في الحافلة وتقديم نفسه باعتباره مخملباف وحتى نصل الى قاعة المحكمة. والنتيجة الصورية رائعة، تؤشر الى حساسية المخرج في التقاط البعد الدرامي لتلك القصة وتوظيفها في انجاز فيلم داخل فيلم. لكن من هو سابزيان؟ وهل تستحق قصته عناء تصوير شريط سينمائي عنها؟ هذان السؤالان وغيرهما يشكلان الاطار العام الذي قارب به كياروستمي حياة ذلك الشاب، فلم يتوقف ازاء نعوت الصحافة وتوصيفاتها على انه محتال ودجال ومجرم، بل وجد في قصته عناصر تتجاوز الواقعة وتخفي وراءها مفاتيح لقصص أخرى. فهو يدعونا الى متابعة محنة شخص معدم، مكسور، مطلق، عاطل عن العمل، مطالب بإعالة عائلة يبحث عبر حبه للسينما عن دور وهوية يتماهى معهما لعلهما يمنحانه عزاء شخصياً بعد ان ضاقت أمامه سبل الحياة. ولكي يضفي على شريطه طابع الصدقية، عمد المخرج الى دعوة كل الشخصيات الحقيقية من اجل اشركها في تنفيذ الفيلم من جهة، وكجزء من تحيته لهم من جهة ثانية. غير ان امعان النظر في شخصيات الحبكة يوفر لنا قراءة اجتماعية لمصائر بشرية عادية ضرب على وترها المخرج بذكاء عال، اذ سرعان ما ندرك هزال الحالة المادية للعائلة التي احتال عليها على رغم المظاهر. ونجد ان أحد أبنائها وهو خريج كلية الهندسة يعمل فراناً، في حين لا يجد الأخ الأصغر إلا في حب السينما مهرباً يحقق فيه حضوره الوهمي بعيداً عن المصير الذي ينتظره. ومثلهما الجنديان اللذان اعتقلا سابزيان، فقد اظهرهما متثاقلين من ملابسهما العسكرية. بينما انفرد القاضي المتسامح بإعطاء صورة متفهمة ومتعاطفة الى حد ما مع المتهم. وحتى يصل المخرج الى حقيقة ذلك الشاب وقراءة شخصيته عن قرب ومن دون مسبقات يضعه أمام امتحان عصبي إذ يسلط عليه عدسة احدى كاميراته في قاعة المحكمة، من أجل التقاط ما هو حقيقي وغير حقيقي، صادق وكاذب، عفوي ومخاتل، ومن تلك الكاميرا استقى الفيلم عنوانه. فمن خلال اسئلة القاضي وأجوبة المتهم العفوية والذكية، تتشكل صورة وشخصية سابزيان الحقيقيتان، ويكون فيصلها عندما يسأل حول كيفية انتحاله لشخصية مخرج وهو لم يحمل الكاميرا في حياته، فهل يفضل ان يكون مخرجاً ام ممثلاً؟ ويأتي جوابه حاسماً ومن دون تردد: التمثيل! وكأننا به يقول اننا كبشر نمارس ادواراً في مسرح الحياة. اما حضور جلسة المحكمة، افراد العائلة والصحافي ووالدة المتهم التي أثّرت توسلاتها في نفوس الحضور والمشاهدين، فقد أفرد لهم المخرج كاميرا ثانية. بعد مداولات ومداخلات تقرر المحكمة في النهاية، بالاتفاق مع العائلة، اسقاط الدعوى واطلاق المتهم، باعتباره شخصاً غير مؤذ وليست له سوابق عدلية. المفاجأة التي كانت تنتظره خارج المحكمة كانت أجمل خاتمة لقصة شاب تماهى مع نتاج مخرج وظفر بمعرفته، إذ ما ان يخرج حتى يستقبله مخملباف ويطلب منه الاعتذار من تلك العائلة لما سبب لها من إرباك، ويكون الاعتذار على شكل باقة ورد حمراء يأخذها بمعية مخرجه المفضل!