بعد خراب الصومال وجنوب السودان، ومع نشوب القتال بين أثيوبيا وأريتريا، لم يبق، ربما، الا جيبوتي. انها البدر الذي يُفتقد في ليلة قرن أفريقيا الظلماء. فهذه البقعة الصغيرة الواقعة بين خليج عدن والبحر الأحمر، تملك مواصفات قابلة للتعزيز والرعاية. أما نوع علاقتها المبكرة بفرنسا فلعب بالتأكيد دوراً في تأسيس تلك المواصفات. الفرنسيون قدموا الى جيبوتي في 1862، فنالوا "حق الوجود" هناك من سلاطين العَفَر مقابل المال وسلع غربية عدة. وحذا حذو العفر سلطان تادورا، فوقع اتفاقية مشابهة مع الفرنسيين في 1884. وبعداربع سنوات بدأ بناء المدينة والميناء، لكنْ في 1897 وتبعاً لمعاهدة بين فرنساوأثيوبيا، صارت جيبوتي، أو "أرض الصومال الفرنسية"، "منفذاً رسمياً للتجارة الأثيوبية". هذا التطور مهّد لبناء سكة حديد. المصالح المشتركة جعلت التطورات السياسية تسلك مسلكاً هادئاً نسبياً، والنسبية هنا لها معنيان: 1- الهدوء أقل بكثير مما في الجوار. 2- حصول الخطأ من أيٍ من الأطراف لا يلبث أن يمهّد للتراجع عنه. هنا الأمثلة: في 1946 اعترفت فرنسابجيبوتي "وحدةً ترابية". في 1949 كانت التظاهرة الأولى المعادية للاستعمار، لكن في 1951 غدت جيبوتي تتمثل بنائب في باريس. في 1957 نشأت الجمعية التمثيلية الأولى للجيبوتيين. في 1958 أجري استفتاء حول العلاقة بفرنسا فاقتصر الرفض على 25 في المئة من السكان. وبما أن الرافضين من قبائل عيسى المؤيدة للوحدة مع الصومال، اهتم الفرنسيون بتسليم الادارات المحلية للعفر، حلفائهم ومؤيدي الوحدة مع اثيوبيا. علي عارف، الزعيم العفري، صار رئيس السلطة المحلية. اعتقالاتٌ وأعمال قمع نزلت بقبائل العيسى التي باتت تُعتبر قبائل "العمل الوطني"، لكن الفرنسيين طوقوا التوتر باستفتاء أجروه في 1967: 60 في المئة من السكان يؤيدون الوحدة مع فرنسا. "أراضي العفر والعيسى الفرنسية"، بحسب التسمية الجديدة، لم تهدأ. الأممالمتحدة حثّت باريس على منح جيبوتي الاستقلال. أصر الفرنسيون على البقاء وعلى علي عارف: "هذا ما يريده الشعب بدليل الاستفتاء". العفر بالتأكيد كانوا يريدون ذلك خوفاً من العيسى. مع السبعينات تغير الوضع. حسن غوليد رئيس "الاتحاد الشعبي الصومالي" تحالف مع العفر لتأسيس "عصبة الشعب الافريقي للاستقلال": انها اول حزب متعدد الاثنيات. زعيمه الاول غوليد، والثاني زعيم عفري اسمه احمد ديني. موسم آخر من الشغب واجهه علي عارف بالاستقالة، والفرنسيون بالتراجع. أعيد الكثيرون من المنفيين وأعيد النظر في القوانين الانتخابية، وكان ذلك تمهيداً لنيل الاستقلال في 1977. أجريت انتخاباتٌ ربحها غوليد وحزبه بسهولة وقامت حكومةٌ متعددة الاثنيات. غوليد رئيساً للجمهورية وديني للحكومة. 1981: غوليد الذي استهوته السلطة وانعكست عليه آثار النزاعات الصومالية - الاثيوبية أقام دولة حزب واحد. العفر هُمّشوا واستُبعدوا. تراجع غوليد وحصلت أواخر 1992 استعادة جزئية للتعدد الحزبي وانتخابات متعددة الأحزاب نسبياً. رجال العصابات العفريون الذين كانوا اعلنوا ثورتهم في 1991 تراجعوا بدورهم في 1993 ووافقوا على المشاركة في اللعبة السياسية. أبوّة غوليد تبقى ثقيلة الوطأة، لكن الجميع يؤكدون "الحرص على الديموقراطية"، وعلى التنمية خصوصاً في اقليم عفر الشمالي الأفقر، وعلى الحياد الذي يضمن تدفق المساعدات من فرنسا كما من العالم الاسلامي. مصادر التوتر الأهلي قائمة. انعكاس التوتر الاقليمي محتمل. لكن جيبوتي معقولة حتى الآن. غداً من يدري