اذا كانت الشهور السابقة على صيف العام 1915 شهدت معظم التطورات الأليمة التي طرأت على ما سوف يسمى لاحقاً ب "القضية الأرمينية"، فإن يوم السابع عشر من حزيران من ذلك العام، كان اليوم الذي كشفت فيه الديبلوماسية العالمية ابعاد تلك المأساة، وبدأت المسألة ترتدي طابعاً عالمياً، سيقود بالتدريج الى النظر الى ما مارسته قيادات الجيش التركي من اعضاء "الاتحاد والترقي" ضد الشعب الأرميني على انه من قبيل "حروب الابادة". وتجلى ذلك حين ارسل السفير الالماني في اسطنبول فاغفهايم الى وزارة الخارجية الالمانية في برلين برقية سيكون لها ضجيج كبير بعد ذلك، تقول "ان الباب العالي يريد انتهاز فرصة الحرب لكي يتخلص من اعدائه الداخليين ولا سيما المسيحيين منهم، وذلك من دون ان يزعجه في ذلك اي تدخل للديبلوماسية"، وهؤلاء الاعداء الداخليون المسيحيون، كانوا بالطبع، في غالبيتهم، من الأرمن. والحال ان البرقية الألمانية التي سوف تعتمد لاحقاً كوثيقة من قبل البعض، بينما يعتبرها البعض الآخر مجرد تضخيم لأحداث قليلة الاهمية، كانت المؤشر على احداث لا تكف عن التلاحق منذ زمن طويل، بل يمكن القول بأنه منذ اواخر القرن الفائت، وخلال العامين 1895 - 1896 كانت المجازر التي تعرّض لها الأرمن داخل الامبراطورية العثمانية أوقعت ما لا يقل عن 300 ألف ضحية. اما الأحداث الجديدة، فكانت نقطة انطلاقتها يوم الثاني من تشرين الثاني نوفمبر 1914 حين اعلنت تركيا الجهاد داخلة بذلك الحرب العالمية الأولى. وكانت سلسلة من الهجومات التي شنّها وزير الحربية التركية انور باشا وكان واحداً من قادة انقلاب جمعية "الاتحاد والترقي" التي سيقال لاحقاً انها، اذ تشكلت في سالونيك، كانت على علاقة حميمة بالجمعيات اليهودية والصهيونية في المدينة، وهذا ما سوف يجعل الكثير من الأرمن يرون في المصير الذي تعرض له شعبهم نتيجة لتواطؤ اتراك "الاتحاد والترقي" مع اليهود ضدهم، وفي زمننا هذا، سيرى أرمن كثيرون ان في موقف المستشرق برنارد لويس الناكر للمجازر وحديث الإبادة، استمراراً للموقف التقليدي الصهيوني من تلك المسألة!. الهجومات التي شنّها أنور باشا، كانت في البداية في اتجاه القوقاز الروسية، غير انه بعد نجاحات اولى، سرعان ما لحقت به وبقواته الهزائم، ما دفع تلك القوات الى التراجع نحو مناطق ارض روم التي يكثر فيها السكان الأرمن. وهناك راح الجنود الاتراك ينتقمون من هؤلاء الأرمن، غير ان الانتقام لم يطل فقط السكان المدنيين، بل كذلك، خصوصاً الجنود الأرمن المجنّدين في الجيش العثماني، حيث راح هؤلاء يُجرَّدون من أسلحتهم ويُعدمون رمياً بالرصاص في مجموعات يتألف كل منها من مئة جندي. وكانت التهمة التقاعس عن خوض القتال والتواطؤ الضمني مع الروس. اما في حقيقة الامر فكان المطلوب ازالة الأرمن المتهمين بالرغبات الانفصالية والخيانة العظمى، بهدف اقامة حزام امني تركي يمتد من البوسفور حتى سمرقند، لحماية الامبراطورية من الرغبات التوسعية الروسية. والأرمن بدورهم استهانوا اول الامر بالمخاوف التركية واعتقدوا ان انتصارات الروس السريعة ستكون لمصلحتهم، ومن هنا لم يصغِ كثيرون لأصوات العقلاء من بينهم، بل راحت مجموعات منهم تشن المعارك على مجموعات منعزلة من الجنود الاتراك، ولم يكن القادة الاتراك يرغبون في اكثر من هذا، اذ سرعان ما نراهم يستغلون الامر ليمارسوا ضد الارمن بشكل عام قمعاً لا سابق له، وبلغ ذلك ذروته يومي 24 و25 نيسان ابريل 1915، حين اعتقلت السلطات التركية في اسطنبول نحو 650 شخصية أرمينية من الزعماء والأعيان. وبدأت عمليات الاقتلاع والنفي والاعتقال. وإذ راحت الصحافة العالمية تتحدث عن الامر، وأحياناً بشكل دعاوى مبالغ فيها كما في الصورة المرفقة مع هذه النبذة، بدأ بعض الاصوات التركية يعلو باحتجاج، فاذا بطلعت باشا، وزير الداخلية يكتب معلماً الصدر الأعظم بما يدور من اجراءات ضد الأرمن، قائلاً في ختام رسالته رداً على فكرة تقول بأن معظم الذين يطاولهم القمع ابرياء: "ان الذين يعتبرون اليوم ابرياء، سيكون من شأنهم غداً ان يصبحوا مذنبين". وعلى الفور اذن للجيش التركي بأن "يقمع كل مقاومة تقوم في وجهه وأن ينفي كل مشبوه". وفي يوم الثلاثين من ذلك الشهر صدر مرسوم فرمان يأمر بنفي كل الأرمن واقتلاعهم: على كافة الأرمن ان يتركوا كل ما يملكونه ويتجمعوا في قوافل تتجه بهم الى مدينة حلب شمالي سورية". وفي تلك المناسبة كتب القنصل الأميركي في مدينة خربوط تقريراً جاء فيه "لو كان الامر مجرد الانتقال من مكان الى آخر لكان محتملاً، هنا يعرف كل واحد انه يساق الى الموت، بحيث ان مجمل هذه الاجراءات يبدو لي وكأنه يكون واحدة من المجازر الاكثر تنظيما ونجاحاً، التي عرفها هذا البلد". وهكذا من بين 000،200،1 أرميني كانوا يعيشون في الأقاليم الشرقية للامبراطورية العثمانية لجأ 300 ألف إلى روسيا، وعاش 100 ألف على رغم الاقتلاع، اما الباقون فوقعوا ضحية للمجازر وعمليات القتل الجماعي