عاد الوفد السوري الى مفاوضات الشراكة السورية - الاوروبية إلى دمشق بعدما خاض الجولة الاولى من المفاوضات الرسمية مع الجانب الاخر في بروكسيل، ومن المقرر ان يصل الوفد الاوروبي الى دمشق في تشرين الاول اكتوبر المقبل لخوض الجولة الثانية. وكانت سورية ابلغت الجانب الاوروبي في مطلع العام 1996 في شكل رسمي استعدادها لخوض مفاوضات تمهيدية لتوقيع اتفاق شراكة، وذلك لسببين أساسيين: الاول سياسي لأن الجانب السوري كان يبحث عن توازن في العلاقات الدولية وانعكاسها على السياسات في الشرق الاوسط في ظل الانحياز الاميركي الواضح الى الجانب الاسرائىلي في مفاوضات السلام العربية - الاسرائىلية. لذلك فإنه ليس مصادفة أن تأتي موافقة سورية على الدخول في مفاوضات الشراكة بعد توقف عملية السلام على المسار السوري وعدم التزام رئيس الوزراء الاسرائىلي بنيامين نتانياهو التعهدات التي قدمها سلفاه اسحق رابين وشمعون بيريز الانسحاب من مرتفعات الجولان الى ما وراء خطوط 4 حزيران يونيو 1967، اضافة الى عدم بذل واشنطن جهداً ملموساً للضغط على نتانياهو للوفاء ب "الوديعة" حسب التعبير السوري الموجودة لدى البيت الابيض الاميركي. كما انه ليس من باب المصادفة أن تأتي الموافقة السورية بعد نجاحها في ادخال فرنسا كعضو مواز للجانب الاميركي في مجموعة مراقبة تفاهم نيسان ابريل التي انشئت بعد عملية "عناقيد الغضب" في جنوبلبنان، ما أعطى نوعا من التوازن بين الجانبين الاسرائىلي واللبناني- السوري في الفصل في الشكاوى المقدمة لخرق التفاهم. وجاء التوجه السوري نحو "الاليزيه" في ضوء تقهقر السياسة الروسية في المنطقة وعدم قدرة موسكو الروسية لعب دور موسكو السوفياتية، مع ان وزير الخارجية الروسي يفغيني بريماكوف عسكّر مثل وزير الخارجية الفرنسي السابق هيرفيه دوشاريت في دمشق خلال جولات وزير الخارجية السابق وارن كريستوفر المكوكية بين تل بيب ودمشق للتوصل الى صيغة التفاهم. السبب الثاني الذي دفع دمشق الى الدخول في مفاوضات الشراكة هو اقتصادي، إذ أن المسؤولين السوريين يدركون التغيرات الحاصلة في السوق الدولية من اتفاق "غات" الى "منظمة التجارة العالمية" واقامة منطقة حرة في العالم امام انتقال البضائع وبالتالي خروج أي دولة لا تدخل في "العولمة الاقتصادية" من المعاملات الاقتصادية الدولية. فكان التوجه السوري ثلاثياً على أساس: تقوية العلاقات الاقتصادية مع لبنان كتكتل مناطقي وتوقيع عدد من الاتفاقات في العامين الأخيرين وتحرير التجارة الخارجية بينهما في السنوات الاربع المقبلة الى حين ازالتها تماماً. ثانياً، اقليمياً الدخول مع الدول العربية في اقامة منطقة تجارة حرة بخفض سنوي قدره 10 في المئة من الرسوم الجمركية. ثالثاً، دولياً الدخول الى العولمة عبر البوابة الاوروبية كبديل لفشل مفاوضات السلام مع ان السفير الاوروبي في دمشق آلان وادمس يعتقد ان "الشراكة لن تنجح مئة في المئة اذا لم يتحقق تقدم في عملية السلام في الشرق الاوسط". والتوجه السوري الى اوروبا كان بديلاً من الطموحات التي كانت مرسومة عن "شرق اوسط جديد" يعتقد عدد من الخبراء ان الزعامة فيه كانت محجوزة لإسرائىل حسب صيغة "مهندس" الشرق اوسطية شمعون بيريز. هذا مايفسر خلفية كلام الرئيس حافظ الاسد الى مسؤول اوروبي من ان بلاده اتخذت "قراراً استراتيجياً" بالدخول في مفاوضات الشراكة التي مرت بمرحلتين الاولى هي مفاوضات تمهيدية استمرت من حزيران يونيو 1996 إلى تموز يوليو 1997 تخللتها جولات تفاوض في بروكسيلودمشق بهدف معرفة موقف كل طرف وتوقعاته من الاتفاق. وكشفت هذه المفاوضات عمق الفجوة بين الموقفين في ما يتعلق بالشروط التي يفرضها اتفاق الشراكة على سورية في ما يخص انتقال البضائع في شكل حر بين البلدين الأمر الذي يعني في ظل الوضع القائم انتقال البضائع الاوروبية من دون حواجز. وفي حال تطبيق ذلك بشكل تدرجي بعد 12 سنة فإن ذلك سيؤثر بقوة على السياسة الاقتصادية التي تتبعها البلاد القائمة على التحكم بالواردات عبر الرسوم الجمركية اذ انها تحصل في بعض الاحيان الى 300 في المئة على بعض المنتجات الترفيهية، مع منع استيراد بعض المواد التي يصنع السوريون مثيلاً لها في البلاد وذلك تحت ما يعرف بقانون حماية الصناعة الوطنية. وبالتالي فإن رفع الحاجز الجمركي سيضع الصناعة المحلية في منافسة غير متكافئة ما يتطلب مساعدات تقنية ومالية عالية من اوروبا الى الجانب السوري، فكان تأسيس "المركز السوري - الاوروبي للأعمال" الذي يقدم الاستشارات الاقتصادية للمؤسسات الخاصة في سورية و"مركز المعلومات الاوروبي" الذي يوفر المعلومات لرجال الاعمال والشركات في الطرفين. وأوضح السفير الاوروبي ان معظم الخبراء السوريين "يدرك تماماً الصعوبات لكن يقول لاخيار أمامنا. الشيء الأساسي في عملية برشلونة التي انطلقت في مؤتمر برشلونة 1995 وعقدت جولة ثانية في مالطا 1997 وثالية غير رسمية في الشهر الجاري في باليرمو الايطالية تمهيداً للجولة الثالثة في شتوتغارت 1999 هو تحرير التجارة الحرة وكي تستفيد سورية من ذلك لا بد من اجراء بعض الاصلاحات الاساسية في الاقتصاد". ويلخص الاوروبيون هذه الاصلاحات بتطوير النظام المصرفي السوري إذ ان انهم يبدون استعداداً لتقديم نحو 25 مليون دولار أميركي بعدما قدموا قبل سنوات 6،5 مليون دولار لتحديث المصارف العامة السورية لعدم وجود مصارف خاصة، لتطوير عمليات التحويل المصرفي. ويطالبون ايضاً باحداث سوق لتداول الاسهم ، كما انهم سيبدأون في تطوير اقسام معينة في وزارة المال مثل قسم الجمارك والرسوم الجمركية الذي سيكون مهماً في عمليات الشراكة وقسم سندات الخزينة وقسم الضرائب. وقال ودامس: "طالما ان سورية ستزيل الضرائب المفروضة على الواردت لا بد من البحث عن مطارح ضريبية جديدة توفر دخلاً بديلاً لوزارة المال". ومن المقرر ان تستمر المفاوضات الرسمية نحو سنتين مع ترك سنة واحدة للتصديق على الاتفاق العتيد. وأظهرت الجولة الاخيرة ان القطاع الزراعي يشكل عقبة اساسية بين الطرفين خصوصاً عندما اطلع الوفد السوري على مسودة الاتفاق، ذلك لأنه يأمل في تقديم تسهيلات لانتقال المنتجات الزراعية السورية الى اوروبا مقابل التسهيلات التي ستحصل عليها المنتجات الصناعية الاوروبية، لكن الاوروبيين أشاروا الى وجود اتحادات للمزارعين في دولهم تقوم بدور ضاغط لحماية المنتجات الزراعية الاوروبية وعدم تعريضها للمنافسة من قبل منتجات الدول الاخرى. وتتوقع مصادر وزارة الزراعة ان يصل الانتاج السوري من الزيتون الى 708 آلاف طن ومن الحمضيات الى 750 الفاً، وبلغ الانتاج السوري من القمح في العام الماضي ثلاثة ملايين طن مقابل اربعة ملايين طن ومن الشعير نحو مليون طن، كما تجاوز للمرة الأولى محصول القطن عتبة المليون طن. ويعتقد رئيس مجلس ادارة "ماس" الاقتصادي فراس طلاس ان لسورية استعداداً لتصدير ما قيمته ثلاثة بلايين دولار من المحاصيل الزراعية، علمآً انها لا تشكل إلاّ نسبة صغيرة حالياً من الصادرات السورية التي يشكل النفط 80 في المئة منها. لكن وادمس قال ان المشكلة بالنسبة للسوريين ان "نظام التجارة الزراعية الاوروبي ليس حراً"، مشيراً الى ان الزيادة ستتحقق في الصادرات الزراعية السورية "لكن بشكل تدرجي وليس في قفزات نوعية. السوق الاوروبية ستكون جزءاً من الحل وليس كل الحل، وهناك أمل آخر لأن السوق الاوروبية ستكون حرة زراعياً بعد عشر سنوات، والأمل الآخر ان اوروبا ليست الورقة الوحيدة في يد سورية بل هناك لبنان وسوق الخليج".