الكتاب: الشعرية العربية المؤلف: جمال الدين بن الشيخ الناشر: - دار توبقال - المغرب لم تعد الكتابة النقدية الحديثة عن الشعر الا بحثاً عن الموروث الثقافي العربي القديم. والشعر، كما يشير جمال الدين بن الشيخ، كان النتاج الوحيد لهذه الثقافة، اي انه نتاجها الأول، وانه كان التعبير الأكثر دلالة، وكان حتى في حالات اقصائه الاكثر تمثيلاً لأصالة عبقرية الأمة العربية وثقافتها. واعتبر الشعر العربي على الدوام مستودع هذه الثقافة وتاريخها، اي الأثر الذي يبلغ مرتبة تمجيد جماعة وحقل ممارسة وعي جماعي لا فردي. يقوم جهد المؤلف على ميدانين: الأول هو البحث النظري في ماهية الشعر العربي القديم، وقد ضمن جهده هذا مقالاً حول "خطاب نقدي" بحث فيه التأصيل النقدي عند النقاد العرب الأوائل: الجرجاني وابن قتيبة والجمحي وابن رشد وابن خلدون وغيرهم. ويرى الناقد في هذا الخطاب النقدي القديم ثمة تجاوراً بين الفكر والنقد، وبين الفلسفة والنقد، وبين الدراسة اللغوية والنقد، وبين الدراسة الاجتماعية والنقد. ليخلص الى القول: ان النقد العربي القديم جزء من ثقافة مجتمع متطلع يبحث في مصادر معرفته القديمة عن أفق معرفي عام لا يستقر الا في خطاب ثقافي اوسع. كان الشعر الأرضية الخصبة لكل هذه المسارات الفكرية التي تعايشت في اطار من التداخل والفرز. والثاني احتوى عشرة فصول بحث فيها المسلمات النظرية لمسار الحركة الشعرية، والعلاقة بين الشاعر والمدينة، وشعرنة الواقع اي عندما يصبح الواقع قضية، وأنماط الابداع في هذا الشعر. ثم تناول في بقية الفصول، بدراسات تحليلية وميدانية قائمة على الاحصاء والتركيب، الشعر العربي القديم في مرحلة قرونه الأولى، خصوصاً في مدينة بغداد التي رأى المؤلف انها المكان الذي يعطي الفضيلة للعلماء والناثرين. فبغداد هي المدينة التي تجمعت فيها حواضر الشام والبصرة والكوفة، فكان ان تجاور فيها علي بن الجهم البغدادي مع أبي تمام والبحتري وهما من حواضر الشام الى جوار أبي نواس وأبي بكر النطاح والحسين بن الضحاك وكلهم من البصرة. ان الميدان الذي يتطرق اليه ابن الشيخ في الشعرية العربية لقي بحثاً ودراسة على مدى عقود من الدرس النظري والتطبيقي، وفي مختلف الجامعات العربية. ولم تكن المحصلة لتلك الدراسات الا التمهيد العام للعلاقة بين الشعر والمجتمع العربي. اما على مستوى التنظير النقدي فلم نعثر الا على شذرات أقامها بعض الدارسين العرب، وهذه الشذرات النقدية لم تؤسس لنا في ضوء النظريات النقدية الحديثة أي اتجاه يمكن للناقد المعاصر ان يؤسس عليه اي تصور نقدي يسعفه في معاينة النصوص الحديثة. لكننا بعد هذا الجهد النظري - التطبيقي يمكننا القول بوجود أرضية جديدة تمتد الى تراثنا العربي لنعاين من خلالها النصوص الحديثة. فهو على سبيل المثال عندما يدرس ظاهرة المدح يدرسها في ضوء المقطعات الصغيرة التي لن تكون قصيدة كالقصائد المتعارف عليها في اغراض الشعر كالهجاء والغزل. هنا يصبح لعدد الأبيات في القصيدة دلالة الغرض، فعند ابي تمام لا تتجاوز ابيات القصيدة المادحة الاكثر حضوراً في شعره العشرة، ولا تشكل الا نسبة الربع من انتاجه الشعري. ان الدراسة الاحصائية للشعر تضيء لنا جانباً من الشعرية العربية، وتوضح لنا ان فاعلية اغراض الشعر التي عاينها الدارسون لم تكن على مستوى واحد من الأهمية في الشعر العربي القديم، ما يعني ان البحوث الميدانية لوحدها ترسم لنا دلالة الشعرية العربية وتبعدنا بالتالي عن الافتراض النقدي لأية ظاهرة ثقافية قديمة او معاصرة. ويذهب جمال الدين بن الشيخ في كتابه القيم الى مضارب شتى من الشعرية العربية، فهو اذ يعالج القصيدة انما يعالج الثقافة. فالثقافة الشعرية في كليتها ممتلئة بدلالاتها الخاصة بها، وان كل جزء منها يشارك في هذه الدلالة الذاتية. من هنا اصبح اختيار القصائد مهمة نقدية بحد ذاتها ليس لأنها موضوع الدراسة فقط وإنما لاحتوائها على المجموع الكلي للثقافة الممثلة لمرحلة الدراسة. وهذا الامر من الصعوبة بحيث جعل المؤلف يرى في الجزئيات التي تناولها من القصائد بالتحليل الاحصائي دالاً على الكل الثقافي. ويقول بهذا الصدد "ان التأريخ والأثر الأدبي يفرضان علينا ضرورتي الكلية والخصوصية، والطريقة تكمن في تجريب فعل الشاعر وجعل عناص ابداعه مشتغلة". لم نعثر كما هو شائع في مثل هذه الدراسات على تفريق لامنهجي بين الشكل والمحتوى، بل وجدنا الدراسة تنحو في تعاملها مع النصوص الشعرية الى تركيب الخطاب الشعري والى بلاغة الاشكال المتنوعة للقصيدة، سعياً، كما يقول المؤلف، الى اعادة تأليف الحركة التي تؤدي الى اتمام دراسة الأثر الشعري كله. فالمعالجات النقدية التي تفرق بين شكل ومضمون تسعى مرغمة وفق سياقات منهجيتها الى تكسير القصيدة وسلخها عن الواقع الذي انتجها.