معرض "أنا عربية" يفتتح أبوابه لاستقبال الجمهور في منطقة "فيا رياض"    باكستان تقدم لزوار معرض "بَنان" أشهر المنتجات الحرفية المصنعة على أيدي نساء القرى    مطارات الدمام تدشن مطارنا أخضر مع مسافريها بإستخدام الذكاء الاصطناعي    ديوانية الأطباء في اللقاء ال89 عن شبكية العين    الحملة الشعبية لإغاثة الفلسطينيين تصل 702,165,745 ريالًا    الجبلين يتعادل مع الحزم إيجابياً في دوري يلو    "أخضر السيدات" يخسر وديته أمام نظيره الفلسطيني    حرمان قاصر وجه إهانات عنصرية إلى فينيسيوس من دخول الملاعب لمدة عام    الأهلي يتغلب على الوحدة بهدف محرز في دوري روشن للمحترفين    أمير منطقة تبوك يستقبل رئيس واعضاء مجلس ادارة جمعية التوحد بالمنطقة    مدني الزلفي ينفذ التمرين الفرضي ل كارثة سيول بحي العزيزية    مدني أبها يخمد حريقًا في غرفة خارجية نتيجة وميض لحظي    أمانة القصيم توقع عقداً بأكثر من 11 مليون ريال لمشروع تأهيل مجاري الأودية    ندى الغامدي تتوج بجائزة الأمير سعود بن نهار آل سعود    البنك المركزي الروسي: لا حاجة لإجراءات طارئة لدعم قيمة الروبل    6 مراحل تاريخية مهمة أسست ل«قطار الرياض».. تعرف عليها    «سلمان للإغاثة» يختتم المشروع الطبي التطوعي للجراحات المتخصصة والجراحة العامة للأطفال في سقطرى    المملكة تفوز بعضوية الهيئة الاستشارية الدولية المعنية بمرونة الكابلات البحرية    محرز يهدي الأهلي فوزاً على الوحدة في دوري روشن    نعيم قاسم: حققنا «نصراً إلهياً» أكبر من انتصارنا في 2006    القادسية يتفوق على الخليج    النصر يكسب ضمك بثنائية رونالدو ويخسر سيماكان    الجيش السوري يستعيد السيطرة على مواقع بريفي حلب وإدلب    "مكافحة المخدرات" تضبط أكثر من (2.4) مليون قرص من مادة الإمفيتامين المخدر بمنطقة الرياض    خطيب المسجد النبوي: السجود ملجأ إلى الله وعلاج للقلوب وتفريج للهموم    السعودية تتسلّم مواطنًا مطلوبًا دوليًا في قضايا فساد مالي وإداري من روسيا الاتحادية    والد الأديب سهم الدعجاني في ذمة الله    الشؤون الإسلامية تطلق الدورة التأهلية لمنسوبي المساجد    «الأونروا»: أعنف قصف على غزة منذ الحرب العالمية الثانية    خطيب المسجد الحرام: أعظمِ أعمالِ البِرِّ أن يترُكَ العبدُ خلفَه ذُرّيَّة صالحة مباركة    وكيل إمارة جازان للشؤون الأمنية يفتتح البرنامج الدعوي "المخدرات عدو التنمية"    وزارة الرياضة تُعلن تفاصيل النسخة السادسة من رالي داكار السعودية 2025    التشكيلي الخزمري: وصلت لما أصبو إليه وأتعمد الرمزية لتعميق الفكرة    الملحم يعيد المعارك الأدبية بمهاجمة «حياة القصيبي في الإدارة»    تقدمهم عدد من الأمراء ونوابهم.. المصلون يؤدون صلاة الاستسقاء بالمناطق كافة    طبيب يواجه السجن 582 عاماً    «كورونا» يُحارب السرطان.. أبحاث تكشف علاجاً واعداً    ذوو الاحتياجات الخاصة    انطباع نقدي لقصيدة «بعد حيِّي» للشاعرة منى البدراني    عبدالرحمن الربيعي.. الإتقان والأمانة    رواد التلفزيون السعودي.. ذكرى خالدة    اكتشافات النفط والغاز عززت موثوقية إمدادات المملكة لاستقرار الاقتصاد العالمي    فصل التوائم.. البداية والمسيرة    «متلازمة الغروب» لدى كبار السن    "راديو مدل بيست" توسع نطاق بثها وتصل إلى أبها    بالله نحسدك على ايش؟!    رسائل «أوريشنيك» الفرط صوتية    حملة توعوية بجدة عن التهاب المفاصل الفقارية المحوري    أمير تبوك يستقبل المواطن مطير الضيوفي الذي تنازل عن قاتل ابنه    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الدورة ال 162 للمجلس الوزاري التحضيري للمجلس الأعلى الخليجي    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    أكدت رفضها القاطع للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.. السعودية تدعو لحظر جميع أسلحة الدمار الشامل    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقاطع من "الوصول إلى البداية" . احتراف الفن التشكيلي وتفاعل مع الادباء 1 من 2
نشر في الحياة يوم 09 - 05 - 1998

بعض من سيرة ذاتية ستصدر في كتاب عنوانه "الوصول الى البداية" في مطلع العام المقبل.
ذقت حلاوة الفن. ذقت متعة أن أحيا "في الفن". باريس علمتني أنه من الممكن أن يحيا الانسان فنه وأن يحقق حريته، وأن يكسر أغلال عبوديته لأعمال لا تمت بصلة الى روحه. سنوات السبعينات كانت بداية تحقق فني عشت فيه وبه ومنه.
وجدت نفسي. عدت الى القاهرة نهائياً تتملكني رغبة التفرغ ففيه حياتي. قررت احتراف الفن. خاف عليّ الأصدقاء واعتبروا أنني اخترت المستحيل. كان على الفنان قبل ذلك أن يبحث عن "لقمة العيش" خارج اطار اللوحة. كان على الفنان التشكيلي أن يعمل في التدريس، أو في الرسم الصحافي، أو في وظيفة في وزارة الثقافة. وكان للفن الوقت الذي يتبقى بعد العمل إن وجد.
ظلم الفنان التشكيلي بهذه المعادلة الصعبة.
الوصول الى الحد "الأقصى" كان همي الفني. عمر الانسان لا يكفي للوصول الى الفن، فما بالك لو اقتطعنا منه جزءاً للعمل الوظيفي. التفرغ إذاً ضرورة لا مناص منها. لن يأتي التفرغ إلا باحتراف الفن من طريق الاقتناء الشخصي للوحة. كل منتج له مقتنوه بصرف النظر عن قيمته الجمالية. كان عليّ أن أبحث عمن يهوى لوحتي الى حد الاقتناء، وسألت نفسي مجموعة من الأسئلة سأطرحها باجاباتها التي تخيلتها آنذاك. كان تعداد الشعب المصري آنذاك يقارب 50 مليون نسمة.
- هل يستطيع الشعب المصري اقتناء لوحاتي؟
- لا.
- هل هناك 1000 شخص في القاهرة يحبون لوحتي الى حد الاقتناء؟
- نعم.
- هل استطيع تخيل تلك الجماعة التي تحب لوحتي الى حد الاقتناء؟
- نعم. وقد تخيلتهم كالآتي:
أ - معماري يهوى فن العمارة الى حد تذوق شكلها الجمالي وتذوق خطوطها وانكسارات الضوء عليها. سيحب لوحتي الى حد الاقتناء.
ب - باحث في الرياضة الحديثة الى حد تذوق جماليتها. سيحب لوحتي.
ج - هواة الموسيقى الصرفة - شرقية كانت أم غربية، متذوقو الايقاع في الفن - سيحبون لوحتي الى حد الاقتناء.
د - بعض الأدباء والشعراء سيحب لوحتي الى حد الاقتناء.
كان الحوار مع النفس بتلك البساطة التي تقترب من البديهية قناعة ورؤيا لطريقي الذي راهنت عليه مؤمناً به. أخرجت الفنانين التشكيليين عمداً في حواري هذا لأنني آمنت دائماً أن اللوحة تتوجه للجمهور وليس الى زملاء المهنة.
اخترت أتيلييه القاهرة لحبي هذا المكان الذي قدم فيه أساتذتنا السابقون معارضهم الجادة، أمثال رمسيس يونان وفؤاد كامل ولا أنسى ترحيب كبيرنا راغب عيّاد عندما كنا صغاراً نذهب الى هذا المكان بوجل وخوف تزيله عنا ابتسامة هذا الرجل، بالاضافة الى ترحيب أنور كامل بنا. اعترض صديقي النحّات عوني هيكل قائلاً: ان حالة أتيلييه القاهرة الحالية تجعله مكاناً غير مضيء للوحاتك ونصحني باللجوء الى المراكز الثقافية الغربية ورددت عليه باصرار: لو أعادت لوحتي للمكان ازدهاره كان في هذا رد للجميل. العرض الفني له شروط تعلمتها من ذلك الفن الباريسي في العرض الذي تعلمته بفضل رحلة باريس. العرض ليس تعليقاً للوحات فقط لكنه سيناريو ابتداء من الدعوة الى الملصق الى الحوار الفني الدائر في العرض. الدعوة الملونة ضرورة. الملصق ضرورة أيضاً. الندوة في الفن أو في الابداع الأدبي المصاحب ضرورة أيضاً. حققت كل هذا في معرضي الأول وبامكانياتي الذاتية ضارباً عرض الحائط بالافتتاح الرسمي الذي يفسد العرض من وجهة نظري، فأنا أمقت قص الشريط أو وضع الجمهور في حالة تدعوه الى أن يعتبر نفسه متلقياً من الدرجة الثانية حيث أن مفتتح المعرض هو متلقٍ من الدرجة الأولى. كان الجمهور هو ما يعنيني وما اعتقدت فيه. مشكلة وضع سعر اللوحة واجهتني بحسم. كان ثمن لوحتي في باريس سيحجب عن المتلقي المصري امكانية الاقتناء باستثناء قلة لم تكن هدفاً لي. تخيلت المقدرة المادية لهذا الجمهور المتخيل حتى الآن والذي سيرغب في اقتناء لوحتي. اهتممت بأسفل السلم من حيث المقدرة المادية حتى وصلت الى قناعة بأن التقسيط المريح قد يدعو بعض غير القادرين على دفع ثمن للوحة مرة واحدة الى الاقتناء. في ذلك المناخ وبفضل هذا التوجه قدمت معرضي الأول عام 1980 في قاعات أتيلييه القاهرة كلها مرة واحدة ولمدة شهر كامل. بيعت خمس لوحات بأثمان زهيدة تراوحت بين 80 جنيهاً للوحة والحد الأقصى للثمن في هذا المعرض كان 350 جنيهاً. اقتنى بعض الأدباء لوحات لي بتقسيط مريح بلغ عشرين جنيهاً شهرياً. 1000 جنيه كان حصيلة المبيعات التي وضعتها في خمسة مغلفات وأعطيتها لتلك السيدة العظيمة زوجتي التي قاسمتني دائماً متاعب الفن وبعض بهجته.
اختصرت مصروفي الى الحد الأدنى معتمداً على أصدقائي الذين اشتروا لوحاتي بالتقسيط. صدقوني مر العام الأول بعد قرار التفرغ وأنا غير قادر على الجلوس في المقهى الذي هو ضرورة لي. توقفت عن تدخين السجائر فأنا غير قادر على شرائها واستبدلت بتدخين السجائر "المعسل" الذي أدمنته بعد ذلك باكو المعسل بعشرين قرشاً والتدخين في المنزل مرت السنة الأولى شديدة الصعوبة لكن التفرغ للفن كان الثمن الحقيقي الذي يجعل من تلك الصعوبة شيئاً محتملاً. معرض سنوي للوحاتي. الاقتناء يزيد قليلاً والصعوبة تقل قليلاً. خمس سنوات حتى وصلت الى حد الاعتدال في حياتي. تحقق مشروع تفرغ فنان وكُسرت القاعدة التي تقول أن "الفن في مصر مبيوكلش عيش" كنت قد أقلعت في تلك السنوات الخمس عن الرسم للأطفال فقد كان دخل تلك المهنة سيحجب عني تحقيق القانون باطلاقه.
قانون جديد قد تحقق: أن الفنان المصري يستطيع أن يحترف الفن. لماذا كل هذا؟
إذا رجعنا الى مجمل تاريخ الحركة التشكيلية نجد أن فنانينا الأوائل حققوا بالوقت المتبقي بعد عملهم فناً وضع علامات وبصمات على صفحة كانت بيضاء، لكن، بعد مرور ثلاثة أرباع القرن كان على من يريد أن يضع بصمة في حركة الفن المصرية أن يعطي كل وقته للفن حتى يصل الى حده الأقصى وهو ما تمنيته لنفسي، ولم يكن هناك طريق آخر لتحقيق ذلك غير التفرغ الكامل والاحتراف أيضاً. ما أسعدني بما فعلت.
لم يكن من الممكن تحقيق هذا من غير تلك الزوجة التي كانت أول من آمن وأعطت روحها وجسدها وحياتها لمشروعي في الفن وهذه حقيقة وبعض اعتراف بالحق ونسبته الى مستحقيه. وبهذا يجب القول بأنه مشروعنا الفني فشكراً لتلك السيدة المصرية التي أعطت من دون مظهرية أو بحث عن شهرة كاذبة.
شعر وشعراء
اقترح الصديق الفنان الكبير حامد عبدالله على شاعرنا الكبير احمد عبدالمعطي حجازي كتابة مقدمة لمعرضي في غاليري لارو في باريس، يفاجئنا الشاعر بقصيدة جميلة اسمها "آيات من صورة اللون". يترجمها جمال الدين بن شيخ الى الفرنسية، ويلقيها أحمد عبدالمعطي حجازي ليلة الافتتاح بالعربية لجمهور العربية وبن شيخ بالفرنسية للجمهور الفرنسي، أقتطف منها أبياتاً.
"قطرتان من الصحو
في قطرتين من الظل
في قطرة من ندى
قل هو اللون
في البدء كان
وسوف يكون غداً
فاجرح السطح ان غداً مفعمُ
ولسوف يسيل الدمُ
وردة أم فم
هذه الورقات التي تمسح الآن صدري،
وقبرة تتنفس تحت الاصابع
أم برعم
نهدها...
نخلة أنت أم سلمُ
وأنا خنجر طالع
أم هلال تحدر بين الترائب
حتى اختفى في الذوائب
ثم بدا،
جسداً،
وارتدى،
جسداً".
كان هذا اللقاء بين الشعر وبين مائياتي لقاء أول في أجمل مستوى وأرفعه. تربيت كما قلت وسط الأدباء والشعراء، وكنت قبل رحيلي أعرف وأتلقى كل كلمة مكتوبة فور ابداعها ولا أقول فور نشرها، ضاع مني كل هذا خلال سنوات عشر أقمتها بباريس، يحضر الى معرضي شبان ذاك الوقت - يرون ويتعرفون واكتشف أنهم شعراء "إضاءة" و"أصوات". بخبث فني أمارسه دائماً أحببت ان أتعرف على أعمالهم فعندي هواية تلقي الشعر بأصوات مبدعيه، ليلتقي الشعر بالفن التشكيلي في ندوة بأحد معارضي، يفاجئني هؤلاء الشعراء بقصائد مهداة الى مائيات عدلي رزق الله، عبدالمنعم رمضان بقصيدته الرائعة "ناريمان عدلي رزق الله" ومنها:
هذا الحب
وهذي الكلمات المنسية
تتأخر حين أرى أجساد نسائك
أنت تقص عليّ تباريح الألوان
وتقص على أوائلها
الرحم كبير مثل الأرض
الرحم مساحة أغراب تتحاذى
وأنا اتجه الى أشجارٍ
لا تتوقف فوق مساكنها
أسرار الماء
وتوقيتات الريح
أمسك فرعاً من وطنٍ مغلوبٍ
اسأل بعض العرافين عن الأمشاج
فتنقصف الاغصان
جسدُ
يدخلُ
في جسدٍ
يتوالد هذا الرحم الواضح مثل الأرض...".
ووليد منير يكتب قصيدة تحت عنوان "مائيات عدلي رزق الله"، ومنها:
"تخللتني زرقة
واتسع الهواء
وشف حولي جسد الكون فصار الكون زهرة
وامرأة
وماء
أيتها الأنوثة المغلولة الصدى
أيتها النار التي تدخل لحم النار
كيف تؤولين هذا الكتر؟
وكيف تسبحين بي نحو فضاء داخلي؟
يتحدى خارجي
كيف تخامرينني
فتعتريني رعشة
ويستقر في دمي هذا الأسى البعيد...".
وأمجد ريان يكتب قصيدة "مقاطع الى عدلي رزق الله"، ومنها:
"ها أنذا أتدحرج بين مجازياتك
وها أنت ذا تجرد الصرخة
كي تصبح ومضة...".
أفكر ملياً في تلك الظاهرة لاحتفاء الشعر بمائياتي وهو أولاً وأخيراً شعر صرف يحسب للقصيدة. أجد إجابة تخايلني واعتقدها: ان في لوحتي تكثيفاً شعرياً لأ ....
في وقت لاحق وفي لقاء بالشاعر سعدي يوسف في معرض القاهرة للكتاب يهدي الى مائيات قصيدة جديدة. أحتفي بها بكل الخجل الذي يغمرني حين سماع الاهداء الى لوحاتي. وبمرور الزمن يزول الخجل واستمتع بثراء الفن الذي يتخصب بالالتقاء ويسري الفن بعضه بعضاً.
إدوار الخراط وبدر الديب
في الستينات قرأت "حيطان عالية"، المجموعة القصصية المتفردة ذلك الوقت والتي لفتت نظري بشدة إلى اسم ادوار الخراط، لا أعرف لماذا حينما اذكر ابداع ادوار الخراط ذلك الوقت أتذكر مجاورة له اسم يوسف الشاروني. تصدر مجلة "جاليري 68" أقرأ فيها مجدداً عملاً قصصياً قصيراً لإدوار الخراط يلفت نظري بشدة إلى اسمه مرة ثانية. إذا قلنا ان اللون هو لغة الفن التشكيلي، فإن اللغة هي اللون في الكتابة، ثراء لغوي هو مبعث استمتاع فني شيق بكتابات إدوار الخراط، لم أعرف الرجل حتى ذلك الحين وأعود من رحلتي الباريسية في السبعينات لأعرض أعمالاً في القاهرة من بداية الثمانينات، يأتي إدوار، قصير القامة ربع العود، عيون تلمع بذكاء خارق يكاد يخترق لوحاتي، أرى ذلك متلصصاً عليه فأنا لا أحب مزاحمة المتلقي بجسدي أمام لوحتي. حين الانتهاء من جولته التي تأخذ وقتاً طويلاً متأنياً يهمس إليّ بكلمات اعجاب وإطراء أخاف منها، لا يهمني الاستهجان لكنني أخاف المديح الذي انتظره بالطبع. يقول لي إدوار في إحدى المرات: إنك ترسم ما أحلم بكتابته ولكن تلك امكانيات التشكيل التي لا نستطيع منازلته فيها. أرفض كلامه مؤثراً سلامتي. اطلب منه كتبه التي نشرها أثناء غيابي، يهديني الزمن الآخر، عند قراءته أعرف مدى مجاملة إدوار حين قال لي انه لا يستطيع منازلة التشكيل فقد فعلها في كتابةً رامه الانثى/ الفن. الالهة الأم/ الوطن. أليس فيها تلك الرامة موازاة كاملة للآلهة الأم في أعمالي. أعرف قدر الاتفاق بيننا دون إلغاء لمسافات من الاختلاف، أهديته إحدى معارضي قائلاً: إلى ابداعات إدوار الخراط التي كسرت طوق الوحدة. ويفاجئنا إدوار في الندوة التي اقيمت سنة 1986 بقاعة اخناتون بمجمع الفنون بإلقائه ولمدة سبعون دقيقة كاملة نصاً يفوق في الأهمية كل ما كُتب نقداً عن أعمالي حتى في باريس نفسها، يصدر في كتاب لاحق تحت عنوان "مائيات عدلي رزق الله"، تقوم بيني وبين إدوار الكاتب والإنسان معاً صداقة أأتنس بها في الفن وفي الصداقة معاً، بفضل جلساتي مع إدوار لا أتعرف فقط على كتاباته ولكن أيضاً على كل من يتحمس لهم إدوار من الكتّاب الجدد الذين أنا في حاجة ماسة إلى معرفتهم ومعرفة كتاباتهم بعد غيبتي الباريسية وهذا فضلٌ يذكر له. نختلف أحياناً واشاغبه بخبث الأصغر سناً على انحيازاته أحياناً خاصة في الفن التشكيلي متهماً إياه بأن أغلفة كتبه لم تُرسم بعد، رغم ان راسميها هم أصدقاؤه من الفنانين، يوماً تتاح لي فرصة مشاغبته فنياً فيما أقول به. دار الآداب البيروتية تنشر لإدوار أعماله الكاملة ويتاح لي فرصة رسمها، ستة أغلفة لست كُتب من أعماله، ارسم الأغلفة لأقدمها لإدوار وأراهنه عليها، غير واضع اسم الكتاب على أي من هذه الأغلفة المرسومة، غير راسم لأي عمل توضيحي من النص مباشرة وأقول لإدوار مداعباً ومعابثاً: إن أخطأت في معرفة غلاف لأي كتاب كسبت أنت الرهان، وإن لم تخطئ سأكون أنا الرابح، لم يخطئ إدوار معرفة كتبه وربح الفن وسررنا معاً. مسرة فنية فائقة بين كاتب وفنان أو بين كتابه وفن. دعوت إدوار دائماً لكي يلقي عن كاهله ما ضيّع على فنه الكثير - إن كان قد ضيعه - بأثقال الوظائف التي أعطاها وقته مخلصاً كعادته دائماً. منذ ذلك الوقت تدفق شلال ابداع إدوار الذي يفيض علينا وعلى الفن دائماً. نحن والكتابة العربية أحوج ما نكون إلى ذلك الابداع المتميز والجميل. جمال هذا المبدع الذي لا يتكرر مرتين، أشكر الحياة دائماً أنها جاورتني بهذا الابداع والانسان أيضاً فما أحوجني إليه، مرة أخرى أقول إنه كسر من حولي طوق الوحدة.
يكتب تأويلاته السبع خلال سنوات. كنت اداعبه عليها قائلاً: عندما تضيق بالكتابة عن أعمالي وأنت المبدع أصلاً تكتب تأويلاتك ومنها: "تأويل أول إلى عدلي رزق الله: بوارق الغضب"، واقتطف منه هذه السطور:
"مدفأة الرحم المكنونة بذخُ الداخل البلوري.
عظام سائلة بركانية لحمم انبثاق الأصفر الكموني الفتّاح في قلب الزرقة الرخامية الكابية قضبان وأسوار مكسورة على سماء غاضبة أشواك الصبّار حنان القبلة غير التامة أبداً.
القرد الإلهي القديم تعويذة فيروزية عاقلة في قلب الجمُوح.
دخول السماء البيضاء المحترقة في قلب لحم الجسد عبر الزجاج المنير اللامع طعنة نور طعنة لحم جوهرة مكسورة في مخالف مشرعة هي نفسها أوراق الورد المخملية.
ركن الجسد سائل وقوامه متخثر.
أما الوجه الأنثوي المتشطيّ داخل رِحَمِه داخل عباءته النباتية فهو أيضاً نخلة بنفسجية كعباد الشمس.
وموج البحر قد تجمد في بلورات الرمل تحت قدمي امرأة نخلة تقف على سماء آسنة.
احتضان الأشباح التي تحولت نوراً لشجرة العذاب.
عدوانية اللحم صرخته في وجه القهر.
تسبيح للخصوبة والأنوثة وانكشاف البؤرة بلا مناعة هو التحدي النهائي.
هللويا للجسد، هللويا للسماء في الجسد ...".
يقدم لي إدوار الخراط مخطوطة بخط اليد وبابتسامته الساحرة يقول: إقرأ هذا الكتاب وإن تحمست سنقدم الكتاب معاً للقراء، فإن صاحبه عازف بطبيعته عن البحث عن نشر أعماله. أقرأ الصفحات لتأخذني في بحر الفن المتلاطم الأمواج. يغرقني الكتاب في لذة فنية لم أعرفها من قبل، قراءة الكتاب قد لا تستغرق أكثر من ساعتين لكن النص يحتاج إلى أيام بل شهور لقراءته حقاً وهل يُقرأ أبداً نص بدر الديب.
تحيلك كتابات بدر الديب إلى مواجهة جهلك المقيم، تدعوك القراءة إلى أحد موقفين لا ثالث لهما. أن تتهمه بالصعوبة مؤثراً السلامة أو أن تراجع نفسك لكي تتعلم بموازاة قراءة النص بقراءات أخرى في ثلاثة اتجاهات. كتاب ألف ليلة وليلة وكتاب الكوميديا الالهية لدانتي والأدباء وخاصة الشعراء الفرنسيين، كانت تدعوك كتاباته إلى المجاهدة لكي تتلقى وتثمر حياتك بالمعرفة عن طريق الفن، وكان "كتاب حرف ال ح" الذي رسمت غلافه وأشرفت على اخراجه وأهديته إلى كل من أحب وما زلت أفعل ذلك، اعود إلى الكتاب كثيراً وأعرف انني لم أقرأه بعد.
يصطحب إدوار بدر الديب إلى أحد معارضي وكان في قاعة عبدالمنهم الصاوي التي أشرفت عليها صديقتي الأبدية ناهد أبو النجا. يغرد الرجل احتفاءاً بلوحاتي، يشير إلى لوحة قائلاً: "هذه هي السين والطلسم. وأمام لوحة أخرى يقول حاسب كريم الدين، يريد أن يكتب شيئاً وأنا عازف عن وضع ما يكتب عن معرضي بعد أن سوّد كثير من الجمهور صفحات لم أحب قراءتها فاعتذر له، بعد قليل يعطيني بدر الديب ورقة عليها سطور مكتوبة عن لوحاتي، بخجل أضعها بين أوراقي. في اليوم التالي يسألني تليفونياً: هل قرأت ما كتبته لك. اعتذر له بأدب عن انني لم أقرأ ورقته بعد، يقول لي أنت مدعو على مشروب الآن لأن الورقة سقطت منك وهي معي الآن. اذهب إليه لأقرأ كلماته التي لم تتعد خمسة سطور، ولكن بها ما لم يكتبه الآخرون في صفحات كاملة عن فني:
"المعرفة عن طريق الجسد كان هذا هو طريق ابداع بدر الديب نفسه وقد كان طريقي أيضاً.
ثراء فادح من دفء البدن، وحرارة الروح تمتزج فيه الأطراف والحواس لتصل إلى تواجد هو سحر الفن وحقيقة الحياة.
لا يمكن العبور من لوحة إلى لوحة لأن لكل لوحة أبواباً على طرقات لا تنتهي.
اللون يصنع اللمس، واللمس يصنع الرؤية ومنهما معاً تتحقق قرابة لا رد لها".
جارح أبداً بدر الديب، شرس أبداً، إما أن تقبل هذا الطريق الذي يدعوك إليه وإما أن تهرب مؤثراً السلامة. اقترفت صداقة الرجل الذي لا مثيل له في حلقات ابداعنا، ثقافة عريضة لم أجدها في أحد من قبله أو بعده. يتهم نفسه طوال الوقت بالجهل ويترفع عن منازلة الأقزام، منذ تلك البداية يؤثرني بدر الديب بمثل ما يؤثر به ادوار الخراط أيضاً ونكون أول المتلقين لأعماله.
يعطيني كتابه "اجازة تفرع". أقرأ النص لأداوم قراءته لمدة شهر كامل بمتعة فنية أجدها دائماً لديّ. ارسم غلاف الكتاب وأعطيه للسيدة سميرة الكيلاني. عندما أرى "ماكيت" الكتاب أصرخ قائلاً: إن من أخرج هذا الكتاب لم يقرأ النص. وأسأل السيدة سميرة الكيلاني ان تعطيني النص لاخراجه كما يجب. قراءة نص لبدر الديب تحتاج إلى توقف بين الفقرات حتى تستطيع التقاط الأنفاس والتمتع بتلك الطريقة في الكتابة. أخرج الكتاب بفواصل بيضاء بين الفقرات، تختلف مساحة البياض وفق حجم التوقف الزمني الذي تحتاجه القراءة كما يجب أن تكون.
اعطي النص بعد اخراجه هكذا إلى السيدة سميرة الكيلاني. بعد أيام ينتابني الرعب فقد تدخلت تدخلاً مباشراً في التحرير وكان يجب عليّ استئذان الكاتب الموجود في الرياض في السعودية. اتصل بالسيدة سميرة الكيلاني محذراً اياها من فعلي، تضحك قائلة لقد ارسلت ما فعلت إلى الكاتب وقد وافق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.