الأزهار التي أضاءت لوحاته لسنوات انطفأ بريقها. الطيور الجامحة التي كان يرسمها تحط الآن مستسلمة استعداداً للرحلة الأبدية. وها هي تلك النخلات المترعات بالخير، والبنات المحلقات، والنسوة المستحمات بالضوء جئن اليوم ليلقين عليه نظرة الوداع. أما هذه السماوات الزرقاء والحيطان الطينية والمفازات التي لا نهاية لها فقد امتلأت بأصوات هؤلاء الذين سبقوه إلى العالم الآخر. رحل الفنان المصري عدلي رزق الله بعد صراع طويل مع المرض. ويعد رزق الله أحد الأسماء البارزة في الساحة الثقافية المصرية، بدأ مساره الفني منذ تخرجه في الفنون الجميلة عام 1961، وقد التحق بمعهد الدراسات القبطية واحتك بالفنانين حبيب جورجي وراغب عياد وهما من رواد الحركة التشكيلية المصرية وكان صديقاً للمعماري المصري ويصا واصف. ورحل إلى فرنسا عام 1970 حيث يدرس الفن في جامعة ستراسبورغ، وعمل في التدريس سنوات عدة في الجامعة نفسها. وفي باريس رسم أولى لوحاته المائية، تلك الخامة التي ظل مخلصاً لها طوال حياته الفنية، وأبدع بها غالبية أعماله. وبعد عشر سنوات قضاها رزق الله في فرنسا قرر العودة مرة أخرى إلى القاهرة في 1981 لينخرط في الحياة الثقافية المصرية عبر أعماله ومعارضه، وكذلك كتاباته ومشاريعه التعليمية الموجهة للصغار. عُرف عنه ارتباطه بالحركة الأدبية وعلاقاته الحميمة بالكثير من الكتاب والشعراء المصريين والعرب. عمل لسنوات عدة رساماً في دار «الهلال» ومشرفاً على دار «الفتى العربي» للنشر قبل أن يتفرغ لمشاريعه الإبداعية. كتب رزق الله مؤلفات عدة، كان أبرزها سيرته الذاتية التي طبعت في ثلاثة أجزاء، وكتاب «7 تأويلات و7 مائيات» بالاشتراك مع إدوار الخراط، إضافة إلى مجموعة أخرى من المؤلفات التي كان يهدف عبرها إلى نشر الثقافة الفنية، ومنها كتاب تحت عنوان «ماذا حدث في القرن العشرين في الفن الغربي» وصدر في عشرة أجزاء. ورسم وكتب أيضاً للأطفال مجموعة كبيرة من القصص المصورة، وله في هذا السياق سلسلة تعليمية موجهة للصغار تحت عنوان «تمر». وحصل رزق الله على عدد من شهادات التقدير والجوائز المحلية والدولية عن أعماله ومؤلفاته، منها الجائزة الشرفية للمجلس العالمي لكتب الأطفال عام 2000، وجائزة معرض لينبرغ الدولي في ألمانيا عام 1980. رحل رزق الله عن عمر يناهز السبعين سنةً، وبعد مسار طويل حافل بالإنجازات والعمل المستمر، أصبح معروفاً عنه أنه يقضي وقته بين الرسم نهاراً والكتابة ليلاً. وفي أيامه الأخيرة كان يعد مشروعاً لرسم مجموعة من الأعمال من وحي حكايات «ألف ليلة وليلة»، وكان يتحدث عن مشروعه هذا بحماسة شديدة على رغم الإجهاد البادي عليه، ولم يثنه الألم ووطأة المرض عن التفكير في خططه المستقبلية للعمل على هذا المشروع الذي لم يكتمل برحيله. رحل وهو يفكر في وطن كان يشغله في ترحاله، ودفعه الحنين إليه للعودة مرة أخرى للارتماء في أحضانه، وظل يرفض الانخراط أو الدخول في «حظيرة الثقافة» الرسمية كما سماها وزير الثقافة المصري فاروق حسني، وظل مكابراً ومعانداً حتى النهاية. وكان يفخر دائماً بهذه الاستقلالية ويؤكدها في معظم مشاريعه ومعارضه، والتي كان يقيمها عادة بعيداً من القاعات التابعة لوزارة الثقافة.