تستطيع أي مجموعة يزيد عدد أفرادها على 50 شخصاً من المصريين التقدم بطلب الى لجنة شؤون الأحزاب التابعة لمجلس الشورى لتأسيس حزب سياسي، ويشترط قانون الأحزاب أن يكون نصف عدد هؤلاء على الأقل من العمال أو الفلاحين وأن يكون برنامج الحزب متميزاً عن برامج الأحزاب القائمة. وقدمت عشرات الطلبات الى اللجنة التي رفضت غالبيتها فلجأ مؤسسو تلك الأحزاب "المرفوضة" الى محكمة الأحزاب للطعن في قرار اللجنة ونجح عدد قليل من الأحزاب في "الفوز" بالحكم بينما توارى عن الساحة السياسية غالبيتها. لكن الأمر كان مختلفاً في تجربة حزب "الوسط" التي أثارت الكثير من الجدل في الأوساط السياسية المصرية، ولم يحظ مشروع حزب في مصر بذلك القدر من الاهتمام منذ بداية التجربة الحزبية في السبعينات. وربما كان وجود نوع من العلاقة بين عدد من المؤسسين وبين جماعة "الإخوان المسلمين" وكذلك التفاعلات والخلافات التي تفجرت بينهم وبين قادة الجماعة سبباً وراء ذلك الاهتمام غير أن "الوسطيين" يعتبرون أن تجربتهم حققت قدراً كبيراً من النجاح على رغم أن لجنة الأحزاب رفضت طلبهم وعلى رغم أن القرار الذي ستصدره محكمة الأحزاب يوم 9 الجاري في شأن طعنهم على قرار اللجنة مازال غير معلوم. ظهر مشروع "الوسط" على السطح بعد سنة دامية بالنسبة للإسلاميين المصريين، فما حدث لهم خلال العام 1995 اعتبر ذروة الإجراءات التي تستهدف وجودهم. ففي بداية العام اعتقل الدكتور عصام العريان وبعض النقابيين ثم فرضت الحراسة على النقابات المهنية، وقبل أن ينتصف العام كانت أجهزة الأمن القت القبض على الدكتور عبدالمنعم ابو الفتوح وغيره من النقابيين وكوادر الإخوان وأحيل الجميع الى محكمة عسكرية كانت الأولى بالنسبة للإخوان منذ الستينات. وقبل أن ينتهي العام كانت الانتخابات البرلمانية وحقق فيها الحزب الوطني الحاكم نسبة نجاح تخطت 90 في المئة في حين أخفق 150 من مرشحي التيار الإسلامي في الفوز بأي مقعد. كانت مفاجأة "الوسط" في مطلع العام التالي أن المشاركين في تأسيسه خالفوا التوقعات واعلنوا عن طريق طلبهم تأسيس الحزب أنهم مازالوا متمسكين بالقانون والدستور ولن يلجأوا الى العنف مهما توالت الملاحقات الأمنية أو أغلقت النقابات المهنية أو نصبت المحاكم العسكرية. وبغض النظر عن موقف الحكومة من مشروع الحزب أو موقف المؤسسين من الحكومة فإن أبرز ما كشف عنه الإعلان عن تأسيس الحزب حال انفصام داخل جماعة "الإخوان المسلمين" بين جناح "النظام الخاص" المتشدد من شيوخ وقادة الجماعة من جهة وبين جناح الشباب الصاعد صاحب التجربة الطلابية والنقابية الثرية. وجاء "الوسط" كاشفاً لمجهول الحركة الإسلامية في مصر ومكنونها وفي القلب منها جماعة "الإخوان المسلمين" وأظهرت التفاعلات والعلاقة بين قادة الجماعة والمشاركين من أعضائها في تأسيس الحزب سيادة منطق العنف والصدام بدلاً من الاحتواء داخل الجماعة، فبدلاً من أن تتصرف "القيادة" مع شباب "الوسط" بقدر من الحكمة والمرونة كان رد الفعل عنيفاً وإذ بالقادة الذين تخطى سن غالبيتهم الخامسة والسبعين يغضبون ويصفون شباب "الوسط" بأنهم "كفرع الشجرة الذي سيذبل لا محالة لأنهم اختاروا الابتعاد عن الجماعة". ولم تمر سوى أسابيع حتى دفعت إجراءات قادة الجماعة اثنين من مؤسسي الحزب للاستقالة وهما المحامي عصام سلطان والمهندس ابو العلا ماضي، وحينما اعترض البعض على الطريقة التي تعامل بها القادة مع قضية "الوسط" صدرت قرارات بفصل الدكتور محمد عبداللطيف والدكتور صلاح عبدالكريم. وأخطر ما اسفرت عنه تجربة خروج "الوسط" من قلب الإخوان هو سقوط كثير من الأمور التي كانت تعد داخل أوساط الجماعة من المقدسات، ولا شك في أن حال التماسك الظاهري التي كانت تتمتع به الجماعة داخل مصر على عكس الاقطار الأخرى يأتي بسبب الكم الهائل من المقدسات القائمة على العديد من المجاهيل التي سرعان ما انكشفت نتيجة للصراع الدائر بين قادة مكتب الإرشاد وشباب الوسط. وكان أهم تلك المقدسات هو "عدم الخوض في كيفية إدارة شؤون الجماعة"، فحينما كان الفرد الإخواني يطرح سؤالاً في هذا الصدد فإن الإجابة سرعان ما تأتي من القيادة بأن السؤال يعكس "اهتزاز الثقة في نفس الأخ"، الأمر الذي يستلزم زيادة جرعة الثقة بحلقات التربية من خلال الأسر والكتائب. وهكذا ايضاً كانت الاجابات عن باقي الأسئلة لا تعد اجابات حقيقية، وحينما ظهر الخلاف مع "الوسط" بدأ شباب الجماعة في طرح عشرات الاسئلة ولم تستطع القيادة الرد ولم تعد مبررات عدم الرد مقنعة. والسؤال ما هو مستقبل الوسط الحزب والأفكار في حال رفض المحكمة طعن المؤسسين ما يعني رفض منح الحزب الترخيص. ولا شك في أن قادة الإخوان يراهنون على انتهاء مشروع "الوسط" بصدور حكم قضائي، ويرون أن الزمن كفيل بحل المشاكل التي تفجرت وحل الخلافات التي تصاعدت منذ بدء الإعلان عن تأسيس الحزب داخل أوساط الجماعة. وليس سراً أن قادة الإخوان يؤسسون وجهة نظرهم على أنه إذا كانت الدولة هي مصدر الشرعية القانونية "تمنح التراخيص لمن تشاء وتمنعها عن من يعارضها" فإن الإخوان هم مصدر "الشرعية الأصولية"، التي تحيي أي تنظيم إسلامي أو تحكم عليه بالموت على أساس أن جماعة "الإخوان" هي التنظيم الأم. ويعكس ذلك التوجه نظرة الاستعلاء التي تسيطر على غالبية قادة الإخوان وتسببت في ابتعاد عناصر مؤثرة عن التنظيم فضلاً عما أحدثته من عزلة سياسية تحياها الجماعة. غير أن احتمال رفض منح الحزب الترخيص يطرح سؤالاً يتعلق بمستقبل العلاقة بين هؤلاء الذين خرجوا من الجماعة وفضلوا الاستمرار في إجراءات التأسيس بالمخالفة لأوامر القيادة وبين الجماعة نفسها. ولا شك في أن الفترة الماضية أفرزت من التناقضات ما يجعل احتمال عودة هؤلاء الى حضن الجماعة أمراً مستبعداً، بسبب النقد الذي وجهه كل طرف الى الآخر وصل الى حد الإدانة. وذلك أمر لا يغتفر في أدبيات الحركات الإسلامية عموماً والإخوان خصوصاً، فالنقد المتبادل تسبب في قطع العلاقة وصار من الصعب وصلها مرة أخرى. وفي تاريخ الحركات الإسلامية فإن المنشق إما أن يختفي تماماً وهو ما حدث مع مجموعة "شباب محمد" التي انشقت عن الإخوان في الاربعينات، أو أن يقيم تنظيماً آخر كما حدث مع العناصر التي خرجت عن الجماعة في الستينات وكونت تنظيم الجهاد، ولا توجد سوابق تشير الى أن أحداً خرج من الإخوان وعاد الى الجماعة مرة أخرى. فالخبرات السابقة تؤكد ان طريق الانشقاق عن الإخوان يسير في اتجاه واحد: طريق بلا رجعة. عموماً فإن صدور حكم برفض الطعن سيصب في مصلحة الإخوان على رغم الانتقادات التي قد توجه إليهم بأنهم استُخدموا لضرب مشروع الحزب، ولعل قادة الجماعة يعتقدون أن الزمن كفيل بتجاوز تلك الانتقادات. أما بالنسبة للوسطيين فإنهم لا يعتبرون أنفسهم مجرد مشاركين في تأسيس حزب، وإنما أصحاب مشروع وطني وحضاري وحركة سياسية تعبر عن تيار ينتمي الى الحضارة العربية الإسلامية يتفاعل مع الآخر ويتخاطب مع الواقع ويستوعب الحال الإسلامية المتأججة في الشارع المصري بغير تنظيمات سرية أو خلايا عسكرية. والحقيقة أن برنامج الحزب يبين أن المشروع واسع الإطار ويتلاءم مع أفكار وقناعات قطاعات واسعة بدرجة تفوق كثيراً فكر الإخوان الذي يحتاج الى نوعية خاصة من الجماهير. فالوسط أكثر رحابة ولا يفرض كما هو الحال بالنسبة للإخوان شروطاً على من يريد الارتباط به. ولأنه يعبر عن فكرة سياسية مرنة فهو أكثر ملاءمة للأقباط بينما لا تقبل حركة الإخوان سوى نمط معين للتدين حتى بين المسلمين. ومن بين المميزات المهمة لدى الوسط أنه فتح الباب واسعاً أمام التعامل مع القوى السياسية الأخرى من دون التقوقع الذي وقعت فيه جماعة الإخوان وتسبب في وجود حال نفور بينها وغيرها من القوى السياسية. ومشكلة الوسط أنه اعتمد على أفكار جديدة غير تقليدية ما يتطلب جهداً ووقتاً طويلاً لتحقيق أرضية واسعة في المجتمع. فالأفكار التقليدية والخطاب السطحي الذي يعتمد على الشعارات من دون التجديد أو الابتكار لا يحتاج الى جهد كبير لإقناع القطاعات الجماهيرية ذات المستوى الثقافي والتعليمي المتدني بها. فمعركة تغير الأفكار تحتاج الى جهد كبير وطاقة أكبر، ولعل جماعة الإخوان وعت تلك، لذلك فإنها حينما تطرح فكرة جديدة فإنها دائما تطرحها بحذر وهدوء وعلى مراحل. وأخيراً يظل احتمال حصول الحزب على الترخيص قائماً على رغم أنه ليس الاحتمال الأرجح، وفي تلك الحال فإن من الخيال تصور أن يؤدي ذلك الى زوال جماعة الإخوان بحدوث زحف و"هرولة" نحو الحزب إذ أن تنظيماً بحكم وثقل وتاريخ الإخوان لا يتصور أن ينتهي بهذا الشكل. لكن المؤكد أن حصول "الوسط" على ترخيص سيؤدي بالسلب على الجماعة وأن عدداً ليس صغيراً من اعضائها سينضم اليه خصوصاً هؤلاء المعارضون لأسلوب "القيادة" وظلوا محافظين على عضويتهم فيها لعدم وجود بديل "جاهز" أمامهم. والمهم أن إشهار الحزب سيعني أن مصر ستشهد فاصلاً ممتداً من الصراع بين الطرفين: "الوسط" و"الإخوان".