1 يفاجئك رأي عام. متداول. بسماحة بين أهل الأدب والثقافة والعلم. يخص عمل الشعراء. وأنت كل مرة تحاول أن تفهم ما مصدر الاستمرار في تداول هذا الرأي العام. دون أن يثير نقاشاً جدياً. وأكاد أقول. أساسياً. حول المقصود. بالضبط. من عمل الشاعر. وهذا ما يصعب أن تجادل فيه أحداً. سوى أقربهم إلى نوعية العمل الذي بدونه لا تقوم للقصيدة قائمة. رأى عام يعود كل مرة لينغص عليك وحدتك. ويبعدك عن ما تطلبه منك القصيدة. كما كانت تطلبه من السابقين عليك. في الأزمنة التي كان الشعر فيها ممارسة لها دلالة المخاطرة. ولا يكاد مشرق العالم العربي يختلف في هذا الشيوع عن المغرب العربي. هما معاً يتفقان في النظر إلى طبيعة عمل الشاعر. وهما بذلك يتوحدان في رؤية. ويندرجان في المنظور ذاته. ولا صعوبة في تفسير الرؤية الموحدة. ما دامت أسس الثقافة العربية الحديثة. أصبحت منذ السبعينات. على الأقل. منغرسة في عموم العالم العربي. ومن ثم تجد هذا الرأي معبراً عن وضع ثقافي أكثر مما هو يخص فئة من الأفراد. نتفق أو نختلف معها. في قضايا. عادة ما نسميها خاصة. بل ان التعبير يشمل مرحلة تاريخية. تختلف. تماماً عن المراحل السابقة للثقافة العربية. رغم الطابع التقليدي الذي يحكم حياتنا الثقافية. وعلينا أن نصدق قليلاً. هذا الواقع. ونحن ننتقل من حالة فردية إلى حالة جماعية. تلتئم فيها خيوط الرأي العام. شيئاً فشيئاً. حتى لا نفلت منه. من مناسبة إلى مناسبة. كلما تقدمنا في النقاش. أو كلما اصطدمنا بالحياة العملية أو العلمية. على السواء. في مجتمعاتنا. التي تعيش فقراً ثقافياً يصعب أن نتناول قضية معالجته. بهذا القدر أو ذاك من الحكمة. فأن نصدق لا يدل على موافقة ما. هو فعل يشير إلى ما علينا أن نوليه اعتباراً في تدبير بعض قضايانا الثقافية بدون أوهام. متخلين عن كلمات المجاملة التي نسديها لانفسنا. أو لغيرنا من أجل خلق جو من المودة. وعدم الرغبة في تعكير صفو الكلام. وهذا الموقف غير صحيح. بدلاً من ذلك أن نتخلى عن كل أشكال المجاملة. في حياتنا كلما كنا وجهاً. لوجه. مع رأي عام يرجعنا إلى ما لا علاقة له بفعل الثقافة. كما هو حالنا عندما نكون أمام رأي سياسي لا نتفق معه. أو أكثر من ذلك. رأي ديني. فنحتد. في توضيح الموقف. بصبغة أكثر مما تعرفه سلوكاتنا السياسية. وعلى هذا لا مناص من معادلة بين المواقف الدينية. والسياسية. والأدبية. الشعرية. على الأقل. إن نحن لم نكن في موقفنا من الأدب. والشعر. أكثر جرأة في التحديد. والتوضيح. 2 عمل الشاعر. في الرأي العام. لا يعدو أن يكون محصوراً في كتابة ابيات شعرية. لا تتطلب وقتاً. لأنها بالاجمال قليلة. ويمكن ان نقوم بذلك متى شئنا. أو على الأرجح. في وقت الإلهام. الذي هو مصدر الكتابة. وهو خارج عن مجهود مخصوص. يبذله الشاعر . فالقصيدة تأتيه. وهو يقوم بتدوينها. أو حفظها في الذاكرة. عن ظهر قلب. ولا حدث يثير العجب. قبل ذلك أو بعده. ولو دققنا في هذا الرأي العام. لوجدناه يركز على الوقت القصير. الذي تستغرقه العملية. بكاملها. منحصراً في الزمن الذي هو القيمة المثلى للعمل. وللحياة الحديثة. برمتها. لا أبالغ في وصف هذا الرأي العام. فغالباً ما يفاجئني به أقرب الناس إلى علاقاتي الثقافية. فالباحث. مثلاً. يتذرع بأنه يبذل المجهود القاسي. الطويل. تنقيباً عن معلومة. والآخر لا يمل من عرض الساعات الطوال التي يقضيها في المكتب أو المختبر. عملاً متواصلاً من أجل الوصول إلى نتيجة في مجاله العلمي. ولا تسأل عن أهل العلوم الإنسانية. فهم أقل الناس عملاً. وبذلك يظل. الشاعر. في أقل مراتب العمل. من حيث نوعية ما يعمل. والزمن الذي يتطلبه عمله. وعند المقارنة بين. عمل الشاعر. وعمل الروائي. فإن الغلبة تتم لصالح الروائي. الذي يكتب كماً من الصفحات أكبر مما يكتبه الشاعر. انطلاقاً من متخيلنا عن الكم. كقيمة عليا في زمننا. فلا المكان ولا النوع مما يمتلك الاعتبار. وعلى المنوال ذاته يمكن أن ننظر إلى عمل السينمائي أو الموسيقي. أو الرسام أو المسرحي. وهذه جميعها تظهر فيها نتائج العمل مجسدة في الكم عما هي مجسدة. في أشياء ملموسة يكفي أن نراها حتى نقدر الوقت الذي تطلبه انجازها. مقارنات لا نسعى إليها. هي موجودة. في واقع الحكم أو واقع الرأي العام المتداول عن عمل الشاعر. وقد نستسلم. بيسر ونحن نتابع منطق المقارنة. الذي يعتمد الظاهر. والملموس. تراه العين. أمامها. يصطدم به الجسد. ولا سبيل إلى نكرانه. على أن المقارنة تصبح ذات بعد مأسوي حينما ننتقل من المجال الفني إلى. المجال العلمي. هنا نكون أمام كارثة محققة. لا يمكن بتاتاً. أن نتكلم أمام تكنولوجي. أو أمام خبير في الشؤون المالية والاقتصادية. وهما الطرفان اللذان يدبران الشؤون البشرية. خبرات. ومعارف. ومعلومات. ومعادلات. أي رعب يمكن أن تشعر به وأنت تنصت إلى هذا الصنف من العلماء والخبراء وهم يتناولون بلطفهم عمل الشاعر. 3 هل نستمر في وصف كهذا؟ يبدو لي أن الشاعر. في الرأي العام لا عمل له. أو أن عمله في أكبر تقدير. ينتمي إلى صنف الأعمال الكسولة. عمل اللحظة الأخيرة. خالٍ من التعب. ولا يستحق تسميته. بالتالي. عملاً. انه نشاط. الشاعر صاحب نشاط. ومزاج. وتخيلات. وهذه كلها سريعة الحدوث. في برهة. وها هي القصيدة. التي يمكن أن تسحر الناس. عمل اللاعمل. وقل ما ترغب في إضافته إلى اللائحة القدحية التي نتركها لعمل الشاعر. في زمن لا يسأل عن ضرورة الشعر. ولا كيف يكون الشعر. إن هذا الرأي مقيس على حجم القصائد التي تنتشر بسرعة. في الاحتفالات العابرة بما ليس شعراً. ولا يأتي الشعر. في مناسبات كهاته. إلا ليضاعف الحجاب. بيننا وبين الشعر. رأي عام في زمننا الحديث. الذي انفصل فيه العربي عن تاريخ وتقاليد ومعارف القصيدة. من الجاهلية حتى العصر الحديث. أحمد شوقي الذي يذكر في مقدمة ديوانه ذلك المجهود الذي نمى به موهبته الشعرية. لم يقنع أحداً. بما هو عمل الشاعر. نوعياً. في زمننا الحديث. وندعي. بعد هذا ان الشعر التقليدي كان وفياً للشعر العربي القديم أو للنموذج الأكمل في تاريخ الشعر العربي. وكلما تفرع التأمل. في الجهات العديدة لهذا الرأي العام. كلما حفت بنا اعطاب هذا الرأي العام. ولا سبيل إلى نشر ما هو مضاد. كتابات عديدة. في تاريخنا الشعري الحديث. وخاصة منذ الرومانسيين سعت إلى إثبات وعي مغاير بعمل الشاعر. ولكن ما تبقى. في النهاية. هو أن اللاعمل ميزة عمل الشاعر. نكتب في مقهى. أثناء ركوب الحافلات. في خلاء. بدون ورقة ولا قلم. يعني كل مكان وكل وقت هو لهذا اللاعمل. وماذا ينتظر الشاعر بعد ذلك؟ أي اعتراف يمكن ان ينتظره من الرأي العام. الذي هو. على كل حال. ثقافي؟ الناس البسطاء. لا يفكرون في الأمر. تبعاً للاممكن. ثم لا تتعب نفسك في اختراق سديم خطاب. هو نقيض ما يتطلبه الشعر. وباستعراض المواقف. نصل إلى مشروع السؤال عما ورثناه من تقاليد الشعر العربي أو من علاقتنا بالعالم الحديث. كأن ما عاشه الشعر العربي وما يعيشه الشعر العالمي خارج عن دائرة تفكيرنا. المجد لأصحاب المقررين في شؤون العلم والاقتصاد. وما عدا ذلك فإلى اللهو. ولربما إلى الجحيم. تعابير لبقة. عندما يستوجب الموقف اللباقة. وفي الأساس. لباقة. تخضع لمتطلبات المجاملة. رغم ان وضعيتنا تنتفي معها حتى المجاملة. قليل من الكلمات على صفحة. والشاعر لا عمل له. 4 مسألة مؤرقة. حقاً. لا لأنها تتصل بوضع أشخاص أساسيين في مجتمع وحضارة. بل لأنها تصدر. أيضاً. عن جهل حقيقي بعمل الشاعر. يحدث لشاعر أن ينشئ مقطعاً وهو يركب حافلة. كما يحدث لرياضي أو اقتصادي أن يحل معادلة رياضية أو يعثر على قانون علمي وهو يلهو بتزجية الوقت في مزاولة لعبة الورق. ما الضرر في ذلك؟ وهل هذا هو المعيار الأخير لقياس عمل الشاعر أو الاقتصادي أو الرياضي؟ من يجهر بقول كهذا جاهل بسيكولوجية البحث والابداع. ولكن ذلك لا يدل على شيء. مع أو ضد فهم عمل الشاعر. ينطلق التأمل. بدءاً. من التقني ليتجاوز ما هو تقني. وفي الحالين نكون على خطأ ونحن نعتقد ان عمل الشاعر هو اللاعمل. لا. أبداً. وهو ما علينا الجهر به. ولو لانفسنا. نفاذاً إلى أساسيات كتابة القصيدة. معرفة وإحساساً. على حد سواء. فإن تكتب قصيدة لا يعني. حتماً أن كتابتها متوقفة على لحظة كتابتها. دون غيرها من السابق عليها. حياة بكاملة تختزنها القصيدة. كل قصيدة. مهما ضؤل عدد أبياتها. لو اننا قمنا بإحصاء الأعمال التي يقوم بها الشاعر من أجل قصيدة واحدة لهالنا الأمر. وليسخر من يشاء. لسنا مسؤولين عن الجهل بعمل الشاعر. من طرف الرأي العام. الثقافي. وما ينتج عن ذلك من تراتب في المعرفة أو في الانتاج. ولا في الجهد العضلي الشاعر مسؤول أولاً عن الوعي بما يعمله. هو من يجب أن يتعرف بحرص وشجاعة على سلسلة الأعمال التي يقوم بها أو التي لا تسمح له وضعيته الاجتماعية. المادية. بالقيام بها. اخلاصاً للقصيدة. ليلاً ونهاراً. بين مكتبات. وتربية حواس. وأبحاث ميدانية. على طريقته هو. كما لكل عمل خصيصته الميدانية. 5 عمل شاق طويل النفس يفعل في الجسد مثلما يفعل في الزمن. ذلك هو عمل الشاعر. انه لا يتوقف. بتاتاً. وفي حالة التوقف. يتعرض للخسران. ذلك أول ما علينا الانتباه إليه. عكس ما يوهمنا به الرأي العام. فليس بوسعنا أن نتعلم كتابة القصيدة لمجرد العثور على نزوة. أو على شهوة. هما معاً ليسا كافيين. ولا كانا في يوم ما مبتدأ القصيدة. عمل الشاعر مضاد للكسل. وللتخلي عن التثقيف الدائم. في معارف متعددة. ومتشعبة. هي أساس الشعر. كعمل نوعي. فضلاً عن كونه يخترق الزمن. وكم أسعد وأنا أقرأ أكبر العلماء والمفكرين. في العالم الحديث. يقارنون بين عملهم وبين عمل الشاعر. به يستشهدون. وبه يحتجون. وهم يبلغون الدرجات العليا من القلق والحيرة والاكتشاف. عمل مؤرق. لأنه معرفة مخصوصة. في زمن لا ندرك فيه معنى الزمن.