للمرة الثانية في أقل من ثلاثة شهور عقد زعماء رؤساء "تجمع دول الساحل والصحراء" اجتماعاً على مستوى القمة في العاصمة التشادية نجامينا برئاسة الزعيم الليبي معمر القذافي بين 30 نيسان ابريل و2 أيار مايو لمتابعة الخطط والبرامج المقترحة لتعزيز الروابط الاقتصادية والثقافية والسياسية بين الدول الموقعة على "اعلان طرابلس" بهدف انشاء منطقة تجارة حرة بينها و"مواجهة التحديات الخارجية". يذكر ان زعماء ليبيا والسودان وتشاد ومالي والنيجر وبوركينا فاسو عقدوا أول قمة لهم في العاصمة الليبية مطلع شباط فبراير الماضي، ووقعوا خلالها على الاعلان الذي يعتبر وثيقة ميلاد للمجموعة التي اقترحتها ليبيا في العام الماضي 1997 ودرسها وزراء خارجية الدول المعنية في اجتماع عقد في طرابلس الغرب في أيلول سبتمبر الماضي. واستطاعت طرابلس اقناع كل من مصر وتونس بالانضمام إلى المجموعة، وإن بصفة "مراقب". وبعثت الدولتان بوزيرين لتمثيلهما في القمة الأولى. ويبدو من متابعة القمة الثانية في نجامينا أن المجموعة كسبت أعضاء جدداً من الدول الافريقية، إذ ذكرت الأنباء أن زعماء وممثلين عن سيراليون وغامبيا والغابون ونيجيريا حضروا الاجتماع إلى جانب زعماء الدول المؤسسة. ويعد هذا التوسع نوعاً من النجاح الديبلوماسي للقيادة الليبية على الولاياتالمتحدة، لأن واشنطن بذلت جهوداً مكثفة في الشهور الماضية لاقناع الدول الافريقية المذكورة بعدم التجاوب مع الدعوة الليبية بحجة أنها "محاولة ترمي لخرق العقوبات الدولية" المفروضة عليها. والأهم من هذا ان القمة الجديدة جاءت بعد أقل من شهر على انتهاء جولة الرئيس الأميركي في افريقيا واستهدفت تأسيس نوع من الشراكة الاقتصادية مع عدد من الدول الافريقية، وعكست التضامن الافريقي الواسع مع ليبيا في مواجهة العقوبات والعزلة. وما يعزز هذا البعد في قمة نجامينا برئاسة القذافي الطابع الثقافي الذي تميزت به الزيارة الأولى للزعيم الليبي إلى عاصمة تشاد، وتحويل القمة نفسها إلى شكل من أشكال التحالف الإسلامي العربي - الافريقي في مواجهة العالم الغربي. ولوحظ أن القذافي حرص على توقيت القمة في مطلع العام الهجري الجديد، ومستهل شهر محرم، كما حرص على أن يؤم جماهير المسلمين في صلاة الجمعة الأولى من محرم، وهي مناسبة إسلامية مهمة، شارك فيها حسب تقديرات وكالات الأنباء أكثر من مئة ألف مُصلٍ، وألقى فيها خطبة مطولة ركز فيها على دور أوروبا والغرب في استنزاف افريقيا وفرض السيطرة عليها منذ أيام الامبراطورية الرومانية حتى الامبراطورية الأميركية، مروراً بعصر الاستعمار القديم. وقارن ذلك بالدور الحضاري للمسلمين والعرب في افريقيا ماضياً وراهناً، ودعا إلى توطيد التعاون الافريقي ضد الغرب وأوروبا. كما انتقد وسخر من مساعيها الفاشلة لتحقيق السلام في العالم. وقال لو أنها طبقت التقاليد الإسلامية الخاصة بالأشهر الحرم التي تحرّم أي شكل من أشكال القتال وسفك الدماء لحل السلام في العالم إن لم يكن دائماً فلأربعة أشهر كل عام على الأقل. وما يلفت الانتباه، إلى جانب حضور زعماء وممثلي عشر دول افريقية، حضور عدد كبير جداً من زعماء الطوائف الإسلامية الافريقية الروحيين والفرق الصوفية والقبائل ذات الأصول العربية، ما أعطى طابعاً شعبياً للمناسبة. وشهد القذافي بعد انتهاء الصلاة حفلاً خاصاً نطق فيه حوالى ثلاثة الآف افريقي بالشهادة لاعتناق الإسلام وسط هتافاتهم وتكبيراتهم المدوية. ضاعف من أهمية الحدث كون زيارة القذافي إلى نجامينا هي الأولى له إلى هذا البلد بعد مرحلة غير قصيرة تخللتها الصراعات والنزاعات على أقليم أوزو الفاصل بين الدولتين، ووصلت إلى مرحلة الحرب العسكرية في نهاية العقد الماضي، قبل أن يحتكم البلدان إلى محكمة العدل الدولية التي أصدرت حكمها لصالح الطرف التشادي، وقبول ليبيا به وتنفيذه. وكانت الحرب الليبية - التشادية آنذاك من أهم الأحداث التي زجت كل من الولاياتالمتحدةوفرنسا بقوتيهما فيها لاستنزاف ليبيا والإساءة إلى الدول العربية ودورها في افريقيا عموماً. واستطاعت المحاولات الأميركية والفرنسية آنذاك جني الكثير من الثمار في هذا الصدد، إذ تحولت الحرب ورطة لليبيا كادت تودي بالنظام، حين منيت القوات المسلحة بهزيمة فادحة أمام قوات الزعيم التشادي السابق حسين حبري ووقوع آلاف الجنود والضباط الليبيين في الأسر، والتحاق عدد كبير منهم بتحالف المعارضة الليبية في الخارج الذي ترعاه الولاياتالمتحدة. لذلك يمكن القول إن زيارة القذافي إلى تشاد وإن جاءت في مناسبة انعقاد قمة "مجموعة الساحل والصحراء"، فهي تطوي آخر صفحات الحرب والصراع بين البلدين، وتعيد العلاقات الثنائية بينهما إلى سابق تاريخها الطويل الزاخر بالتفاعلات الشعبية والثقافية العميقة، نظراً لوحدة القبائل التي تتحرك في المنطقة وتنقسم بين الدولتين كما بقية الدول الأخرى، خصوصاً السودان في الشرق ومالي في الجنوب والنيجر في الغرب. وكانت ليبيا على مر العصور نقطة الاتصال البرية بين تلك الدول والعالم العربي والخارجي عموماً، وكان الطريق عبر الصحراء الكبرى إلى تلك الدول عامراً ومزدهراً بالمبادلات التجارية الكثيفة والهجرات البشرية المستمرة، وكان طريقاً دولياً مثله مثل طرق الحرير وغيره من الطرق التجارية الرئيسية في العالم القديم. ولا شك في أن هذه الأبعاد في زيارة القذافي إلى تشاد هي التي دعت اذاعة فرنسا الدولية إلى وصفها يوم الجمعة الماضي ب "الزيارة التاريخية". كما جعلت وسائل الاعلام العالمية تتابع ما جرى فيها، خصوصاً صلاة الجمعة التي أمّها القذافي وألقى فيها خطبته السياسية. وأعادت هذه المناسبة التذكير بالعديد من المواقف التي كان الزعيم الليبي يقوم بها خلال العقدين السابقين لجذب الانتباه العالمي والإعلامي إليه قبل أن تتمكن واشنطن من فرض عزلة خانقة عليه بعد نهاية الحرب الباردة في شكل عقوبات صادرة عن مجلس الأمن الدولي. ويذكر ان انهاء الحظر المفروض على ليبيا يتصدر الأهداف السياسية ل "مجموعة الساحل والصحراء" وكانت عدة دول منها قبلت في الأعوام الأخيرة خرقه وفتحت مطاراتها أمام طائرات ليبية. كما أن منظمة الوحدة الافريقية تبنت موقفاً متضامناً بقوة مع طرابلس الغرب لا يقل عن الموقف الذي تبنته جامعة الدول العربية. لذلك يقال إن ليبيا ارادت بإنشاء المجموعة المذكورة مكافأة الدول الافريقية في الأساس على موقفها ذلك لأن أي مشاريع اقتصادية اقليمية طموحة لا بد ان ترتكز على تمويل ليبي بالذات، نظراً لفقر الدول الأخرى وعجزها عن تخصيص مبالغ كبيرة لمثل هذه المشاريع المحتملة. كما يقال إن الفكرة ولدت في رأس القذافي جراء استيائه من الدول العربية المغاربية التي كان يطالبها بالامتناع عن الالتزام بالعقوبات الدولية. ويربط المراقبون بين قرار القذافي عام 1996 الاعتذار عن عدم رئاسة الاتحاد المغاربي، الأمر الذي أدى إلى تجميده كلياً، وبين سعيه إلى انشاء التجمع الافريقي المذكور بديلاً عنه. لكن النجاحات الديبلوماسية والمعنوية التي حققتها ليبيا على هذا الصعيد الافريقي ستظل مرهونة بجدية المتابعة والتنفيذ نظراً إلى أن التجارب السابقة تظهر "قصر نفس" السياسة الليبية وترددها.