في الأول من أيار مايو 1916 كان الوضع العسكري على الجبهة العراقية، بين الإنكليز والأتراك، في منتهى الارتباك والغرابة. فمن جهة كان الجنرال الانكليزي تشارلز تاونزهند، قد استسلم قبل يومين للمنتصرين الأتراك وعلى رأسهم خليل باشا في الصورة تاونزهند واركان حربه محاطين بخليل باشا، المنتصر، وأركان حربه، وذلك في كوت العمارة التي طوقها الأتراك مجبرين الإنكليز، حتى على الاستنكاف عن الدفاع عنها. ومن جهة ثانية كان الإنكليز قد استكملوا انزال قواتهم الاضافية في البصرة مما ضمن لهم السيطرة عليها، في محاولة منهم لاستعادة مناطق الوسط العراقي التي بدا لهم أن الأتراك يستعيدونها بالتدريج. وكان المطلوب هذه المرة الدفاع عن البصرة وعن المناطق المحيطة بشط العرب دفاع المستميت. وفي ذلك اليوم بالذات وصل لورانس الى البصرة على متن مركب تابع لقيادة الأركان الإنكليزية في رفقة النقيب بيتش، الذي كان قد شاركه التفاوض مع الأتراك قبل استسلام تاونزهند. ولا بد أن نشير هنا الى ان لورانس، خلال زيارته المهمة تلك القوات الإنكليزية المرابطة في البصرة، زار مصنع الخرائط التابع للأركان الإنكليزية والمقام هناك، ودعا الى الاعتماد على صور تلتقط من الجو بواسطة الطائرات الاستطلاعية. وكان ذلك الأمر جديداً على الإنكليز، وان كان الألمان قد بدأوا ممارسته منذ زمن. وفي اليوم نفسه عقد اجتماع في قيادة الأركان في البصرة شارك فيه الجنرال ويب غيلمان المنتدب من قبل وزارته الحربية البريطانية، وكانت غاية ذلك الاجتماع دراسة الصعوبات الحقيقية التي تجابه القوات الإنكليزية خلال الحملة العراقية، ومن ثم وضع الخطط اللازمة للالتفاف على الانتصارات العراقية المحققة شمالاً. ومن الواضح ان ذلك الاجتماع قد ركز أساساً على السهولة التي تمكن بها الأتراك من القضاء على القوات الإنكليزية في كوت العمارة، ودفع تاونزهند الى الاستسلام قبل ذلك بيومين. والحال أن لورانس عرض في ذلك الاجتماع الوضع الذي جابه تاونزهند وقواته، حيث كانت تلك القوات قد حوصرت من قبل الأتراك لمدة طويلة، فيما كانت تنتظر تعزيزات تأتيها من لدن القوات المرابطة جنوباً والتي كانت قد وصلت حديثاً من بومباي. في انتظار ذلك كان تاونزهند قد قام بمحاولات عديدة لفك الحصار، وكانت آخر تلك المحاولات قبل الاستسلام بأسبوع... وهي محاولات اخفقت بعد ان خلفت قوات تاونزهند وراءها اكثر من تسعة آلاف وسبعمائة قتيل. وكانت المحاولة قد تمت عن طريق عملية انزال نهرية، ولكن كان من سوء حظ القوات الإنكليزية المحاولة، ان غرقت سفينة أساسية من السفن المرسلة لانقاذها وعليها 270 طناً من المؤن. لقد غرقت السفينة يومها على بعد 12 كيلومتراً فقط من الهدف المنشود. هنا استسلم تاونزهند أمام فكرة أنه وقواته قد انهزموا، ولم يعد أمامه الا ان يستسلم. فرجاله باتوا منهكين يفتقرون الى المؤن والى الذخيرة. لكنه كان يريد ان يفاوض الأتراك على الاستسلام. أما خليل باشا قائد القوات التركية المحاصرة لقوات تاونزهند، فكان يريد ان يكون انتصاره شاملاً، بأن يكون من دون قيد أو شرط. وهنا تدخل لورانس وزميله اوبري هربرت، عارضين الوساطة بين القوات المحاصَرة والقوات المحاصِرة . وهو أمر أبلغه تاونزهند للأتراك قائلاً ان موفدين انكليزا سوف يصلون وسوف يقودون المفاوضات. قبل خليل باشا بذلك، وقال انه سيفاوض الانكليز في مركب راس في النهر، يوم 27 نيسان ابريل. وبالفعل بدأت المفاوضات، لكن خليل باشا بدا متصلباً لا يريد تقديم اية تنازلات تحفظ للانكليز كرامتهم. كان كل ما يريده استسلاماً كاملاً وشاملاً يحقن الدماء لا أكثر. وبعد الاستسلام، كان بالإمكان ايصال الأطعمة الى القوات المستسلمة. وهنا امام هذا العناد التركي، بعث تاونزهند برسالة الى القيادة في القاهرة يلومها فيها على ما يحدث له وعلى كونها لم تقدم له أي عون حقيقي. إذاً، فشلت الصفقة التي كان لورانس قد حاول اقتراحها على أنور باشا عن طريق خليل باشا. وهكذا أحس الانكليز انهم لا يمتلكون اي هامش للمناورة، ولم يعد لهم إلا ان يقبلوا بالاستسلام، فأبلغ لورانس القوات الإنكليزية بأن عليها ان تلقي أسلحتها. وفي صباح يوم 29 نيسان سمعت انفجارات عديدة داخل معسكرات الإنكليز، وتبين ان تاونزهند قد امر قواته بتفجير المدافع وما تبقى من ذخائر. وعند الساعة الواحدة ظهراً بعث بالرسالة الأخيرة التالية: "من الكوت إلى كافة السفن والمواقع. الى اللقاء وحظاً سعيداً للجميع". ثم دخل خليل باشا المعسكر وأرغم تاونزهند على توقيع صك الاستسلام. ولم يكن اجتماع الأول من أيار في البصرة سوى محاولة لايجاد رد على ما حدث. وما حدث كان، على أي حال، اخر انتصار كبير حققه الأتراك في العراق.