حان الوقت، بل ربما تأخر لفك الارتباط بين الخطاب السياسي الرسمي والخطاب السياسي الجماهيري العربي الخاص بقضية فلسطين - اسرائيل ومجمل الصراع العربي - الاسرائيلي. ولا يعني ذلك ان يتواجه الخطابان بشكل عدائي، وإنما يعني تحرير الخطاب الجماهيري العربي من أثر استعمال المفردات الرسمية، خصوصاً تلك المستعملة في اوراق الديبلوماسية وطاولات التفاوض، وألا يتبع الخطاب الرسمي ويخضع لقيوده، خصوصاً أن اسرائيل تحاسب على الالفاظ المستعملة وتفرض على المؤسسات الرسمية الدولية خطاياً يخفي النيات والمقاصد والتاريخ الصهيوني، مشهرة سيف الاتهام بالعنصرية ومعاداة السامية. بدأ الخطاب السياسي العربي عموماً "مندمجاً"، بحيث عبَّرت القيادات الرسمية العام 1948 وما قبلها بقليل، ثم بعد إعلان دولة اسرائيل، عن قناعات الجماهير العربية ومشاعرها وفطرتها حتى عند تقديم المشاريع السياسية الدولية بلغة ديبلوماسية، ولم يكن هناك خلاف بين الخطابين الرسمي والشعبي حتى بعد حرب 1948، الى ان بدأت مفاوضات الهدنة بين الجيوش العربية من جانب والجيش الاسرائيلي من جانب آخر، واستعمل الخطاب العربي كلمة "الهدنة" ولم يستعمل كلمة التسوية ولا كلمة السلام، كما استمر في استعمال كلمات الصهيونية والاستعمار والاغتصاب. وكانت كلمة اسرائيل تُشفع بصفة المزعومة او دولة العصابات. ولم يكن هناك حرج من استخدام هذه اللغة على المستويين الرسمي والشعبي. بل على العكس، كانت القيادات الرسمية تبالغ في استعمال مفردات الخطاب الشعبي تغطيةً لحالة وقف القتال. ومنذ هزيمة حزيران يونيو عام 1967، بدأت لغة الخطاب الرسمي تتبدل وتتحول تحت ضغط الهزيمة وكذلك تحت ضغط القبول الرسمي مبدئياً بمشاريع وقرارات دولية ابرزها واهمها القرار 242 الذي كان مجرد قبوله في تشرين الثاني نوفمبر من العام نفسه يعني ضمناً القبول بقرار التقسيم المرفوض منذ العام 1947 والقبول بوجود دولة اسرائيل في المنطقة. وكان من الطبيعي بعد القبول بقرار 242 ان يغير الكتاب الرسميون خطابهم ليلحق بالخطاب الديبلوماسي العربي عموماً الذي أخذ يُسرع في مجال الدفاع عن نفسه امام الرأي العام العالمي في إسقاط صفات واسماء وعبارات عدة سبق استعمالها في مخاطبة العالم والداخل، وانزلق البعض من الكتَّاب الرسميين الى درجة إدانة كل الأدبيات السابقة واعتبارها خطأً كلياً، بل طرح بعضهم تساؤلات حول جدوى رفض العرب لقرار التقسيم العام 1947، وتساءل بعضهم عن جدوى استمرار الصراع. ولولا ان المصلحة القومية دفعت القيادات الرسميةالى "فرملة" مثل هذه الانتقادات، لكسبت الصهيونية واسرائيل جولة مبكرة في معركة الاستيلاء على لغة الخطاب العربي. كانت قيادات الجيوش المهزومة في العام 1967 تدرك انها لا يمكن ان تستمر في الحكم إلا اذا تمكنت من إنزال هزيمة - اي هزيمة - بالجيش الاسرائيلي، كما كانت القيادات الرسمية تعرف أن ثمة عقبات ومشاكل تفرض نفسها، وتمنع الوصول الى اي حلول سياسية سلمية قبل خوض معارك عنيفة تفتح الباب لتبرير مثل هذه الحلول. وساهم العمل الفدائي الفلسطيني الذي لقي تأييداً من القيادات الرسمية العربية بسبب حاجتها اليه لشغل العدو الاسرائيلي في الحفاظ على روح الخطاب السياسي العربي المعادي لإسرائيل والصهيونية. بعد حرب العام 1973 قدّرت القيادات العربية الرسمية ان الجولة المقبلة ستكون بحكم موازين القوى وبحكم مواقف القوتين العظميين، آنذاك، اميركا والاتحاد السوفياتي، محكومة بعملية تسوية لا مفر منها تحت سقف القرار 242 المشهور، وبينما اختارت القيادة المصرية خوض هذه التسوية في ظل الأجواء التي ولدها انتصار الجيوش العربية في حرب 1973 والاستمرار في تحريك هذه العملية مادام ذلك ممكناً من دون قتال، اختارت القيادة السورية السير على طريقين معاً طريق التسوية وهو ما فعلته في المرحلة الأولى وحققت به اتفاقية فك الاشتباك على الجولان العام 1974، ثم طريق الاستعداد لجولة ثانية من الحرب وهو ما سارت فيه حتى مؤتمر مدريد العام 1991، مستعملة لغة الخطابين الرسمي والشعبي معاً، وفي الحالتين تحولت القيادتان المصرية والسورية عن لغة الخطاب السياسي الشعبي الشائع منذ بدء الصراع العربي - الاسرائيلي الى لغة الخطاب السياسي الرسمي الديبلوماسي بدرجات مختلفة، وكان طبيعياً أن يتأثر المتكلمون بالخطاب السياسي الشعبي الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى بالتبديلات والتعديلات في الالفاظ المستعملة الرسمية. ولأسباب عدة وطموحات متباينة لقيادات عربية مختلفة، ظل الأمر على ما هو عليه، أي استعمال مزيج من الخطاب السياسي الشعبي القديم والجديد، الى حين مؤتمر مدريد عام 1991. وكانت القوى الدولية وبخاصة الولاياتالمتحدة الاميركية، واسرائيل بالطبع، تعمل طوال الوقت على ترويض القيادات العسكرية والسياسية غير الرسمية المعروفة والمطلوب اشتراكها في التسوية لتتخلى عن مصطلحات تعتبر "راديكالية" وتذكر بلغة الخطاب السابق الذي تفسره اسرائيل بأنه يعني تدميرها، والمثال الأبرز على ذلك هو الحديث الاسرائيلي المتواصل عن الميثاق الوطني الفلسطيني، إذ لا يوجد في هذا الميثاق كلمة "تدمير" بل إن كلمة "تصفية" ارتبطت بكلمة الوجود الصهيوني وهو ما فسرته القيادات الفلسطينية منذ البداية بأنه يعني إزالة الطابع الصهيوني عن التجمعات اليهودية الموجودة على ارض فلسطين ولا يعني أبدا تصفيتها جسدياً. كما ان الميثاق تحدث عن تحرير فلسطين بأنه عمل دفاعي تقتضيه ضرورات الدفاع عن النفس. لم تعد هناك مشكلة بعدما تبنى المجلس الوطني الفلسطيني استراتيجية المراحل. ومع ذلك حرصت الدوائر الصهيونية الاسرائيلية والاميركية واجهزة الإعلام المتأثرة بهما على مطاردة الألفاظ الراديكالية في الخطاب السياسي العربي الرسمي، وتبين مداولات كل الاجتماعات الدولية عند طرح قرارات خاصة بقضايا فلسطين، كيف كانت الولاياتالمتحدة وبعض الدول الغربية تشترط رفع ألفاظ بعينها من الصياغات المقدمة لتوافق عليها. ووصل الامر بعد اتفاقية الصلح المصرية - الاسرائيلية الى تقديم مذكرات احتجاج على اي كلمة ترد في وسائل الاعلام المصرية تراها اسرائيل تحريضاً ضدها وخروجاً على ما جاء في البند الثالث من تلك الاتفاقية. وبغضّ النظر عن ان القيادة المصرية لم ترتّب شيئاً على مثل هذه الاحتجاجات فإن من الواضح ان الخطاب الرسمي السياسي في اجهزة الإعلام تجنب الى حد كبير استخدام عبارات من شأنها إثارة الاحتجاج الاسرائيلي. وأبرز الأمثلة على ذلك تجنب كلمة "صهيونية" في الخطاب السياسي المصري والفلسطيني والاردني اخيراً، بالاضافة الى الإكثار من كلمة "سلام" لوصف العمليات السياسية التفاوضية الجارية واهدافها، ومنذ نجحت اميركا او اسرائيل في إلغاء القرار الرقم 3379 10/11/1975 الصادر عن الاممالمتحدة باعتبار الصهيونية حركة عنصرية واستصدار قرار آخر من هذه الهيئة الدولية في 16/12/1991 يلغي الاول، تراجع الى حد الاختفاء تقريباً استعمال كلمة الصهيونية في وصف الأفعال الاسرائيلية، من المؤسف ان ذلك انعكس على لغة الخطاب السياسي الشعبي أي غير الرسمي ايضاً، حتى كادت الاجيال العربية تنسى كلمة الصهيونية ومعانيها العنصرية. شاعت كلمة سلام على كل ألالسنة وتبارى الكثيرون في إعلان تمسكهم بها لوصف الحالة القائمة الآن بين اسرائيل وجاراتها العربيات والشعب الفلسطيني ايضا، مع أنها حالة لا يمكن ان توصف بأنها حالة سلام بل زادت فيها معدلات العنف، وحتى لو توقف فإن العوامل كلها التي تؤدي الى الصدام لا تزال قائمة وبخاصة التفوق العسكري والتكنولوجي الاسرائيلي وإصرار اسرائيل على عدم التنازل عن ترسانتها النووية. ولا يؤدي استعمال كلمة سلام الآن إلا الى ترويض الرأي العام العربي عموماً وتبرئة اسرائيل من كل جرائمها وإخفاء طبيعتها العدوانية التوسعية، بل إن استعمال كلمة "سلام" يسقط من الأذهان حقيقة ان الصراع العربي الاسرائيلي مستمر وسيستمر حتى لو كان ذلك بوسائل غير عنيفة. هذا الخلط كله نابع من الارتباط الوثيق بين الخطابين الرسمي والشعبي على الساحة العربية، وهو ارتباط استمر ما يقرب من نصف قرن. ولم يكن هذا الارتباط صائباً إلا في مراحل الصدامات المسلحة الشاملة وشبه الشاملة كأيام الحروب الواسعة والاستنزافية والعمليات الفدائية، وآن الأوان لفك هذا الارتباط والاستفادة من ازدواجية الخطاب العربي، بأن يتحدث الخطاب الرسمي بما تفرضه موازين القوى والعلاقات الدولية، بينما يتحدث الخطاب الشعبي بما توجبه ضرورات مواصلة الصراع ضد العدو الاسرائيلي المعتدي. ومن الغريب ان يُطالب العرب وحدهم بإخضاع لغتهم السياسية للمعايير والألفاظ الاسرائيلية والغربية واسقاط كل ما يعارض التسوية والسلام مع الصهيونية حتى ولو كانت من عبارات الإدانة، بينما يسمح لاسرائيل وكل قواها الرسمية وغير الرسمية باستمرار خطابهم العنصري التوسعي بل والدعوة الى القتل والإبادة والترحيل والتهجير وتبرير المواقف العنصرية التمييزية التي تتعارض مع مواثيق حقوق الانسان، وهم يبحثون الآن عن مبررات تبرئ قاتل رابين كي لا ترتبط جريمته بلغة الخطاب الصهيوني الاسرائيلي العنصري المتطرف اليميني. ولا يعني فك الارتباط بين الخطابين الرسمي والشعبي أنهما سيتعارضان ولا انهما لا يلتقيان، فحقيقة ان عوامل استمرار الصراع العربي - الاسرائيلي قائمة، ستفرض نفسها على الخطابين، وأبرز الأمثلة على ذلك هو تطابق الخطابين في ما يتعلق بقضية القدس الشريف، قد يختلف كل من الخطابين الرسمي او الشعبي في تناول هذه القضية ولكن كل منهما سيتحدث متمسكاً بها كمدينة عربية وكعاصمة لدولة فلسطين وكمدينة لا بد ان تكون تحت السيادة العربية الإسلامية، كما كانت طوال القرون الماضية، بل هناك جوانب من التقاطع مع لغة الخطاب العالمي والدولي بشأن هوية القدس ومستقبلها. وكما هو حادث الآن بالنسبة الى القدس وسيزيد بالتأكيد، فإن من المتوقع دائما اقتراب الخطابين وتقاطعهما في حال اندلاع نزاع عنيف ومسلح بين اسرائيل وأي طرف عربي مجاور عندئذ سيغرف الخطاب الرسمي ألفاظه وصياغاته من خزان الخطاب الشعبي القديم والحديث ايضاً. ليست هذه عودة الى الماضي وانما هي عودة الى المستقبل باسلحته الشعبية في عالم تسيره اليوم وسائل المعلومات والاعلام.