بعد انهيار دولة الاتحاد السوفياتي، توقع الكثيرون ألا يطول الوقت حتى تنهار دولة الخدمات الاجتماعية. باعتبار أنها شكل من أشكال النظم الجماعية التي خسرت الحرب الباردة. راجت هذه التوقعات في أوساط الثاتشريين والريغانيين الذين بدوا كأنهم يمسكون بزمام المبادرة في السجال بين ناقدي نظام الخدمات الاجتماعية والمدافعين عنه. إلا أن هذه التوقعات اكتسبت صدقية أكبر عندما ردد بعض زعماء الوسط واليسار في دول الغرب الانتقادات الموجهة إلى دولة الرفاه الاجتماعي، وعندما وعد البعض منهم بتفكيكها. فعندما انتخب بيل كلينتون رئيساً للولايات المتحدة، وعد بإنهاء الخدمات الاجتماعية، كما لمح زعماء حزب العمال البريطاني إلى مشاريع مماثلة. خلافاً لهذه الاعلانات والتوقعات، فإن دولة الخدمات الاجتماعية لم تنته، بل اتجهت إلى المزيد من التوسع والرسوخ. ففي الولاياتالمتحدة أعلن الرئيس الأميركي أخيراً عزمه على توسيع نطاق الخدمات التي تقدمها الدولة الفيديرالية إلى الطلاب ومعاهد العلم، كذلك في حقل التطبيب والصحة والعناية بالأطفال. وبينما يتبنى الرئيس الأميركي مشاريع من شأنها زيادة انفاق الدولة وتوسيع جهازها البيروقراطي، فإن زعماء المعارضة من الحزب الجمهوري الذين كانوا يتصدرون الدعوة إلى تقليص حجم الخدمات التي تقدمها الدولة، يطالبون اليوم بتخصيص بلايين الدولارات لشق الطرق وبناء المرافق العامة، أي لتوسيع دور الدولة في الاقتصاد. وفي بريطانيا وبمناسبة مرور سنة على وصول حزب العمال الجديد إلى الحكم، يلاحظ ديفيد ماركاند، عميد كلية مانسفيلد في جامعة اوكسفورد، فرقاً مهماً بين سياسة حكومة بلير من جهة، وبين مواقف الثاتشريين تجاه نظام الخدمات الاجتماعية، ذلك ان الثاتشريين رغبوا، حتى لو لم يتمكنوا، في تصفية ذلك النظام، اما حكومة بلير فإنها تسعى إلى اصلاحه، خصوصاً على صعيد تأهيل المواطن بالتربية والتعليم والتدريب، لكي يدخل سوق العمل. فضلاً عن ذلك يثبت كتاب حرره هوارد غلينيرستر وجون هليز بعنوان "دولة الخدمات الاجتماعية: اقتصاديات الانفاق الاجتماعي" ان دولة الخدمات الاجتماعية لم تتراجع في بريطانيا خلال الربع قرن الأخير، أي حتى خلال الحقبة الثاتشرية، فبين منتصف السبعينات ونهاية التسعينات ارتفع الانفاق على الخدمات الاجتماعية بنسبة 75 في المئة بالقياس إلى الدخل القومي. الانفاق على الخدمات الاجتماعية ارتفع من 8،3 في المئة إلى 7،5 في المئة، أما الانفاق على التقديمات إلى العاطلين عن العمل والمتقاعدين فقد ارتفع مرتين ونصف مرة خلال الربع قرن الأخير. استمرار الخدمات الاجتماعية في العالم الانكلوسكسوني يوازيه استمرارها ونمو القوى المدافعة عنها في القارة الأوروبية نفسها. فعندما حاولت حكومة الرئيس الفرنسي شيراك الأولى أن تخفض المساعدات الحكومية في مجال التربية والتعليم، تعرضت لردّ فعل غاضب اضطرها للتراجع عن تلك المحاولة. وفي ظل حكومة التعايش الديغولية - الاشتراكية بات تفكيك نظام الخدمات الاجتماعية أكثر صعوبة من قبل. إن وجود قوى اجتماعية وسياسية قوية تدافع عن دولة الخدمات الاجتماعية يعتبر في نظر نقادها، مثل فردريك فون هايك، واحداً من عللها الكبيرة. ففي رأي هايك إن نظامي التقاعد والضمان الصحي يؤديان إلى خلق حال انتخابية تفرض نفسها على السياسيين في الأنظمة الديموقراطية البرلمانية. فالذين يشملهم التقاعد والضمان الصحي سيصوتون ضد المرشحين الذين يعارضون هذه الامتيازات ويوالون من يعد بتوسيعها حتى ولو كانت على حساب الاقتصاد الوطني، أو على حساب اليد العاملة الشابة التي تتعرض ل "القهر الضريبي"، كما يقول هايك، أي سيفرض عليها أن تتخلى عن جزء من مدخولها لكي تغطي تكاليف التقديمات الاجتماعية إلى الشيوخ والمرضى. ولقد راهن نقاد نظام الخدمات الاجتماعية على هؤلاء الشباب وعلى دافعي الضرائب بأمل ان ينحازوا بقوة إلى جانب الاحزاب السياسية والقيادات التي تعدهم بتخفيض "القهر الضريبي" الذي يعانون منه. ونجح الرهان بعض الوقت، ولكن لماذا لم يستمر هذا النجاح؟ لماذا تمكن نظام الخدمات الاجتماعية من الصمود كما أشرنا أعلاه؟ لماذا غيّر زعماء الوسط واليسار، بل حتى زعماء اليمين المتشدد من أمثال غينغريتش في الولاياتالمتحدة وبورتيلو في بريطانيا، موقفهم منه؟ من الأسباب المهمة التي أدت إلى هذا التغيير هو أن نسبة عالية من دافعي الضرائب أبدت تمسكها بنظام الخدمات الاجتماعية في أوروبا والولاياتالمتحدة، لشعورها بأن الضرائب التي تدفعها تذهب، في نهاية المطاف، إلى خدمة المجتمع نفسه. فالشاب الذي يدفع ضريبة تغذي صناديق الخدمات الاجتماعية اليوم يعرف أنه قد يحتاج يوماً ما إلى دعم الدولة ومساعدتها خصوصاً في ظل ظروف ارتفاع نسبة البطالة وعدم الاستقرار في سوق العمل. لكن هذه الأسباب لا تكفي وحدها لتفسير استمرار نظام الخدمات الاجتماعية لولا التحسن الملحوظ في الأوضاع الاقتصادية في دول الغرب، ولولا الاتجاه الذي تبديه النخب الحاكمة في هذه الدول لتطوير هذا النظام واصلاحه. ففي الولاياتالمتحدة تعززت مداخيل الدولة الفيديرالية إلى درجة جعلت المسؤولين يفكرون بمشاريع تشبه مشاريع "محو الفقر" التي كثر الحديث عنها خلال رئاسة ليندون جونسون في الستينات. هناك تحسن موازٍ في بريطانيا، وتوقعات بنهوض اقتصادي عام في أوروبا بعد البدء في استعمال ال "يورو"، أي العملة الأوروبية الموحدة. وفي هذه الدول تقوم الإدارات المعنية بتنفيذ مشاريع تهدف إلى تقليل إتكال المواطن على الدولة وتعزيز انتاجيته، وتحسين اداء مؤسسات الرعاية الاجتماعية وترشيد نفقاتها ولكن من دون التخلي عنها وعن الخدمات التي تقدمها إلى المواطنين. إن استمرار نظام الخدمات الاجتماعية في الغرب يعيد طرح هذه القضية على النطاق الدولي ومن ثم العربي. فالدول الصناعية الجديدة، على سبيل المثال، لم تقدم إلى مواطنيها ما تقدمه الدول الصناعية القديمة إلى مواطنيها. أما الدول العربية، فإن البعض منها، خصوصاً في الخليج العربي، تقدم إلى مواطنيها خدمات واسعة تجعلهم يعيشون، فعلاً، في حالة رفاه. ولا ريب ان النخب الحاكمة في هذه البلاد تود لو أنها تستطيع الحفاظ على مستوى تلك الخدمات وربما توسيعه بما يكفل الاستقرار السياسي والاجتماعي. ولكن هل تستطيع هذه الحكومات تحقيق هذه الرغبة؟ وهل تملك الامكانات التي سمحت للدول الغربية بالتراجع عن مشاريع تصفية نظام الخدمات الاجتماعية؟ وإذا كانت تملكها راهنياً فهل تضمن استمرارها مستقبلاً؟ جواباً على هذه الأسئلة، يعدد الدكتور يوسف الحسن في كتابه "دولة الرعاية في الإمارات العربية المتحدة: من الحرمان إلى الرفاه إلى المشاركة" أربعة عوامل تؤثر في قدرة الدولة على الاستمرار في تقديمها الخدمات الاجتماعية إلى مواطنيها. العامل الأول، هو المداخيل النفطية التي تشكل قسماً كبيراً من الناتج القومي في البلاد العربية. الثاني، هو احتمالات الحرب والسلم على الجبهتين الخليجية، والعربية - الإسرائيلية مع ما يجره ذلك على صعيد توجيه موارد الدولة المالية سلماً أو حرباً. العامل الثالث، هو نمو عدد السكان، المواطنين منهم، أو الوافدين وما يرافق هذا النمو من ازدياد في الضغط على مؤسسات الرعاية الاجتماعية، واتساع الطلب على خدماتها. والرابع، نظرة السكان أنفسهم إلى الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الدولة إليهم. فإمساك الموسرين عن تقديم دعم كاف لها أو في الاسراف في استخدامها، كما هي الحال راهناً، يؤدي إلى زيادة الأعباء المالية على الدولة. بالمقابل، إذا وعى المواطنون أهمية هذه الخدمات وتعاونوا تعاوناً حثيثاً مع الدولة من أجل ادامتها وتنميتها، سواء عن طريق تغذيتها بالمساهمات المادية أو عبر الاقتصاد في استخدامها، فإن فرصتها في الاستمرار سوف تزيد. بالاحتكام إلى هذه العوامل الأربعة يبدو مستقبل دولة الخدمات الاجتماعية صعباً. فمداخيل النفط في تراجع مستمر. والتوترات تخيم على الجبهتين الخليجية والعربية - الإسرائيلية. وإذا اضيف إلى ذلك "غياب القوى الاجتماعية القادرة عن الدفاع عن تقديمات الدولة للرعاية والخدمات"، فإن مستقبل دولة الرفاه يبدو أكثر صعوبة ودقة. ولكن هل هناك من سبيل إلى اجتياز هذه العقبات والمصاعب؟ ويرى الدكتور الحسن ثلاث اجابات، أو بالأحرى، خيارات مطروحة الآن في أذهان المعنيين بمستقبل نظام الخدمات الاجتماعية: الأول، هو الخيار "الاتجاهي" الذي يدعو إلى الاستمرار في السياسة الراهنة. الثاني، هو "خيار النسق الأمثل"، الذي يتجه إلى تحسين الكفاءة الاقتصادية والارتقاء بأداء المؤسسات والأفراد. الثالث، "الخيار التحولي" الذي يشدد على تحويل الاقتصاد بصورة جذرية من أجل تنويعه ونقله من المرحلة الربعية إلى المرحلة الصناعية واطلاق قوى الانتاج في المجتمع. ويترافق مع هذا الخيار الأخير توسيع مشاركة المواطنين في شؤون السياسة وصنع القرار، وتوسيع السوق عن طريق التكامل الاقتصادي العربي. ويقصر الحسن ملاحظاته ومقترحاته على دولة الإمارات العربية المتحدة التي ينتمي إليها، ولكن في الحقيقة، يمكن تعميمها على أكثر البلاد العربية إن لم يكن عليها جميعاً. فمستقبل نظام الخدمات الاجتماعية يهم سائر الدول العربية، والعوامل التي تؤثر على استمراره في الإمارات تؤثر على مصيره في غيرها من الأقطار العربية. فمسألة المداخيل النفطية تهم الدول العربية النفطية وغير النفطية، حيث أن الأخيرة تحقق استفادة كبيرة من نمو مداخيل الأولى وتحسن أحوالها الاقتصادية. كما ان شظايا التوترات الخليجية والعربية - الإسرائيلية تطال مختلف البلاد العربية وتؤثر في أحوالها السياسية والاقتصادية تأثيراً كبيراً.