إن الإنخفاض الحاد في أسعار البترول للسنة الجارية عنه للسنوات الماضية يفتح على المنطقة العربية وعلى منطقة الخليج تحديداً سؤالاً لا تسهل الإجابة عنه وهو: الى متى سيكون على دول الخليج أن تسدد فواتير حرب الخليج لعام 1991، فإذا كان حصار الشعب العراقي قد إمتد ضارياً قاسياً شتاء صحراوياً بعد شتاء للأعوام الثمانية المنصرمة نتيجة لتلك الحرب التكنولوجية الباهظة التي إرتكب حماقة جر المنطقة اليها حاكم طائش. فإن المسارات السياسية والإقتصادية التي ترتبت على تلك الحرب وإنعكاساتها الجارحة قد تمتد للتأثير على منطقة الخليج بل على المنطقة العربية كلها لأجيال تأتي. فعدا عن الفواتير الفورية التي وجدت دول الخليج نفسها مطالبة بتسديدها نتيجة لتلك الحرب فهناك النتائج الإقتصادية والسياسية التي ترتبت عليها. وبينما قفز الإحتياطي الأميركي الخارجي من 64 بليون دولار للعام ما قبل الحرب الى 87 بليون دولار عام 91، إنخفض الإحتياطي السعودي وحده في السنة نفسها من 15 بليون دولار الى 8 بلايين دولار، وهذه ليست إلا نتيجة اقتصادية واحدة من النتائج الدرامية لتلك الحرب التي جعلت دولة كبيرة بمكانة السعودية تضطر الى رفع حصة انتاجها النفطي من خمسة بلايين برميل يومياً ماقبل الحرب الى ثمانية بلايين برميل يومياً أثناء الحرب ومابعدها، أي بما يقارب خمس الإنتاج العالمي في تلك الفترة. وإن كانت السعودية إستطاعت أن تتلافى تأثير تلك النتائج المؤلمة لذلك الإستنزاف عن شعبها، فإن أخطار إهتزاز الإستقرار السياسي والإقتصادي لمنطقة الخليج لايزال قائماً وخصوصاً في ظل الإنخفاض المستمر في أسعار النفط وخفض سقف الإنتاج معاً. وإذا كانت التقديرات الأولية التي تنشرها الصحف العربية والأجنبية يومياً تشير الى أنه حتى لو بقي معدل إنتاج دول الخليج النفطي في مستوياته الحالية البالغة 14 بليون برميل يومياً، فإن إيرادات هذه الدول السنوية قد تهبط أكثر من 30 بليوناً سنة 1999 وذلك على إفتراض تحسن الأسعار الى 13 دولاراً في الربع الأخير من العام الجاري. ويدل هذا المؤشر على إنخفاض في دخول هذه السنة لسعر البرميل الواحد بواقع سبعة دولارات أقل عن عام97، وبواقع ثمانية دولارات أقل عن عام 96، فإنه لن يكون سراً الحديث عن الصعوبات بل المخاطر التي سيكون على دول الخليج مواجهتها، فيما لو إستمر لاسمح الله هذا الوضع الذي لم يكن الوصول اليه وبمثل هذه السرعة متوقعاً لو لم تجر المنطقة الى حرب الخليج كعامل مؤجج ومعجل بخلق هذا المأزق الإقتصادي والسياسي في المنطقة. هذا طبعاً الى جانب الإنعكاسات السياسية الكبرى على المنطقة العربية. فعلى رغم أن الأسباب المعلنة لإنخفاض أسعار النفط تحرص على صبغه بصبغة إقتصادية خالصة تتلخص في إرتفاع طاقة الإنتاج في عدد من الدول النفطية داخل منظمة أوبك وخارجها، وبتباطؤ الطلب العالمي على النفط، إلا أن قرأة الأمر في ضوء المقدمات الإقتصادية والعسكرية والسياسية التي جرت اليها المنطقة مع مطلع العقد الجاري وفي ضوء المستجدات الإقليمية والدولية بعدها، لا يبدو مجرد مصادفة اقتصادية سيئة. فاللعبة السياسة واضحة فيه والقفزات الأميركية والغربية القذرة لاتحتاج الى أكثر من العين المجردة لرؤية بصماتها على الوضع الإقتصادي في محاولة نحو إعادة تشكيل العلاقة بين الدول الصناعية الكبرى المستهلكة للنفط وبين الدول النفطية النامية، ما يجعل الدول الأخيرة مصدراً من مصادر سداد العجز في ميزان مدفوعات الدول الرأسمالية الكبرى في الغرب وفي أميركا تحديداً. إن إمتلاك دول الخليج لإحتياطات ضخمة من البترول من ناحية، واعتماد حكوماتها على مداخيل هذه السلعة كمصدر رئيسي لتمويل وظائفها المدنية والعسكرية كافة، من وظيفة الدفاع الى وظيفة التعليم التي توفرها هذه الدول مجاناً لشعوبها الى مابعد المرحلة الجامعية يضع منطقة الخليج في مأزق حرج بين مطرقة إنخفاض موازنتها السنوية العامة نتيجة لإنخفاض أسعار البترول وبين سنديان ضرورات المعيشة والتنمية ومتطلبات الإستقرار السياسي والأمني. والسؤال في هذا السياق القلق على إستقرار منطقة الخليج دولاً ومجتمعات هو: هل سيكون الخيار الخليجي، فيما لو إستمر لاسمح الله تردي أسعار النفط هو الإتجاه الى تقليص وظائف الإنفاق الدفاعي العسكري وإنفاق الإلتزامات الخارجية عربياً وإقليمياً ودولياً مما سيكون له قطعاً نتائج على شكل مستقبل المنطقة العربية ككل ، وعلى موازين القوى الإقليمية، أو أن الخيار الخليجي سيكون الإتجاه نحو التركيز على خفض نفقات المشاريع المدنية ومخصصات الخدمات العامة، أي خفض في مجالات الإنفاق غير التجاري؟ لا شك في أن كل من الخيارين خيار صعب، أو كما قالت العرب أحلاهما مر، خصوصاً وأن الإنفاق المرتفع والسخي في المجال الدفاعي كقطاع إستراتيجي من قطاعات دول الخليج أو في المجال التنموي والمجال الإجتماعي المدني يعتبر العمود الفقري لكل من البنية السياسية والتركيب الإجتماعي بعلاقاته السياسية والإجتماعية الذي قام على أساسه النظام السياسي لهذه الدول. ولا شك أيضاً أن هناك مترتبات سياسية وإجتماعية بل وأمنية مختلفة لكل خيار من الخيارين. فإذا كان الخيار الأول قد يؤدي، لا سمح الله، إلى اضطرار دول الخليج للالتجاء إلى المساعدة فيما لو استجدت الحاجة إلى ذلك كما حدث خلال الاعتداء الصدامي، فإن الخيار الثاني، أي خيار تقليص النفقات المدنية ومخصصات الخدمات العامة، سيكون له تبعات سياسية قد لا تكون طبيعة الأنظمة قادرة على مواجهتها ما لم تعول دول المنطقة نمط علاقتها بمجتمعاتها على قاعدة توسيع المجتمع المدني على أسس مؤسسية تستطيع من خلالها إعادة توزيع المسؤوليات بشكل يجعل المجتمع يتحمل مع الدولة تبعات أي ضغوط اقتصادية من دون إلقاء الحمولة كاملة على كاهل الحكومات وحدها. إن تزايد الضغوط النفطية باتجاه ربط أحزمة بطن المواطن كنتيجة مباشرة للانخفاض الحاد في العائدات المالية قد يؤدي، لا قدر الله، ليس إلى حال من عدم الاستقرار الاقتصادي وحسب، بل قد يؤدي إلى حال من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي في المنطقة في ظل وجود أطماع اقليمية وأجنبية وفي ظل وجود ظلال لم يتم تقدير دقيق لحجمها وقوتها بما قد يعرض الخليج ليكون في مواجهة اشكاليات متشابكة لم يعهده من قبل. ونعتقد ان هناك اتجاهاً في دول الخليج نحو فتح مجالات مشاركة المواطن في الشأن الوطني والقرار السياسي وإن على استحياء. ويعتبر ايجاد مجالس الشورى أو تنشيط الكيانات البرلمانية في هذه الدولة أو تلك، بالاضافة إلى التوسع في سياسة الخصخصة مؤشراً لا ينبغي التقليل من أهميته، وإن كان بحاجة إلى مزيد من البلورة والتفعيل في اتجاه نحو توسيع قاعدة بناء مجتمعها المدني. غير ان بعض هذه الدول في بعض أوجه هذا الموقف الاقتصادي والسياسي المستجد عليه لا زال يحاول أن يحل مثل هذه الأسئلة السياسية الملحة حلاً اقتصادياً بحتاً. وعلى هذا، فدول الخليج وإن كانت تحاول جاهدة ألا تضطر إلى خيار تقليص موازنة المدفوعات العسكرية، فإنها تحاول بالقدر نفسه من الجدية ألا يكون خيار تقليص المدفوعات المعيشية ومشاريع التنمية ونفقات الخدمات العامة هو الخيار الآخر الوحيد. وفي هذا ينشط خطاب التصحيح الاقتصادي لديها. ومع أن مصطلح التصحيح الإقتصادي، الذي أصبح متداولاً هذه الأيام في أدبيات الصحف والدوريات المتخصصة لا تزال مدلولاته غير محددة بالضبط، إلا أنه من متابعة ماينشر في المطبوعات الخليجية، ومن خلال متابعة خطابها السياسي وبعض آراء خبراءها الإقتصاديين يمكن أن نضع أيدينا على الأهداف الآتية من أهداف التصحيح الإقتصادي الذي تشرّعه دول الخليج كآلية أولى في وجه مواجهة أي مخاطر محتملة قد تترتب على إستمرار تردي أسعار البترول في الأسواق العالمية: * الإتجاه الى عدم إثقال الإقتصاد الوطني بالديون الخارجية أو الداخلية، وبدا هذا الهدف واضحاً في إتجاه السعودية الى إقفال ديونها الخارجية ما بعد حرب الخليج، وفي حرصها على معالجة ديونها الداخلية بأسرع وقت ممكن، وذلك بإقرار برنامج يقوم بتسديد الدفعات المتأخرة من ديونها الداخلية للتجار والمزارعين والمقاولين المحليين على مدى قصير لايتجاوز ثلاث سنوات، وخصصت له السعودية مبلغ 4 بلايين دولار في موازنة العام الجاري. كذلك برز هذا الإتجاه الخليجي لتجنب السقوط في مصيدة الديون في تصريحات الحكومة الكويتية لهذا الصيف برفضها تسييل أصولها الخارجية أو الإلتجاء الى الإقتراض من الأسواق الدولية لتغطية عجز الموازنة، على رغم بلوغ موازنة الكويت عجزاً سنوياً يقدر بنحو 6.6 بليون دولار. * التوازن بين الضرورات المالية والضرورات الإقتصادية. * زيادة الإستثمارات العامة وإشراك المجموعات المحلية والمؤسسات العامة وتشجيع تحسين أداء مؤسسات القطاع الخاص وزيادة حصصهم وفعاليتهم في مشاريع الإستثمار التنموي مع توسيع قاعدة القطاع الخاص وإعطائه دوراً في عملية التنمية . * تشجيع الإستثمار الأجنبي. * الدفع بتفعيل اليد العاملة الوطنية مع تقليص أو تخفيض الإعتماد على الأيدي العاملة الأجنبية للإحتفاظ بتحويلاتها المالية داخل المنطقة أو البلد المعني منه. * فتح مجالات استثمارية جديدة وخصوصاً المجال السياحي الذي إستطاعت دولة الإمارات العربية وبخاصة دبي أن تحقق فيه خطوات متقدمة. * تخفيف وليس نزع الدعم عن بعض السلع. * الحد من توسيع النفقات الحكومية في مجالات معينة من مجالات الإنفاق المدني، مثل التنمية العقارية ومجال التعليم العالي الذي يجري اشراك بعض الشركات الوطنية في تحمل نفقاته مثل إناطة تكاليف الإبتعاث للدراسة في الخارج ببعض من تلك الشركات. * محاولة الموازنة بين إستثمارات القطاع الخاص التي تبلغ في بلد كالسعودية نحو 20 بليون دولار سنوياً، وبين إجمالي مساهمته، في الناتج القومي. * محاولة التنويع في الصادرات النفطية وبناء صناعات تحويلة مشتقة من النفط أو معتمدة على البنية الأساسية التي توفرها المنشآت البترولية، ودعم تصديرها. * وضع بعض الرسوم على بعض الخدمات كالرسوم الأخيرة التي سنتها السعودية على إستخدام الموانيء والمطارات. * رفع أسعار بعض السلع الأساسية أو الكمالية كما جرى رفع أسعار البنزين والكهرباء وبعض المواد والخدمات الأخرى منتصف التسعينات في بعض دول المنطقة. من الواضح في سلسلة التصحيح الإقتصادي أعلاه ان هناك جهوداً من قبل حكومات منطقة الخليج ألا تتجه اتجاهاً سافراً الى أي خفض حاد في مجال الإنفاق المدني والخدمات العامة، كما أنها حريصة على عدم فرض ضرائب دخل أو إستيراد أو خدمات عامة أو سواها على الأقل في الأجل القريب. إلا أن من الأسئلة المهمة في هذا السياق الوطني الجاد لدول الخليج نحو التصحيح الإقتصادي هو بعض من الأسئلة: - هل هذه الأهداف المذكورة أعلاه أهدافاً كافية لأحداث تصحيح جذري في بنية الإقتصاد الخليجي نحو خلق قاعدة إنتاجية متماسكة؟ - هل هي أهداف قادرة على إحتواء معدلات التضخم المرتفعة بين سعر السلع الأساسية المستوردة التي يعتمد عليها المواطن الخليجي في المأكل والمشرب والملبس والسكن وبين الأسعار المتهالكة للنفط في الأسواق العالمية؟ - هل تأخذ هذه الأهداف في إعتبارها معدل متوسط دخل الفرد السنوي في هذه الدول ومدى قدرة هذا التوسط على مجارات هذه الأهداف في سبيل انجاحها، ولئلا تقع أعباء التصحيح الإقتصادي على كاهل فئة إجتماعية من دون أخرى؟ - هل يعتمد التصحيح الإقتصادي لدول الخليج على رؤية واضحة وخطة استراتيجية مدروسة للمنظورين القريب والبعيد تستطيع أن تحل حلاً جذرياً أو جزئياً إشكالية الإعتماد شبه التام على البترول، حتى لا تعود هذه السلعة المتذبذبة المصدر الوحيد للتحكم في إستقرار المنطقة ومستقبلها السياسي والإجتماعي؟ - الى متى يمكن الإبقاء في دول الخليج على مستوى الإنفاق السخي نفسه، وهل ذلك ممكن في المديين المتوسط والبعيد، وفي ظل موازين القوى السياسية بين الدول النفطية النامية والدول الصناعية التي لايبدو أنه سيسمح بإرتفاع أسعار البترول مرة أخرى إرتفاعاً قد يخل بتلك الموازين؟ - هل التصحيح الإقتصادي وحده كاف لمواجهة أزمة الإنخفاض الحاد في أسعار البترول عالمياً وخارجياً، ولمواجهة التراكمات السابقة لكيفية توظيفه طوال ربع القرن الأخير، أم أن الوقت حان لوضع خطة عمل وطنية لمواجهة الوضع وتخير بدائل مستقبلية أكثر عملية وأعمق إستجابة لطبيعة الواقع في منطقة الخليج وفي الوطن العربي ككل. ولرب ضارة نافعة. * كاتبة وأكاديمية سعودية