كنت أظن أنني لست ممن يُخدع بسهولة.. غير أن الظن لا يغني من الواقع شيئاً.. فقد كنت في العشر الأواخر من رمضان نازلاً من الطائف للإفطار في الحرم، وصلاة التراويح.. وكنت قد اتصلت بالدكتور محمد العيسى الملحق الثقافي بأمريكا حيث كان هناك، والأستاذ إبراهيم عساس، لنفطر ونصلي سوية.. وبعد أداء الصلاة قال لي الدكتور العيسى والأستاذ العساس، إن هناك لقاء أدبياً، وصحفياً أعده الأستاذ خالد الحسيني، وان مجموعة من المثقفين سيحضرون هذا اللقاء، فاعتذرت لهما وقلت إن أمامي طريقاً طويلاً إلى الطائف.. فأرجو إعفائي.. إلا أنهما أصرا وقالا إن الأستاذ الحسيني حريص على حضورك ومشاركتك.. فأذعنت لطلبهما، ولم أعرف أين سيكون اللقاء.. فأخذاني إلى شارع إبراهيم الخليل المكتظ بالمعتمرين، والسائرين، وفي منتصفه عرجا بي على مقهى بسيط وجميل على الرصيف يقوم عليه رجل في منتهى الذوق والخلق، وقد جلس معنا وراح يحدثنا عن تاريخه الكروي وأنه صديق للاعب قديم اسمه "كتلوج" كما انه صديق اللاعب الفذ سعيد غراب، وكان حديثه ممتعاً وجميلاً.. غير أنني سألت الدكتور العيسى وقلت هل هذا هو الاجتماع الأدبي؟؟!قال لي انتظر.. وبعد فترة فوجئت بدراجتين ناريتين تقفان أمامنا وقال الأستاذ العساس.. هيا ..قوموا..!! فقلت ما هذا ؟! قال: اركب الدباب..!! قلت ماذا..؟ قال اركب الدباب..!! قلت هل تمزح؟. قال أبدا فالاجتماع في قمة الجبل، والسيارة لا تصل إليه، ومن الصعب صعوده إلا على الدباب.. فقلت أنا لم أركب دباباً في حياتي، وأكره الاقتراب منه، ثم لو كان الاجتماع في عش النسر لصعدت إليه، ولا أركب دباباً.. فقال إن التجربة لن تضرك شيئاً، فرفضت. غير أن الدكتور العيسى، ركب في الخلف يقوده شخص آخر، فاهتبلت الفرصة، وأخذت صورة له، وقلت سوف أضعها على الموقع الالكتروني كي يراها طلابك في أمريكا، فقال افعل ما تشاء.. وألح عليّ إبراهيم ورجاني، فترددت واحترت بل وارتبكت، ثم استسلمت وركبت، فانطلق إبراهيم يقود الدباب وسط الحشود وبمهارة وبراعة ومراوغه، وسط الزحام كما سمكة السردين.. وأخيراً وجدت نفسي عند إشارة مرور مزدحمة بالسيارات.. قلت.. أين الطريق الجبلي قال: بعد الإشارة ثم انطلق بي يسارا عبر طريق عرفات، وسط الناقلات، وسيارة الأجرة، والسيارات الخاصة، بسرعة شيطانية، وأخذ يحشر الدراجة بين الشاحنات الضخمة، وكنت أرى عجلاتها قريبة من رؤوسنا وصحت به.. يا إبراهيم.. "يا ..." فقال إياك أن تتحرك أو تمسك بجسدي فتسقط النظارة، وأنا لا أرى بدونها، وأخذ يروغ يميناً وشمالاً، يتعدى هذا، ويبتعد عن هذا، ويقترب من الرصيف ثم يتوسط الطريق وصارت الدراجة كرصاصة انطلقت وسط غابة.. وكان العيسى وصاحبه يجارينا حينا ويتأخر حينا، وسرنا على هذه الحالة قرابة سبعة أميال ونحن وسط شعاب من الناقلات.. وأخيراً انعطف إبراهيم ودخل بنا إلى الحي الذي يسكنه الأستاذ الحسيني، ولم يقف إلا داخل البيت، ووسط هتاف، وتصفيق الضيوف، واقترب من الدكتور العيسى وقال: هاه كيف كانت الرحلة؟. فقلت أُقسم أنني لن أنساها لك.. وكنت متوتراً ولو وجدت أداة لضربت بها رأس إبراهيم، غير أن الحاضرين أضفوا على الجو الكثير من المرح، والضحك، والمزاح، وكانوا مجموعة من المثقفين وكان من بينهم الكاتب المعروف محمد الحساني، وعبدالعزيز الحربي، والأستاذ سليمان الزايدي، والأستاذ علي داود وأفاضل آخرون.. حيث انصرفنا إلى الحديث في الأدب والثقافة.. ثم انتقلنا إلى الحديث عن الابتعاث، والمبتعثين في الخارج وخضنا في أمور كثيرة أخرى إلى أن جاء وقت السحور واتصلت بصاحب السيارة التي أقلتني من الفندق لألتقي به عند مسجد السنوسي قريباً من المكان حيث نصلي الفجر وننطلق.. وحينما وصلت إلى المكان لم أجده، وقد أغلق هاتفه، وصليت وظللت أنتظر ولكنه لم يأت، ووقفت على الشارع العام فلم يقف لي أحد، وطال بي الانتظار وتعبت قدماي وأطلت أشعة الشمس وأنا مكاني، وتعبت يدي من كثرة التلويح للسيارات المارة وبعد يأس وقف صاحب سيارة "داتسون" محملة بالأخشاب..فقلت الطائف؟. فقال بخمسين.. فقلت في نفسي لو طلبت خمسمائة، وركبت وما حيلة المضطر إلا ركوبها، وانطلقت بنا السيارة وقال إنها قديمة ولكنها مبروكة.. انطلقت ولها صرصرة، وفرقعة ودخان.. فقلت له لا تسرع.. فقال لا تخف، إنها سيارة رائعة ولولا ساهر لا بارك الله فيه لطارت بك طيراناً.. وحينما صعدنا طريق الهدى أخذت تروج وتموج بنا يميناً وشمالاً، ثم زادت فرقعتها، وصخبها، وحنينها، وصفيرها، وزفيرها، وخشيت أن تنفجر.. فلما انتصفنا في الجبل أخذت تحن، وترتعد، وترتعش، ثم توقفت فضحك وقال: سخنت "المبروكة"، سوف ننتظر قليلاً، فنزلنا وانتظرنا.. ثم أخذ يحقنها بالماء وبعد قرابة الساعة انطلقت " المبروكة "... ولم أصدق أننا صعدنا نهاية الطريق، ولما وصلنا قريباً من الفندق.. قلت أنزلني هنا.. فأقسم وطلق بالثلاث إلا أن يضعني أمام الباب.. وقفت المبروكة أمام باب فندق المرديان بالهدى، وسط الدخان، والفرقعة، وذهول الناس وعجبهم.. دخلت غرفتي وأويت إلى فراشي وأنا أفكر كيف أنتقم من الخبيثين ؟، ولكن الإعياء والتعب جعلاني أغط في نوم لم أصح منه إلا عند أذان الظهر..