لو أغمض سوهارتو عينيه وحاول أن يتذكر ماضيه المديد لتذكر بالتأكيد العام 1966. يومها تدخل على رأس جيشه لاطاحة الرئيس أحمد سوكارنو الذي كانت الحركة الطلابية تتحداه، وسط أزمة اقتصادية شاملة. والكثير مما حصل بالأمس قد يتكرر هو نفسه اليوم أو غداً. فالجيش هو الجيش، والدور يمكن ان يكون اياه. والحال ان اندونيسيا كما بناها سوكارنو، ومن بعده سوهارتو، مجتمع عسكري بامتياز. فقد تغير اقتصادها وتغيرت ثقافتها وظل القمع الملوّن بالنياشين عصياً على التغيير. ومع ان الجيش لا يتجاوز عدده ال400 الف جندي، ما يجعله من أصغر الجيوش نسبة الى عدد السكان قرابة 200 مليون، الا أن العدد لا يحتكر المعاني والدلالات. فالضباط، المتقاعدون منهم وغير المتقاعدين، هم الذين يحتلون المواقع الاساسية في البيروقراطية والبرلمان والحكومة، والشبكة الموسّعة للقيادة العسكرية تربط عسكرها بالمجتمع صلباً وقواعد، الشيء الذي يدل اليه خاصةً نظام التعبئة الواسع، جاعلاً من كل اندونيسي تقريباً احتياطياً في الجيش. الى ذلك يمنح الدستور المؤسسة المذكورة دوراً سياسياً الى جانب مهمتها الدفاعية، كما ان الايديولوجيا الرسمية تضع الجيش في صميم الشرعية المؤسسة للدولة، لا بل للبلد: فهو أداة الاستقلال والتصدي للاستعمار الهولندي، وهو الى ذلك أداة تخليص البلد من فوضى سوكارنو وعهده. والصورة هذه انما تتشحضن في سوهارتو الذي كان في الطور الأول ضابطاً استقلالياً، ليغدو في الطور الثاني المخلّص والزعيم الأوحد. وعملاً بالايديولوجيا هذه تطلق اللغة الرسمية على افراد الجيش تسمية "حرّاس الأمن الوطني"، فيما تقضي الفقرة الأولى في قَسَم المتطوع الجديد بالولاء لدولة اندونيسيا الواحدة. وفي المطاف الأخير فإن الجيش، بنتيجة الضربات التي كالها سوهارتو للمنظمات السياسية والمدنية جميعاً، هو الأداة الوحيدة المتماسكة في اندونيسيا. غير ان المؤسسة العسكرية نفسها والتي حظيت برعاية الزعيم وانفاقه، لم تسلم هي الأخرى من محاولات اثارة اطرافها ضد بعضها البعض، ومنعها من ان تتشكل كفوة سلطوية متجانسة بعيداً عن سيدها. فلأن سوهارتو تعامل معها كسيف ذي حدين، استخدم الترفيع والنقل والاحالة المبكرة الى التقاعد واثارة التناقضات بين كبار الضباط ليضمن دوام نفوذه عليها. على اية حال يبدو اليوم ان سياسة تحويل العسكر الاندونيسي قوةً وحيدةً في البلاد هي ما يمكن ان يقض مضاجع صاحبها. فمع تقدم سوهارتو في السن ضعفت قبضته على "أبنائه"، وهم من ناحيتهم باتوا ينتمون الى جيل أصغر وأضعف صلةً بذكريات المجد السوهارتي. وهذا لا يصح فقط في صغار الضباط، بل ايضاً في كبارهم كالجنرال ورينتو قائد الجيش ووزير الدفاع، والجنرالين البارزين الآخرين برابوا ويودهوينو. ويبدو ان اسباب التذمر تسود المراتب العليا في المؤسسة العسكرية لسببين على الأقل: تراجع الانفاق على الأمن والدفاع بفعل الازمة الاقتصادية المصحوبة باستشراء الفساد مما اضعف موقع اندونيسيا حيال جوارها، والقناعة بأن الفساد العائلي والسلطوي غدا غير محتمل بالمرة. وفيما يضيف البعض عامل الاستياء الأميركي من سوهارتو، والذي لا بد أن يقع على استجابة ضباطٍ تربّوا خلال الحرب الباردة على يد واشنطن، يتوقف آخرون عند استجابة اخرى يفرضها الانصات الى صغار الجنود. فهؤلاء الأخيرون يشاركون شعبهم وطلابهم التذمر من الوضع المعيشي والانسداد السياسي، حتى ان تقارير صحافية تحدثت عن مشاركة بعضهم في أعمال النهب والتعدي، وعن تواطوء بعضهم الآخر مع المرتكبين. وأخيراً لا يمكن الجنرالات ان يصموا آذانهم عن احتمال استطالة الأزمة السياسية مع ما يمكن ان تطرحه من مخاوف على وحدة البلد التي أقسموا يمين الولاء لها، وهذا ناهيك عن تردي الصدقية الدولية على نحو ينعكس على مستقبل الاستثمار الخارجي. بيد ان السيناريو العسكري ليس بسيطاً ولا مُعبّداً بالورد والرياحين. فالضباط يمكن ان يتنازعوا في ما بينهم، وهو ما تشير اليه كثرة الاسماء العسكرية المطروحة للخلافة، وهذا ما تزكّيه طريقة سوهارتو القديمة في التعاطي مع كبار الضباط. وقد يفضل العسكريون، مدركين صعوبة قيام ديكتاتوريات عسكرية في زمن الاتصالات والعولمة وتغير الأوضاع الدولية، تسليم الحكم للمدنيي، وهو ما يقي اندونيسيا شروراً كثيرة ويُدرجها في خانة الديموقراطيات الناشئة، على ما كانت عليه جارتها الفيليبين قبل سنوات قليلة. لكن المؤكد ان أسوأ السيناريوات المحتملة سيكون الحرب الأهلية. فبلد الأرخبيل أكبر بلدان جنوب شرق آسيا سكاناً ومساحةً، وهو مئات الجزر التي تمتد على شكل يشبه الهلال بطول 3400 ميل 5500 كلم، من ثغر شبه جزيرة مالايا شرقاً الى الفيليبين وأستراليا. وفي هذا التناثر الجغرافي الضخم قد يتراءى لزعيم هذه الجزيرة أو تلك أن يستقل بها، كما قد يتراءى الشيء نفسه لضابط أحس بالغبن واطمأن الى ان السلطة المركزية لم تعد تملك السيف الطائل.