يذهب بعض الباحثين الجزائريين إلى القول بأنه كان وراء ظهور الوعي البربري عاملان، الأول: أن أنصار الحركة البربرية هم من تكوين فرنسي محض، معتمدين على اللهجة البربرية "الأمازيغية"، على جهلهم التام بالثقافة العربية الإسلامية، والعامل الثاني: هزيمة العرب في فلسطين التي أحدثت نوعاً من رد الفعل السلبي لدى الشباب الأمازيغي الحامل للثقافة الفرنسية. وإذا كان العامل الأول لا يمكن الأخذ به لجهة أن جيل الإستقلال من الأمازيغ أخذ على عاتقه تحويل قضية بربرية إلى قضية سياسية فإن العامل الثاني يتطلب وقفة ما دمنا بصدد استرجاع ذكرياتنا الأليمة بخصوص نكبة فلسطين. الواقع أن العرب والبربر اختلطا في الأنساب والدماء، والعلاقات الإجتماعية، وأنماط المعيشة، والإنتماء الى ثقافة واحدة، فإذا كانت الأمور على النحو الذي نذكره، فلماذا أعتبر الموقف من هزيمة العرب في فلسطين دافعاً لظهور الأنا الإجتماعي عند مجموعة المثقفين البربر؟ يبدو أن ذلك يعود الى البحث عن مبررات للإنسحاب من الحركة الوطنية الجزائرية التي كانت ذات انتماء عربي اسلامي. وهذا يجعلنا لا نفصل ظهور المسألة الأمازيغية على المستوى السياسي عن محيطها العام، في ظل خلق بدائل تمثل الأقليات في حال نشوء الدولة القطرية، ناهيك عن انها تعتبر امتداداً لأفكار المستشرقين، وهنا يأتي التبرير للموقف السياسي بالهروب من الانتماء الى امة في حال الهزيمة، وهي تكاد تكون حال تتكرر في تاريخ البشرية، اذ انه عند الهزيمة ينفر الإنسان من تاريخه الإجتماعي والأممي، وهذا ما حصل بالضبط للمثقفين البربر آنذاك. عاش الجزائريون حالاً من الحيرة والتيه بعد حوادث 8 آيار مايو 1945، التي ذهب ضحيتها 45 ألف جزائري في ما يُعرف بحوادث سطيف، قالمة، خراطة. وللعلم فإن خراطة أكثرية سكانها من الأمازيغ. وعلى رغم وجود حال التيه تلك، إلا أن معظم قيادات الثورة الجزائرية خرجوا من رحم هذه المعاناة. ويمكن القول إن تلك الحوادث نقلتهم من النضال السياسي إلى العمل العسكري، وبذلك انضم الكثير من الشباب إلى الحركة الوطنية من أجل مقاومة الاستعمار الفرنسي، وكان الانضمام- حسبما يذكره الكاتب احمد بن نعمان- بكيفية تلقائية وطبيعية الى "حزب الشعب" أولاً، ثم الى "حركة انتصار الحريات الديموقراطية"، غير أن كثيراً من أولئك الشباب كانوا يحملون أيدلوجية مغايرة لأيدلوجية الحركة الوطنية، تتمثل في اعتبار الجزائر بربرية، ورفضهم لانتمائها العربي الاسلامي. كانت تلك المواقف ضمن السياق العام لبعض من المثقفين المفرنسين الذين كانوا ينتمون الى الحزب الشيوعي الجزائري ذي الصلة المباشرة بالحزب الشيوعي الفرنسي. وهؤلاء كانوا يعارضون مفهوم الأمة الجزائرية الموجودة والمكونة أصلا عبر مراحل التاريخ قبل أن توجد الأمة الفرنسية، ما يعني انهم كانوا يهدفون الى المحافظة على الاستعمار الفرنسي بشكل آخر، وترتب على هذا دفاعهم عن فكرة اخرى تفصل الجزائر بشكل نهائي عن بُعدها العربي، تتمثل في: "أن الأمة الجزائرية هي في طور التكوين"، وتحوي مجموعة متفرقة من السكان الذين يعيشون على اقليم واحد، ويمثلون جاليات مختلفة التي منها القبائلية، الشاوية، الميزابية، الإيطالية، الأسبانية، المالطية، بالإضافة إلى العربية والفرنسية، والمدهش أنهم يعتبرون اليهود الوافدين ضمن الأمة الجزائرية، والأكثر من هذا يساوون بين العرب وباقي القوميات الأخرى. إذن فالرفض من بدايته للبعد العربي واضح، ويتضارب ظاهراً وباطناً مع تلك الثوابت الأساسية التي أقرتها أحزاب الحركة الوطنية الجزائرية بالإجماع واعتبرتها مبادىء مقدسة، وجندت حولها الشعب الجزائري طوال سنوات المقاومة والكفاح، والتي من أهمها العروبة والإسلام، وربما يعود تشبث تلك المجموعات المثقفة بالطرح الشيوعي السابق الى أن الحزب الشيوعي الجزائري آنذاك كان يتسم بالقوة نتيجة الدعم المباشر الذي كان يتلقاه من الحزب الشيوعي الفرنسي، فقد وصل تعداده- أي الحزب الشيوعي الجزائري- آنذاك إلى مليون منخرط وأكثر من خمسة ملايين ناخب و166 نائباً في الجمعية الوطنية الفرنسية، "كما ورد في كتاب "فرنسا والأطروحة البربرية في الجزائر" للباحث أحمد بن نعمان. إن العلاقة بين المجموعة البربرية وبين المجموعة الفرنكوفونية من جهة، والشيوعية من جهة ثانية - كما ذكرنا سابقاً - تؤكد أنه منذ البداية كان الهدف هو القضاء على أي صلة تربط المشرق بالمغرب، ولذلك لم تكن مطالب الأحزاب السياسية البربرية الحالية تمثل إلا امتداداً للفكر السابق بطرق مختلفة. "فالتجمع من أجل الثقافة والديموقراطية" الذي يقوده سعيد سعدي، يؤكد في تصريحاته عن القضية الفلسطينية: أن اهتمام حزبه بهذه القضية يأتي من منطلق الدفاع عن أناس ظُلموا، وليس من منطلق أن تلك أرض عربية، وأن القضية تهمنا لكوننا جميعاً في مركب واحد، أي ان المسألة الفلسطينية لا تزال في أذهان دعاة الأمازيغية قضية العرب، وليست قضيتهم، وتبعاً لذلك فإنها لا تهم كل الجزائريين. وعلى النحو السابق، لكن بطريقة أقل وضوحاً يذهب الزعيم التاريخي حسين آيت أحمد في كتابه "مذكرات مكافح" الصادر في فرنسا سنة 1983 إلى القول: "إلى الشباب المبتدىء في المطالبة اللغوية البربرية الذين يلوموننا على عدم تمكننا، وعدم معرفة طرح المشكلة اللغوي في مؤتمر حزب الشعب وحركة إنتصار الحريات الديموقراطية في شباط فبراير 1947، لقد أوضحت بأننا لم نتهاون في القيام بذلك، إن البربرية نعيشها، ولو كان للحزب سلطة ملموسة لطالبنا بحق كتابة وتدريس اللغة البربرية، ولو وُجد مجال لمناقشة هذا المشكل في داخل الحزب في ذلك العهد، لأدى الأمر حتماً إلى رد فعل عنيف من طرف الأغلبية المعربة المتطرفة". وفكرة حسين آيت احمد هذه المطروحة سنة 1947، هي التي ساعدت قبل ذلك على الشعور بالخيبة بعد الهزيمة في فلسطين. لذلك لا غرو حين نجد مواثيق الدولة الجزائرية، بعد الاستقلال، تؤكد ضرورة ايراد القضية الفلسطينية والتحمس لها والدفاع عنها، وتثبيت ذلك في ميثاق الدولة الجزائرية، وهو ما تجلى في مواقف اتخذها قادة الجزائر بدءاً من بن بله وحتى الآن. وباختصار فإن الاعتقاد السائد عند بعض الباحثين الجزائريين من أن نكبة فلسطين زادت في الوعي البربري، يعتبر خاطئاً لكون أن البربرية ظهرت قبل ذلك بعقود وتبناها المستشرقون الفرنسيون خصوصاً كعملية لتفتيت المجتمع الجزائري، واعتماد السياسة الاستعمارية المعروفة "فرق- تسد"، وهي التي أعطت أكُلَها الآن. يلاحظ بعد خمسين سنة من نكبة فلسطين ان مثل هذه الأفكار يوسع دائرة الصراع داخل الجزائر، ويحاول جعله صراعاً ثقافياًَ واجتماعياً بمرور الأيام. وكان علينا أن نتنبه منذ ذلك الوقت إلى خطورة مثل هذه المواقف، لكن لم نهتم بما يحدث، وكم هي الدروس التي أعطتها لنا نكبة فلسطين ولا تزال؟! ومع ذلك نتراجع يومياً، ونتقهقر، ليس على مستوى المواقع الجغرافية والتراب فحسب، ولكن على مستوى القيم النبيلة والأفكار والمبادىء التي كنا نؤمن بها على مستوى الامة. وواضح أن الأمة العربية لا تُقتطع أراضيها فقط، ولكن تتخلخل أبنيتها الإجتماعية، وتتجه نحو مزيد من التفكك. ومع أن القضية الفلسطينية جمعت بيننا رغم انكساراتنا في الماضي، وأثّرت منذ البداية على المد التحرري العربي، إلا أننا الآن نتأثر بها سلباً، ونؤيد كل ما يمكن أن يبعدنا عنها، وهذا نتيجة تراكمات سابقة أوجدتها أفكار زرعت ونمت مع الوقت، ولا ينفع معها إلا فتح حوار واسع مع كل القوى الإجتماعية والسياسية داخل العالم العربي، شريطة أن تظل المسألة الفلسطينية من الثوابت، ومن الدوافع الأساسية للوعي العربي العام.