الكتاب: شخصيات بارزة في تاريخ لبنان المعاصر المؤلف: عصام خليفة الناشر: خاص - بيروت. 1997 يتميّز التاريخ السياسي عن الكتابة الايديولوجية التاريخية بأن الاول يسعى الى البقاء في حدود ما تقوله الوثائق والوقائع، من دون اضافات، بينما تسعى الثانية الى قولبة الاحداث التاريخية في اطار مفاهيم حزبية تجعلها اسيرة رؤية المؤرخ الايديولوجي، الامر الذي يشرنقها ويقتل دلالاتها الحية. وقد تميّز الاتحاد السوفياتي السابق بانتاجه المكثف لمؤرخي الايديولوجيا الشيوعية الذين كانوا يسعون الى ليّ الاحداث التاريخية كافة بحيث تتناسب نتائجها ومنطلقات نظرية المادية التاريخية. اما عصام خليفة، المؤرخ اللبناني الشاب، فيأتي من أفق آخر، هو أفق المفكرين الاحرار الذين تميّزت بهم الحضارة الفرنسية منذ أمد بعيد. فهو يهوى متابعة التيارات الدفينة للفكر السياسي في لبنان، ولكن من دون الالتزام بعقيدة سياسية محددة. فتفكيره وعقله مفتوحان على الاحتمالات كافة، الا ان ما اكتشفه على مرّ ابحاثه المتعددة يؤكد على ثوابت عدة، خصوصاً سيرورة المجتمع اللبناني منذ خمسة قرون وحتى اليوم، أبرزها صيغة العيش المشترك التي لم تفارق اللبنانيين منذ الازمنة الغابرة. يحاول مؤلف "شخصيات بارزة في تاريخ لبنان المعاصر" تسليط الضوء على شخصيات لامعة كانت في السابق قد أعطت لبنان ملامحه السياسية الوطنية. ومن بين هذه الشخصيات يتوقف عند البطريرك الماروني الياس الحويك وخيرالله خيرالله وبولس نجيم وجبران خليل جبران والاخطل الصغير وأمين الريحاني وابراهيم عبدالعال. وفي هذه الباقة من الشخصيات المتنوّعة يستوقفنا اول الامر البطريرك الحويك لسبب بسيط وهو فرادة شخصيته السياسية التي تبدو لنا اليوم، وعلى ضوء ما نشاهده في لبنان ميدانياً، مزيجاً من البطريرك صفير ومن الشيخ الطفيلي، إذ ان نقطة انطلاق الهمّ السياسي والوطني ككل عند البطريرك الحويك مطلع هذا القرن كانت مجاعة اللبنانيين إبان الحرب العالمية الاولى. فقد صدمت هذه المجاعة، التي ارادتها السياسة العثمانية آنذاك، ضمير البطريرك الحويك فقرر التصدي لتكرارها بالعمل على تأسيس الوطن اللبناني السيّد المستقل في مكان الولاية العثمانية القابلة للاستفراد ولكل اشكال العسف والطغيان. فما يكشفه عصام خليفة حول شخصية البطريرك الحويك يشير بوضوح الى وجود شخصيات وطنية بارزة في تاريخ لبنان الحديث، تعاملت مع الامور العامة من منطلق رفيع، إذ تركت مواقعها الطائفية الصغيرة للمشاركة في ورشة الاعمار الكبرى والتي كانت تهدف الى بناء الوطن. اما ما يكشفه خليفة عن جبران خليل جبران فوجه جديد لا نعرفه عنه. وذلك إن دلّ على شيء فعلى اهمية دراسة الوثائق التي يقوم عليها علم التاريخ. فقد عثر مؤرخنا على وثيقة مهمة في ارشيف وزارة الخارجية الفرنسية تلقي "بعض الاضواء، على موقف جبران خليل جبران من الحلول المطروحة لمستقبل لبنان والمنطقة بين عامي 1918 و1920"، على حد تعبير المؤلف. وفي الواقع تشكّل هذه الوثيقة مفاجأة كبيرة لكل الذين أطلقوا في السابق على جبران صفات الوطنية والاستقلالية والريادة لفكرة القومية السورية تارة والقومية العربية طوراً. إذ يناصر جبران جهراً فكرة إنضمام لبنان الى الانتداب الفرنسي، مستبعداً صوابية اي التحاق لبنان بالامارة العربية الكبرى التي كان يسعى اليها انصار التيار القومي العربي. ففي رسالة مرسلة الى مؤتمر الصلح المنعقد في باريس، بتاريخ 1 شباط فبراير 1919، يوقع جبران كسكرتير عام للجامعة الوطنية السورية - اللبنانية للتحرير، الى جانب عدد من اللبنانيين الآخرين نذكر منهم ايوب تابت وسعيد عقل، على عريضة نقرأ فيها ما يلي: "ان سيادة، ولو إسمية، تعلنها قبائل الحجاز على سورية المتحضرة، باسم بعض المفاهيم التي تفتقر الى القيمة العلمية كالاخوة العربية واللغة العربية والصيغ السياسية - الدينية وغيرها من الحجج المصطنعة تعتبر ضربة بالغة السوء لمستقبل التقدّم في هذه البلاد". فالطلاق واضح في هذا الكلام تجاه فكرة الوحدة العربية، هذه الوحدة التي لم تتحقق حتى اليوم بالمناسبة. بحيث يمكننا ان نقول هنا ان حدس جبران السياسي لم يخطىء في اختيار التوجّه الموضوعي والواقعي. الا ان هذا الكلام يبطل كل التفسيرات الاستنسابية التي قيلت في جبران السياسي، القومي العربي، او على الاقل تضع حولها تساؤلات كبرى بحاجة الى تعميق. وهذا تحديداً ما يشير اليه عصام خليفة. وبغية ازالة اللبس حول مسألة الخيارات الاستراتيجية، تضيف العريضة المذكورة ما يلي: "ان وحدة الاهداف عبر التاريخ والعلاقات التربوية المتجددة والمصالح الاقتصادية المشتركة، وخاصة التدخل العسكري الفعال لتخليصنا من الإبادة الشاملة عام 1860، كل هذه المعطيات تجعل من ميلنا نحو فرنسا ميلاً طبيعياً. ونحن نترجاها ان تتحمل المسؤولية لحمايتنا وتوجيهنا". فالمطالبة بالانتداب الفرنسي على سورية ولبنان واضحة في هذه العريضة التي شارك في صنعها وأمهرها بتوقيعه الكاتب جبران خليل جبران. هذا ما يقودنا الى مسألة منهجية مهمة، وهي العلاقة الوثيقة التي تربط بين الادب والتاريخ. كان اميل دوركهايم قد اشار الى اهمية العلاقة التي تربط بين علم الاجتماع والتاريخ، ولكن امتدادات على التاريخ لا تقتصر على العلوم الاجتماعية، بل تتعداها باتجاه جميع العلوم الانسانية والاجتماعية الاخرى. فاكتشاف وثيقة جديدة يساهم دوماً في تصويب تاريخ السير الذاتية لهذا الاديب او ذاك، خصوصاً عندما يلفّ اللبس بعض مواقفه من المسائل السياسية الكبرى، كما بيّنه خليفة هنا بالنسبة الى جبران. فالوثيقة تبقى أقوى المستندات ليس فقط في مجال السياسة والديبلوماسية، ولكن ايضاً في المجال الادبي خصوصاً عندما يتعلق الامر بمراحل تاريخية حاسمة ارتبطت بتيارات فكرية وادبية فذّة، كحركة النهضة. فالكتابة كانت وقتذاك التزاماً ولم يكن بمقدور الاديب التفلّت من القيود الموضوعية التي كانت تربطه بالواقع السياسي المعيش.