عام 1948 عندما اجتمع المسلمون المتشددون في اندونيسيا لمقاومة المستعمر الهولندي وضعوا لبلادهم قانوناً يعكس موقفهم الفكري والسياسي. وقرروا يومئذ اعلان الدولة الاسلامية الاندونيسية نيغارا اسلام. ما يعني ان كل المراكز القيادية، عسكرية ومدنية ستمنح للمسلمين وحدهم. وفي الاجتماع نفسه تقرر اعلان الجهاد ضد المستعمر الهولندي "الى ان يجري تطبيق شريعة الاسلام في البلاد كلها". الا ان التشدد لم يؤت ثماراً مستحبة في المرحلة اللاحقة التي شهدت قلاقل دموية أودت بما لا يقل عن 250 ألف اندونيسي، ولم تتوقف حتى العام 1962 تاركة في الاندونيسيين شعوراً عميقاً بالنفور من التعصب الديني، تجسم بوضوح في الدستور الموضوع عام 1945. أما اليوم، وبعد ثلاثين سنة على حكم سوهارتو، فحتى الجيش الذي بناه، يشهد نمو التشدد الاسلامي، لكنه لا يشي بارتداد وشيك على رئيس البلاد. وفي المقابل تحتشد المراكز الاسلامية في المدن الاندونيسية الكبرى بملايين المناصرين، فتنتشر المصليات في الأبنية الحكومية والشركات وعلى نواصي الطرق الدولية. وكما في المجتمع كذلك في الجامعات والمدارس، خلايا العمل الاسلامي ناشطة في اتجاه تمتين البنى التحتية لدولة اسلامية مقبلة، بعد سوهارتو. ويلحظ زائروا جاكارتا ان القانون الذي منع ارتداء الجلباب منذ سبع سنوات ما عاد سارياً، فحتى توتوت، ابنة سوهارتو تحجبت، على الأقل في المظهر العلني، كذلك يبدو السفر مستحيلاً في موسم الحج بسبب اكتظاظ المطارات الاندونيسية بالحجاج. والأهم ان "الهوية" الاسلامية باتت مصدراً لاعتراز الاندونيسي ووطنيته. غير ان "الوطنية" كما عرفها الاندونيسيون أيام سوكارنو، وكما حاول تعزيزها سوهارتو فيما بعد وعرفت باسم "أبانغان" ما يعني أرض الجدود، اتخذت في الحقبة المنصرمة منحى خطيراً يهدد باندلاع اضطرابات دموية جديدة كونه يصدّ ويعزل بقية الطوائف الاندونيسية، بوذية، مسيحية، وغيرها. وفي حمأة الاندفاع المرتقب نحو السلطة لا مفرّ من سحق الاقلية الصينية الممسكة باقتصاد البلاد، والأقلية المسيحية المتداخلة في النسيج الاجتماعي. والشواهد على هذه التوقعات لا تترك فسحة واسعة للأمل بتغيير من دون كارثة. ففي حزيران يونيو 1996 هاجم ثلاثة آلاف متشدد 25 كنيسة في مدينة سيتوبوندو واحرقوها، في يوم واحد. وسقط جراء الحريق عشرات الضحايا بين قتيل وجريح، بينهم كاهن مات محروقاً في كنيسته. واستمرت مثل هذه الاعمال تفجرها احداث صغيرة، فردية، سرعان ما تتحول الى هياج شارعي عنيف، كما حدث في غرب جافا خلال شهر رمضان المنصرم عندما حشدت السلطة 1200 رجل بوليس لتطويق الهجوم على الاسواق الصينية. صحيح ان سوهارتو حاول، بحنكته الشهيرة، الالتفاف على المدّ الأصولي عن طريق اجتذاب المسلمين المتنورين في المدن الاندونيسية ورفع الحظر عن الجلباب والقيام بفريضة الحج وأداء الصلاة علناً، غير انه لم يتمكن من تلمس الأسباب الحقيقية التي أدت الى التقاء النقمة العامة بالتيار المتشدد. فبقدر ما تعمقت الهوة بين "الذين يملكون" و"الذين لا يملكون" وبقدر ما تدهورت العملة واستشرى الجفاف واندلعت الحرائق وبدأ انسحاب الرساميل الاجنبية، تبدو اندونيسيا متسولة خانعة في السوق الدولية للمال، وبقدر ما تكدست فضائح أهل البيت وثرواتهم اللامشروعة، ناهيك عن بطر الحاشية وامتيازات الجيش، بذلك القدر، تعاظم شعور السواد الأعظم من الاندونيسيين بالحاجة الى تماسك في زمن الاندحار، مادة لحمته الدين، كما هي الحال في كل زمان ومكان. وفي كل حال ليس من السهل ان ينسى الاندونيسيون ان سوهارتو جسّد منذ مجيئه الى السلطة تطلعات المؤمنين بطائفة "اغاما جاوا" وهي الديانة الجاوانية المرتبطة بطقوس مما قبل الاسلام. وخلال السنوات العشرين الأول من حكمه بذل جهوداً واضحة لتحييد الاسلام السياسي رافضاً الترخيص لحركة "ماسيومي" علماً بأنها معتدلة ومتعصرنة. وفي العام 1973 حاول فرض الزواج المدني ولم يتراجع عن مشروعه الا بعدما شعر بخطر انفجار الوضع. ثم عاد عام 1978 الى نغمة الديانة الجاوانية واسبغ على المذهب التصوفي فيها كيبركايان صفة رسمية. وفي المقابل أمر بنزع صورة الكعبة عن بيرق الحزب الاسلامي واصر على ان تقبل الاحزاب الاسلامية الثلاثة مبدأ التصاهر الاجتماعي أو ايدولوجية بانكاسيلا، كشرط أساسي للترخيص لها بالعمل الشرعي. اضافة الى ذلك اسند أبرز الأدوار العسكرية لضباط مسيحيين واندونيسيين غير متدنيين. لكن القول بأن سوهارتو تصدى للاسلام الديني بعيداً عن السياسة يبقى نافلاً بصورة قاطعة. فالحكومات المتلاحقة أولت البرامج الثقافية والاجتماعية الاسلامية اهتماماً ملحوظاً. وصرفت مبالغ طائلة لتنشيط المراكز الثقافية الاسلامية عبر البلاد، بما فيها معاهد الفقه والشريعة، ناهيك عن المساهمة المباشرة في بناء المساجد والمدارس، ففي جاوا الوسطى وحدها تضاعف عدد المساجد خلال الحقبة المنصرمة حتى بلغ حوالى 30 ألف مسجد، هذا العام. وفي غمار محاولته استيعاب الصحوة الاسلامية بارك سوهارتو نشوء التجمع الاندونيسي للمثقفين المسلمين يرأسه وزير التكنولوجيا والبحث العلمي الدكتور د.ج. حبيبي وانحازت حركة "محمدية" التي تضم حوالى 30 مليون عضو الى هذا التجمع مما عمق الفوارق الايديولوجية بينها وبين "نهضة العلماء" الأكثر انتشاراً في الأوساط الشعبية. لكن ذلك لم يحل دون ظهور الناقدين في صفوف أعضاء بارزين من التجمع، خصوصاً حيال السياسة النقدية والاستثمار الخارجي. وفي 28 كانون الأول ديسمبر العام الماضي وبعدما جرى إبعاد احيان ريس عن التجمع لم يتورع الأخير عن إلقاء خطاب في حشود أفراد "محمدية" اتهم فيه الرئاسة بالفساد والتواطؤ، والاحتكار، والجشع والتدهور الخلقي". ويعتبر ريس من أبرز المثقفين المتنورين في البلاد. وما زاد في الطين بلة ان قائد المحافظين المسلمين في اندونيسيا عبدالرحمن وحيد رحب بموقف ريس واعتبره خطوة مباركة نحو تجاوز ايديولوجية المثقفين الداعية الى مجتمع اسلامي يمارس الدين وشعائره بحرية مطلقة بعيداً عن الدولة، الى ايديولوجية متشددة أكثر تدعو الى اقامة الدولة الاسلامية في اندونيسيا تحت راية واحدة، كابوس كبير بالنسبة الى سوهارتو. ليل ابناء الست الثالثة صباحاً والنشاط محتدم وراء الستارة المخملية السميكة في هذا المقصف / النادي الليلي في جاكارتا. عنوان السهرة "بياض الثلج". وهو منحدر جديد من شأنه تبديد عنف المخدرات المنبهة التي يتناولها الساهرون في بداية الليلة. إلا ان الراقصين ما زالوا يتماوجون على ايقاع موسيقى "تكنو" وكالاسماك في اكواريوم ملون. ما من جهد ملحوظ لتغطية تعاطي المخدرات هنا فالمكان تؤمه نخبة ابناء وبنات الطبقة المخملية الحاكمة او المتحكمة بزمام البلاد. لديهم السلطة والمال، ويفعلون ما يشاؤون. يطلبون من النادل حبّات "اكستازي" مع زجاجات الماء البارد اكستازي تسبب عطشاً حاداً. في البداية جرى استيراد هذا المخدر من هولندا، ثم ما لبث التجار والكيمائيون المحليون، مدعومين من "امراء" السلطة بتصنيعها في جاكارتا وجوارها. غنيّ عن القول ان الفحش المقرون بالمخدرات من أبرز عوامل النقمة لما يسببه من اشمئزاز في صفوف العامة. فاذا بلغ السيل الزبى قامت فرق المكافحة بحرق كميات من الحبوب المصادرة لامتصاص النقمة، لكنه بات معروفاً ان الكميات الاكبر تعود الى الاسواق عن طريق الشرطة نفسها. السيارات الفخمة تتقاطر الى مدخل هذا المقصف الواقع في قلب المنطقة التجارية، في الطابق السفلي لبناية تضم عدداً من الشركات والمصارف. وليس على الزائر ان يفتش طويلاً عن عناصر التناقض، فبيوت الصفيح تتراكم كالفطر حيثما تطلعت والنائمون على الارصفة يعادل عددهم اولئك النيام تحت السقوف. إلا ان ذلك لا يعني شيئاً لروّاد المقصف. عبدالله، عمره 31 سنة، يعترف بتناول حبة اكستازي كل ليلة ويقول: "لا احد هنا مهتم بالوضع السياسي والاقتصادي. انا اعمل في التجارة وما أصرفه كل ليلة لا يتجاوز الخمسين دولاراً". على بعد خطوات من كوتا، المنطقة المعروفة ب "احمرار" لياليها واحتشادها بباعة المخدرات، هذا المقصف يبقى "واحة" على حدة. وماتراه بين جدرانه من تبادل القبل الملغومة بالحبوب المخدرة، واشكال الفحش المعلن والشذوذ لا تراه في اي مكان آخر تحت الشمس.