الهلال يطوي صفحة الدوري مؤقتاً ويفتح ملف «نخبة آسيا»    اليونيفيل : لم نسهّل أي عملية اختطاف أو أي انتهاك للسيادة اللبنانية    جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل تعقد المؤتمر العالمي لطب الأعصاب    اكتشاف قرية أثرية من العصر البرونزي في واحة خيبر    الأردن: لن نسمح بمرور الصواريخ أو المسيرات عبر أجوائنا    إطلاق مهرجان هيئة تطوير محمية الملك سلمان بن عبد العزيز الملكية    رونالدو يعلق على تعادل النصر في ديربي الرياض    وسم تختتم مشاركتها في أبحاث وعلاج التصلب المتعدد MENACTRIMS بجدة    حقيقة انتقال نيمار إلى إنتر ميامي    «الداخلية»: ضبط 21370 مخالفًا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود.    بلدية محافظة البكيرية تنفذ فرضية ارتفاع منسوب المياه وتجمعات سطحية    السعودية تعرب عن قلقها إزاء استمرار القتال في السودان الشقيق وتصاعد أعمال العنف التي طالت المدنيين من نساء وأطفال    مرثية مشاري بن سعود بن ناصر بن فرحان آل سعود    المملكة "برؤية طموحة".. جعلتها وجهة سياحية عالمية    الفرصة لاتزال مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    الشيف الباكستانية نشوى.. حكاية نكهات تتلاقى من كراتشي إلى الرياض    في الجوف: صالون أدب يعزف على زخات المطر    مثقفون يناقشون "علمانيون وإسلاميون: جدالات في الثقافة العربية"    معدل وفيات العاملين في السعودية.. ضمن الأدنى عالمياً    آلية جديدة لمراجعة أجور خدمات الأجرة عبر التطبيقات    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على ارتفاع    "الأرصاد": أمطار على منطقة المدينة المنورة    هيئة الهلال الاحمر بالقصيم ترفع جاهزيتها استعداداً للحالة المطرية    جمعية البر بالجنينة في زيارة ل "بر أبها"    أمانة القصيم تقيم المعرض التوعوي بالأمن السيبراني لمنسوبيها    الكلية التقنية مع جامعة نجران تنظم ورشة عمل بعنوان "بوصلة البحث العلمي"    انطلاق فعاليات "موسم التشجير السنوي 2024" ، تحت شعار "نزرعها لمستقبلنا"    ضمك يتعادل إيجابياً مع الرياض في دوري روشن للمحترفين    وقاء جازان ينفذ ورشة عمل عن تجربة المحاكاة في تفشي مرض حمى الوادي المتصدع    ارتفاع حصيلة ضحايا انهيار سقف محطة قطار في صربيا إلى 14 قتيلاً    الشؤون الإسلامية في جازان تطلق مبادرة كسوة الشتاء    أروماتك تحتفل بزواج نجم الهلال "نيفيز" بالزي السعودي    تن هاج يشكر جماهير مانشستر يونايتد بعد إقالته    ماسك يتنبأ بفوز ترمب.. والاستطلاعات ترجح هاريس    الحمد ل«عكاظ»: مدران وديمبلي مفتاحا فوز الاتفاق    المذنب «A3» يودِّع سماء الحدود الشمالية في آخر ظهور له اليوم    الرياض تشهد انطلاق نهائيات رابطة محترفات التنس لأول مرةٍ في المملكة    تصعيد لفظي بين هاريس وترامب في الشوط الأخير من السباق للبيت الابيض    حائل: إطلاق مهرجان هيئة تطوير محمية الملك سلمان بوادي السلف    البدء في تنفيذ جسر «مرحباً ألف» بأبها    مبدعون «في مهب رياح التواصل»    أمير المدينة يرعى حفل تكريم الفائزين بجوائز التميز السنوية بجامعة الأمير مقرن بن عبدالعزيز    الطائرة الإغاثية السعودية السابعة عشرة تصل إلى لبنان    ما الأفضل للتحكم بالسكري    صيغة تواصل    هاتف ذكي يتوهج في الظلام    الدبلة وخاتم بروميثيوس    أماكن خالدة.. المختبر الإقليمي بالرياض    السل أكبر الأمراض القاتلة    الأنساق التاريخية والثقافية    هوس التربية المثالية يقود الآباء للاحتراق النفسي    «الرؤية السعودية» تسبق رؤية الأمم المتحدة بمستقبل المدن الحضرية    عمليات التجميل: دعوة للتأني والوعي    المرأة السعودية.. تشارك العالم قصة نجاحها    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان ملك إسبانيا إثر الفيضانات التي اجتاحت جنوب شرق بلاده    مدير هيئة الأمر بالمعروف في منطقة نجران يزور مدير الشرطة    أمير منطقة تبوك ونائبه يزوران الشيخ أحمد الخريصي    لا تكذب ولا تتجمّل!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خمسون عاماً على ملحمة دير ياسين : قرية أمام منظمات صهيون . طافت المنظمات بالاسرى في موكب نصر 5 من 7
نشر في الحياة يوم 13 - 04 - 1998

سخّرت المنظمتان الارهابيتان ايتسل الارغون، التي كان قائدها الأعلى ميناحيم بيغن مقيماً بتل أبيب وليحي الشتيرن التي كان قائدها الأعلى اسحاق شامير الأسرى من النساء والشيوخ وحتى الأطفال للقيام بثلاث مهمات: الأولى: ارغامهم بقوة السلاح على السير أمام "مقاتليهما" باتجاه مواقع مقاومة رجال دير ياسين للاحتماء بهم من رصاص المقاومين. الثانية: ارغام حتى المسنّات من الأسرى كرهائن على نقل جرحاهما وتقلاهما اليهود من الأمكنة الخطرة في أرض المعركة الى غيرها أكثر أماناً أو الى سيارات الاسعاف تحت الرصاص. والثالثة: استعمال الأسرى كغطاء وخديعة لجعل الأهالي يفتحون أبواب المنازل لاخراجهم منها وأسرهم والاستيلاء على محتويات المنازل.
اما الجرحى والأسرى العرب من دير ياسين فيخبرنا يهوشع غورودونتشيك الضابط في الايتسل الارغون "بعد ان تكبّدنا العديد من الاصابات فكرنا في الانسحاب من القرية وبالاجهاز destroy على الذين كنا قد أسرناهم وبالفعل أجهزنا عليهم وعلى الجرحى كذلك لأنه لم يكن في وسعنا على كل حال ان نقدم أية اسعافات لهم وكذلك قررنا الاجهاز على الاسيرات اللواتي رفضن الانصياع لاوامرنا بالتوجه نحو مراكز تجمع الأسرى"، وتروي زينب سمور انه عندما كانت وشقيقتها في أحد مراكز تجمع الأسرى سمعت بكاء طفلة فطلبت شقيقتها من يهودي من الحراس أن تأتي بها وكانت الطفلة في دار خالها وقالت لليهودي أنا أخذها واربيّها وعندما وصلت الى البيت رأت خالها وزوجته وزوجة ابنه وأطفال العائلة جميعاً قتلى في بركة من الدماء ووجدت طفلة رضيعة ممسكة بثدي أمها باكية فما كان من اليهودي إلا أن صوّب رشاشه الى الطفلة وقتلها "واصاب شقيقتي خوف كبير ورعشة شديدة استمرت معها حتى لحقت بشهداء دير ياسين". وتروي والدة محمود سمور انها بعد ان اقتيدت لتسير أمامهم لدخول البيوت وأعيدت الى المكان المخصص للأسيرات أبصرت جريحاً من أهالي البلدة تتدفق منه الدماء وما زال حياً فحاولت التوقف عنده لاسعافه، وإذ بضربة شديدة على ظهرها من حارسها تعقبها ضربات وبالحارس يأمرها بمتابعة السير، وتروي زوجة موسى عطية انها عندما أُخرجت من منزلها شاهدت جثة زوجها على باب المنزل فحاولت النظر اليه وإذ بحارسها يصفعها على وجهها ويسألها عن هوية القتيل فتنكر معرفتها به، وتروي فاطمة ام صفية انه عندما أسروا الشيخ يوسف أحمد حميدة 70 سنة جذبوه من لحيته وشتموه قبل إعدامه.
***
وتعرضت جميع الاسيرات من دون استثناء لسلب كل ما عليهن من الحلى والأساور والخواتم والنقود وأغطية الرأس طواقي المزينة بالعملات الفضية والذهبية التي اشتهرت بها نساء ريف فلسطين وذلك بعد أن فتشن بشكل مهين علني تناول الألبسة الداخلية من قبل يهوديات مسلحات وصل بهن الجشع الى حد تمزيق الآذان وهن ينتزعن الاقراط. وقد شهد بذلك ريتشارد كاتلينغ نائب المفتش العام للبوليس البريطاني في فلسطين الذي قابل الاسيرات وهن بهذه الحالة بعد وصولهن الى القدس، وتروي نزيهة رضوان انه بعد ان جمعوا نساء القرية وعدداً من الأطفال في أحد مراكز تجمع الأسرى "جاءت فتيات يهوديات مسلحات وطلبن من الجميع ان يخلعن كل ما عليهن من مصاغ ونقود ووضعن حراما على الأرض لالقائها عليه".
***
وبعد ان توقفت المقاومة لنفاذ الذخيرة وعدم قدوم أية نجدة أصعد اليهود الأسرى من شيوخ ونساء وأطفال الى شاحنات بينما كانوا يهدودنهم باسوأ العواقب. وروت زينب زوجة محمود زهران "قدم شخص وقال انه سيلقي علينا قنبلة تقتلنا جميعاً دفعة واحدة ولكن آخر أمسك به ومنعه من ذلك ثم احضروا حبالاً وقالوا انهم قرروا شنقنا وأنه يمكننا ان نختار بين الشنق والحرق وتصدت لهم شقيقتي الكبيرة وقالت ولم لا تختاروا أنتم ما تريدون؟ ولكني ضربتها لشدة خوفي على أنفسنا وقلت لهم سلمونا للحكومة فهي أرحم".
وطاف اليهود بالأسرى هؤلاء في موكب نصر على مرحلتين الأولى عندما توقفت الشاحنات عند مستعمرة غيفعات شاؤول وهي أقرب المستعمرات الى دير ياسين حيث أنزلوا وجرى تفتيشهم أمام سكان المستعمرة الذين كانوا يسخرون ويشتمون ويبصقون عليهم والثانية عندما نقلتهم الشاحنات الى وسط الأحياء اليهودية في القدس إذ اصطف السكان على جانبي الشوارع "يشتمونا ويرمونا بالحجارة والقاذورات" حسب رواية عزيزة زوجة محمود رضوان، ويصف الصحافي اليهودي البريطاني هاري ليفين في مذكراته موكب النصر هذا بقوله "شاهدت بعد ظهر يوم الجمعة 9 نيسان ابريل ثلاث شاحنات تسير ببطء ذهاباً اياباً في جادة الملك جورج وهي تحمل أسرى دير ياسين من شيوخ ونساء وأطفال رافعي الأيدي يخفرهم يهود مدججون بالبنادق والرشيشات وكان في مقدمة احدى الشاحنات صبي صغير وعلامات الهلع على وجهه ويداه مجمدتان الى الأعلى". ويقول عزرا ياخين أحد اعضاء منظمة ليحي شتيرن "لاقى شبابنا صعوبة كبرى في حماية الأسرى في الشاحنات من الجمهور اليهودي في حي محنه يهودا". ويقول يعقوب غيل الذي كان شاهد عيان وأصبح عضو كنيست لاحقاً "عندما مرت الشاحنات في حي نحالوت الذي كنت أقطن فيه أخذت الجماهير تبصق على الأسرى وتقذفهم بالحجارة وبأقذر الشتائم وكان مشهد الهستيريا الجماعية هذه والأسرى ملتصقين ببعضهم البعض للحماية منظراً بشعاً مهيناً لا سابقة له"، ولم ينته موكب النصر إلا بعد أن اضطرت الهاغانا للتدخل وارغام رجال ايتسل وليحي على تسليم الأسرى اليها وسلمت الهاغانا الأسرى الى قوات الجيش البريطاني التي أوصلتهم بدورها الى الأحياء العربية في القدس وكان عدد الأسرى حوالى المئة.
***
وإذا كانت النجاة نصيب هؤلاء الأسرى مهما كانت ظروفهم قاسية وحزينة، فإن النجاة لم تكن نصيب حوالى 20 رجلاً من الأسرى وقعوا في قبضة ايتسل وليحيى وشاهد مصيرهم مايير بعيل الضابط في مخابرات البالماخ، ويذكر القارئ ان بعيل كُلف حسب قوله من قبل قيادة الهاغانا التي كانت البالماخ تابعة لها بالاندساس بين صفوف المهاجمين على دير ياسين لمراقبة الأداء "العسكري" للايتسل وليحي خلال المعركة ورفع تقرير اليها ويقول بعيل "في ساعات الظهيرة قبضوا على ما بين عشرين وخمس وعشرين رجلاً كانوا عزلاً من السلاح عندما رأيتهم واصعدوهم الى شاحنات واتجهوا بهم نحو القدس وسمعت فيما بعد انهم طافوا بهم في جولة في احياء القدس وكانت هناك صيحات حماسية من الجمهور بعضها يقول خذ عشر جنيهات واسمح لي ان اقتل واحداً منهم، ولكنهم لم يسمحوا بذلك، بل اعادوا هؤلاء العرب الى القرية وانزلوهم الى محجر بين غيفعات شاؤول ودير ياسين وجعلوهم يصطفون عند حائط المحجر واطلقوا عليهم الرصاص وقتلوهم جميعاً، شاهدت ذلك بأم عيني بعد الظهر وكان معي مصوّر التقط صوراً لهذا المشهد".
ولم يقتصر السلب والنهب على حلى النساء واقراطهن بل شمل موجودات القرية ومنازلها كافة. ويقول المؤرخ الفلسطيني عارف العارف بصدد وضع دير ياسين الاقتصادي "بعض سكان دير ياسين مزارعون والبعض تجار ومقاولون ولهم محاجر وكسارات ومطاحن وسيارات ولهم املاك في مدينة القدس وجلهم ان لم نقل كلهم اغنياء يعيشون عيشة تدل على السعة والثراء". ويقول المؤرخ الاسرائيلي اليميني ملشتاين ان رجال ايتسل وليحي "جمعوا الغنائم، سكر، زيت، طحين مواد غذائية اخرى بكميات كبيرة وايضاً قطيع اغنام ودجاج كثير وذهب وجنيهات استرلينية ودولارات ومصاغ". ويقول يهودا مرينبيرغ ليحي انه تولى بنفسه توزيع الغنائم بين المنظمتين وان يهوشع غولد شميت مثّل ايتسل في هذا الامر، ويروي اسحاق ليفي رئيس مخابرات الهاغان في القدس في مذكراته "صودرت من دير ياسين كميات كبيرة من الغِذاء لكن كميات السلاح التي صودرت كانت قليلة وصودرت ايضاً كميات كبيرة من المال والأدوات المنزلية ووقعت حوادث نزاع وتشاجر على الغنائم بين القادة والنفار وساد جو من الاستياء بين رجال ليحي لحصه ايتسل من الغنائم بسبب اعتبارهم ان دور ايتسل في القتال كان اقل فعالية من دورهم". ويروي شاهد عيان يهودي اكتفى باعطاء الاحرف الاولى من اسمه D.A انه شاهد عند مساء الجمعة 9 نيسان رجال ليحي وايتسل يسوقون قطعان الماعز من القرية.
ويروي شاهد عيان يهودي آخر الاحرف الاولى Y.A دخل القرية بعيد خروج ايتسل وليحي منها "كانت اثار السرقة والنهب بادية في كل شيء واينما نظرت، وجدنا الخزائن في منازل القرية وقد قلبت رأساً على عقب لافراغها من محتوياتها والفرش وقد شقّت ومُزقت بحثاً عما قد تخبئه".
وكتبت هداسا افيغدور في يومياتها بعد يومين 11 نيسان وهي من افراد قوة البالماخ المرابطة في معسكر شنلر في القدس الغربية الذي انطلقت منه وحدات البلماخ التي ساهمت في الهجوم على دير ياسين: "تصل باستمرار اشاعات عن الوحشية العمياء والتعطش للدم، أطفال وشيوخ مسالمون، تنكيل بالأسرى والقتلى، تنكيل ببشر... وسلب ونهب على ايدٍ سبّاقة للقتل"... وتذهب هداسا لتمضية اجازة آخر الاسبوع السبت 10 نيسان في منزل ابويها وتعود صباح الاحد: "عندما عدت هذا الصباح كتبت في يومياتها شاهدت رفيقتي "ل" تقف متأنقة في ثوب فلاحي عربي مطرّز وعندما ابديت استغرابي وسألتها من أين لها هذا الثوب اجابتني واحدة من الفتيات كانت مغطّاة كلها ببطانية بما في ذلك رأسها بصوت خافت: ان "ل" احضرت هذا الثوب من دير ياسين وقد جلبوا من هناك لقطات، متفوعة وفيما كان الفتيات يسألنني "الا تسمعين قرقرة الدجاج في الساحة" اصابني غثيان وخجل وغضب وألم ونهضت ورجعت عائدة الى المنزل".
ولكن هداسا تعود الى المعسكر عند المساء لتجد موشي دايان الذي كان قد حضر من تل ابيب في زيارة له جالساً على الارض على رأس حلقة من الجنود وبجانبه يعقوف فوغ قائد قوات البالماخ في المعسكر الذي كان قد قاد وحدات البالماخ التي ذهبت لنجدة ايتسل وليحي في معركة القسطل ظهر الجمعة 9 نيسان كما أسلفنا.
وتكتب هداسا: "انتظرت حتى اسمع من أحد القادة كلمة تعبر عن الاشمئزاز او الغضب أو الأسف عما حصل في دير ياسين أو تدعو الى التقيد ببعض المبادئ الاخلاقية وكان هذا اول لقاء لي مع موشي ديان الذي كنا قد سمعنا الكثير عن جرأته ومواهبه القيادية. وانتظرت طويلاً آملة ان يعبر دايان عن هذه المشاعر او على الأقل ان يحدد ما يجوز عمله اثناء القتال وما لا يجوز ولكن لم يتكلم أحد من القادة في هذه الأمور وعندما حاولت مع آخرين طرح بعض الأسئلة وأخذ النقاش يتطور ببطء اسكتونا معلنين انهم سيوزعون علينا فوراً الحساء الساخن الممزوج بقطع الدجاج وحيث اننا لم نكن قد تناولنا منذ فترة مديدة مثل هذا الطعام الشهي كان واضحاً ان هذا الأمر يحتل الأولوية على أي موضوع آخر، فجلسنا جميعاً نحتسي الحساء وشاركتهم في ذلك رغم انني كنت أبلع الطعام بحلق مختنق".
وهكذا لم يقتصر السلب والنهب من دير ياسين على المنظمتين الارهابيتين الايتسل الأرغون وليحي شتيرن بل اشتركت فيه أيضاً صفوة وحدات الهاغانا: البالماخ دون سؤال أو جواب من كبار قادتها ويؤكد بيان صدر عن ليحي في 13 نيسان عقب اتهام الهاغانا للمنظمتين الارهابيتين بأنهما قامتا بنهب القرية انه بعد دخول قوات الهاغانا الى دير ياسين لم تتردد هذه القوات نفسها من نهب ما بقي من مؤن وغذاء في القرية. كما يؤكد البيان ان شركة المقاولات الكبرى سوليل بونه التابعة لاتحاد العمال الهستدروت بدأت لتوها بالاستيلاء على الكسارات وسائر الآلات في محاجر دير ياسين ونقلتها في شاحنات الى عنابرها.
***
لنعد الى بعد ظهر يوم الجمعة 9 نيسان في دير ياسين: أخيراً تحرك ديفيد شلتئيل قائد الهاغانا في القدس وهو كما يذكر القارئ، كان أرسل الى ايتل وليحي رسالة في 7 نيسان أي قبل الهجوم بيومين يوافق فيها على الهجوم على دير ياسين شرط الاحتفاظ بها من قبل المهاجمين، ففي الساعة الثانية والنصف يستدعى شلتئيل مردخاي رعنان قائد الايتسل في القدس الذي كان في القرية الى مقابلته في مستعمرة غيفعات شاؤول، ويروي رعنان انه عندما التقى بشلتئيل قال رعنان لشلتئيل: "انتهينا، القرية احتلت، اخلينا جميع العرب الذين لم يقتلوا، استلموا أي الهاغانا القرية". ويطلب شلتئيل ان تبقى قوات الايتسل وليحي في القرية ويرفض رعنان ذلك ويقول: "نحن جيش مقاتل ومقتحم وليس مهمتنا المحافظة على مواقع" ويطلب شلتئيل من مرافقه يشوردن شيف ومن تسيسون الداد ضابط عمليات لواء عتسيوني وهو لواء الهاغانا المرابط في القدس ان يدخلا القرية ليقدرا حجم القوة الضرورية للاحتفاظ بها ويقوم الثلاثة بجولة في القرية ويصلوا الى ركام منازل مدمرة ويقترب شيف منها ويعود ليقول لرعنان "هذا مرعب وفظيع هناك جثث ممعوسة". ويتابع رعنان "دخلت وشاهدت منظراً بالفعل مفزعاً جداً" ويعود الثلاثة الى شلتئيل ويقول الداد ان في تقديره ان سرية الجادناع الشبيبة تستطيع الحفاظ على القرية ويعترض شيف على ذلك قائلاً "لا يجوز ارسال فتيان الجادناع لمشاهدة أشلاء الجثث المريعة"، عندئذ يصر شلتئيل على رعنان على ضرورة "تنظيف" القرية ويعود شيف مع رعنان لمحاولة ذلك. ويضيف رعنان: "خارت قوى الرجال تحت وطأة هذا العمل، رفعوا كتلاً من الاسمنت والأحجار المقدسية من اجل اخراج اشلاء الجثث الى خارج المباني وكان ذلك مريعاً وخارت عزيمتهم وعندها قال لي يهودا لبيدوت قائد قوة ايتسل في دير ياسين: "من السخف ان نطلب من رجالنا فعل ذلك وأنا لا أنوي ان أفعل ذلك، كفى، وبقيت الجثث في المكان" ويعود رعنان قبيل المساء الى القدس ويقول لشلتئيل في محادثة هاتفية ان قوات ايتسل وليحي ستخلي القرية صباح الغد السبت في 10 نيسان ويطلب شلتئيل منه الاحتفاظ بها على الأقل الى يوم الأحد.
ويروي مردخاي جيحون ضابط استخبارات الهاغانا في المنطقة انه كلف بدخول دير ياسين بعد الظهر الجمعة لاقناع المحتلين بتنظيفها وبألا يتركوا الجثث من دون دفن: "قلت لهم لا تلقوا الجثث في الحفر والكهوف لأن هذا هو أول مكان سيجري البحث عنها فيها" ويتابع جيحون "كان ذلك بعد خدمة في الجيش البريطاني في أوروبا وبعد الالتقاء بالناجين من المحرقة في المعسكرات، كنت مستعداً لتقبل كل شيء عن الألمان ولكني كنت ساذجاً بخصوص حروبنا ومحاربينا وكانت زيارتي الى دير ياسين صدمة أخلاقية بالنسبة لي لأني لم أكن شاهدت قبل ذلك بأم عيني هذا العدد الكبير من الجثث واليوم أعرف ان أموراً كهذه ارتكبت".
ويروي جيحون انه صدم أيضاً لمرأى عدد من "المنشقين" اي اعضاء ايتسل وليحي "يتناولون طعامهم بشهية بجانب الجثث".
***
وعند الثامنة مساء الجمعة تعقد المنظمتان "المنشقتان" مؤتمراً صحافياً في غيفعات شاؤول دعتا اليه الصحافيين اليهود والاميركيين من دون غيرهم ويمثل المنظمتين مردخاي رعنان ويصف مراسل الاسوشييتد برس الاميركي المؤتمر كالآتي: "دخلنا الى فيلا كبيرة في غيفعات شاؤون تشعّ من حولها الأنوار الكهربائية ويحيط بالمكان بضع مئات من شباب اليهود وبناتهم مدججين بالاسلحة الاتوماتيكية وقادونا الى القائد وهو من عصابة الارغون ومن حوله اعوانه يحملون بأيديهم المدافع الرشاشة الخفيفة وبادرنا القائد بعد ان اخذنا مقاعدنا بقوله: "استطيع ان اعلمكم اننا قمنا بحملة تأديبية على قرية دير ياسين العربية القريبة من هنا لما كان شبابها يقومون به من تحرش واستفزاز بالاهلين اليهود فأبدناهم عن بكرة ابيهم ودمرنا قريتهم ليكونوا عبرة لغيرهم ويسوءنا ان نعلمكم اننا نعترف بتقتيل عدد من النساء والاطفال تعرضوا لخطوط نيران بنادقنا ومدافعنا الرشاشة وانتهى المؤتمر الصحافي ولم يسمح لنا بالتجول او زيارة القرية وأُعدنا من حيث اتينا تحت حراسة شديدة لنذيع امر هذه النكبة على العالم".
ويقول المؤرخ اليميني ملشتاين ان رعنان اجاب على اسئلة الصحافيين بقوله ان عدد القتلى الصرب 240 وان محطة الاذاعة البريطانية بي. بي. سي اذاعت في الليلة الجمعة نفسها هذا الرقم مضيفة ان معظمهم من النساء والاطفال كما يقول ملشتاين ان رعنان اخبر الصحافيين ان البالماخ اشتركت في الهجوم. ويقول آموس برلمتر الاسرائيلي، كاتب سيرة مناحم بيغن، ان بيغن صرّح تلك الليلة ان احتلال دير ياسين "انجاز رائع" بالعبرية: Esseg Gadol وان حاييم لانداو نائب بيغن وجّه الرسالة الآتية الى قادة العملية: "تقبلوا تهانينا على هذا النصر المدهش، انقلوا الى الجميع افراداً وقادة اننا نصافحهم فخورين بروحهم القتالية الغازية التي صنعت التاريخ في ارض اسرائيل والى النصر كما في دير ياسين كذلك في غيرها سنقتحم ونبيد العدو، ربنا، ربنا لقد اخترتنا للفتح".
***
ويروي الدكتور حسين فخري الخالدي في مذكراته وكان امين سر الهيئة العربية العليا في القدس وأحد اثنين من اعضائها اللذين بقيا في فلسطين والآخر هو احمد حلمي باشا: "وصلتنا اخبار مجزرة دير ياسين بعد ظهر ذلك اليوم الجمعة بعد ان اودعنا شهيدنا عبدالقادر مقره الاخير فاتصل حالاً بمكتب السكرتيريه اي الحكومة المركزية البريطانية في القدس وأعطى المسؤولين بعض التفاصيل ولم يكن خبر الحادث قد وصل اليها بعد ثم اتصل بقيادة البوليس فنفى لي مساعد المدير العام الخبر وأنكر معرفته ولكنه يعد بإرسال مصفحة بوليس لبحث الامر ويعود بعد ساعة من الزمن فيخبرني بأنه ارسل شرطياً بريطانياً وضابطاً يهودياً الى المكان المذكور ولكنهما عادا فأخبراه بأن الهدوء يخيّم على القرية وجوارها وان الحادثة مجرد اشاعة وتصلنا جموع النساء والاطفال وحالتهم تفتت الاكباد يعلموننا بما جرى وان الجثث تملأ شوارع القرية فأَتصل بالسلطات العسكرية وتنكر هي الاخرى الحادثة وتأسف لعدم استطاعتها المداخلة.
ونخابر مندوب الصليب الاحمر الدولي فيعد بالذهاب لزيارة القرية ولكن السلطات المسؤولة في الوكالة اليهودية وجيش الهاغانا يماطلون ولا يسمحون له بزيارة القرية مساء ذلك اليوم لكي يستطيع اليهود اخفاء معالم جريمتهم.
"فأكرر الطلب للسلطات المدنية وسلطات الأمن العام بأن تقوما بعمل استطلاعي على أقل تقدير وترسل بعض الدبابات او المصفحات لترابط حول القرية الى ان يأتي ما يأتي به الغد.
"وفي اليوم التالي السبت 10 ابريل لم يبق شك فيما جرى وان الضحايا من سكان القرية بلغ عددهم المئتين والخمسين وجلهم من النساء والاطفال والشيوخ وبعض النساء من الحوامل ويستغيث بعض رجال القرية الذين استطاعوا الافلات من الحدث بنا وبالحكومة ويطلبون على الأقل السماح لهم بالعودة الى قريتهم لدفن موتاهم وشهدائهم فتمتنع الحكومة عن سماع صوت هذه الاستغاثة او الحاحنا نحن من مكتب الهيئة في القدس ولا يجرؤ الجيش البريطاني بقوته وعظمته حتى بالاقتراب من مكان الكارثة خوفاً من الاصطدام مع اليهود.
"ويزورنا في مكتب الهيئة مساعد قومندان البوليس الميجور فائز الادريسي، ويؤكد ان في استطاعته اختراق الحصار اليهودي واحتلال القرية وضواحيها إذا ما سمحت له الحكومة بذلك على أن ينتخب ثلاثمئة من رجال الشرطة العرب الاشداء من بوليس المدينة والضواحي، ولكن الحكومة ترفض هذا العرض مع العلم بأن شرطياً بريطانياً واحداً لن تتعرض حياته للخطر".
***
ويقول جاك دو رنيير ممثل الصليب الأحمر الدولي في القدس إن العرب اتصلوا به هاتفياً يوم السبت 10 نيسان وطلبوا منه التوجه فوراً إلى دير ياسين فأتصل بالوكالة اليهودية وقيادة الهاغانا فقيل له إن لا علم لهما بما حدث في دير ياسين ونصحاه بعدم التدخل في الأمر كيلا يقضي بذلك على مهمته الإنسانية، ورفضا أن يمنحاه أية حماية إذا ما قرر الذهاب، فيجيب أنه مصمم على الذهاب وان الوكالة اليهودية مسؤولة عن حمايته، وعلى الرغم من موقف السلطات اليهودية السياسية والعسكرية يتمكن دو رنيير من دخول القرية في سيارة اسعاف وبصحبته طبيب يهودي، ولكن ذلك لا يتم إلا في اليوم التالي، أي الأحد في 11 نيسان.
ويصف دو رينيير ما شاهده في دير ياسين كالآتي: "كان جلّ أفراد العصابة رجالاً ونساءً من الأحداث وبعضهم مراهقون والجميع مدججون بالسلاح يحملون المسدسات والرشاشات وقنابل اليد والسكاكين الطويلة وكان معظم السكاكين ملطخ بالدماء واقتربت مني شابة وسيمة ذات عيون مجرمة وأرتني بتباهٍ سكينتها التي كانت ما زالت تقطر دماً وكان واضحاً ان هذا هو فريق التطهير أي الاجهاز على الجرحى وأنه كان يقوم بمهمته على أكمل وجه".
ويحاول دو رينيير دخول أحد المنازل، وإذ بالمسلحين يحيطون به ويمنعونه من ذلك، قائلين إنهم سيأتون بالجثث إليه، فيغضب دو رينيير ويثور كما لم يثر في حياته قبلاً ويدخل المنزل من دون إذن منهم: "كان كل ما فيه مقلوباً رأساً على عقب وفيه جثث باردة والواضح لكل عين ترى ان التطهير جرى بالمدافع الرشاشة والقنابل اليدوية وأُكمل بالسكاكين، وكان المشهد في المنزل التالي مماثلاً وبينما كنت على وشك الخروج منه وإذ بي اسمع صوتاً كأنه تنهد خافت فأخذت افتش في كل مكان وأقلّب الجثث إلى أن بان لي قدم صغير كان لا يزال دائفاً وكانت صاحبته بنت صغيرة لها من العمر عشر سنوات شوهتها قنبلة يدوية ولكنها ما زالت حية فحملتها وتوجهت نحو باب المنزل، وإذ بالضابط اليهودي واقف فيه يعترض مروري، فدفعته جانباً حاملاً حملي الثمين ووضعت الطفلة في سيارة الاسعاف وطلبت من السائق أن ينقلها لتوه إلى المستشفى ويعود إليّ وكان المشهد المريع ذاته في كل منزل دخلته ولم أجد حياً غير امرأتين اخريين احداهما جدة طاعنة في السن ظلت مختبئة خلف كومة من الحطب طيلة اليومين الأخيرين".
وكانت الطفلة التي عثر عليها دو رينيير البنت فاطمة الجريحة في البيت المحترق التي كالمتها نزيهة وكانت اصابتها في رأسها وتوفيت بعد يومين من العثور عليها، ويذهب دي رنيير إلى الوكالة اليهودية فور عودته إلى القدس فيقابله الزعماء اليهود بالاعتذار والاستهجان والادعاء بأن لا سيطرة لهم على منظمتي الارغون والشتيرن، ويتوجه بعدها إلى مكتب الهيئة العربية فيجد المسؤولين العرب في حال غضب عارم ويطلبون منه أن يعود إلى دير ياسين ليتأكد من دفن الشهداء بشكل لائق في موقع يمكن التعرف عليه لاحقاً ويحاول اليهود في القرية منعه من دخولها ولكنه يتمكن من ذلك ويصرّ بحزم على البدء بالدفن في حضوره وتبدأ عملية حفر قبر كبير بالقرب من حديقة صغيرة ويدوّن دو رينيير أوصاف الجثث التي كان عدد كبير منها قد صف على طول الطريق العام، وقبل حلول الليل يغادر دو رينيير دير ياسين واعداً بالعودة إليها. ويعود بالفعل يوم الثلثاء 13 نيسان ليجد أن رجال الارغون والشتيرن قد اختفوا من المكان وحل محلهم رجال الهاغانا ويتفقد القرية ويجد الجثث مكدسة في عدة أمكنة في الهواء الطلق من دون مراعاة لأي حشمة أو احترام.
ويقول الطبيب اليهودي الفرد انغل الذي رافق دو رينيير إلى دير ياسين: "كان واضحاً ان المهاجمين انتقلوا من منزل إلى آخر وأطلقوا النار على الاشخاص عن كثب، لقد خدمت مدة خمس سنوات طبيباً في الجيش الألماني في الحرب العالمية الأولى، ولم أرَ مشهداً مفزعاً كهذا".
ويقول الدكتور حسين الخالدي في نهاية كلامه عن دير ياسين في مذكراته: "واقترحنا ذهاب إمام أو شيخ ليصلي على الشهداء الصلاة الأخيرة والجماعية قبل دفنهم ولكن اليهود رفضوا ذلك".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.