صدر حديثاً في القاهرة العدد الأول من "المنار الجديد"، التي تمثل صوتاً للتيار الإحيائي الإسلامي المعاصر، وهي مجلة، كما عرّفتها هيئة التحرير، تختص في فلسفة الدين وشؤون الاجتماع والعمران. والساحة الثقافية المصرية تخلو من مجلة ثقافية تتناول هذه المواضيع، خصوصاً بعد وقف حزب العمل الاشتراكي اصدار مجلة "منبر الشرق" الأكثر قرباً لمواضيع "المنار الجديد"، وتقوقع وتراجع مجلة "المسلم المعاصر". و"المنار" مجلة أصدرها الشيخ محمد رشيد رضا في العام 1898 لتكون منبراً لدراسة أوضاع العالم الاسلامي آنذاك وايجاد الحلول لها، وبذلك كانت ديوان فكر المدرسة الاصلاحية الاسلامية، فحملت رسالة مدرسة الإحياء الديني والتجديد الاسلامي الى كل أقطار عالم الاسلام، مزكية الخيار الاسلامي الوسطي سبيلا للنهضة الاسلامية والشرقية ورافضة الجمود الذي يقلد السلف، والتبعية التي تقلد الحضارة الغربية. ووضعت "المنار" ضمن أهدافها تنقية العقيدة من شبهات الشرك، ونشر المنهاج الجديد في تفسير القرآن الكريم والدفاع عن الشريعة الإسلامية وعلومها واللغة العربية، وتبصير الأمة بالفروق بين الدين الإلهي وبين العادات والتقاليد والأعراف. الدفاع الواعي عن وحدة الأمة، والتحذير من تقليد الحضارة الغربية الغازية مع الدعوة الى تعلم علوم الغرب وخبراته في التقدم، ونشر الفتاوى المعاصرة، التي تفقه الأحكام وتفقه الواقع الجديد، لتعقد القران بين فقه الواقع وفقه الأحكام. ولعل إعادة إصدار المنار مرة أخرى بعد مئة عام من صدورها الأول، يؤكد أن أهداف المنار الأولى لم تختلف كثيراً عن أهداف المنار الجديد. ما زالت القضايا هي هي. والصراع الحضاري بلغ أشده. عبّر عن ذلك دراسة نشرتها المجلة للمستشار طارق البشري تحت عنوان "التجديد الاسلامي بين قرن مضى وقرن يجيء"، بدأها بذكر ان المنار والهلال مجلتان شهريتان ظهرتا في التسعينات من القرن الماضي، و"المنار" أنشئت كمجلة للتجديد الفكري، والفقهي الإسلامي. و"الهلال" أنشأها جورج زيدان للتنوير الفكري الآخذ عن الغرب وفلسفاته، وكلاهما أتى من الشام الى مصر. الأولى انقطع صدورها، والثانية استمرت الى اليوم بسبب تبني الدولة لها. ويخلص البشري إلى أن الهلال والمنار تياران مثلاً صراعاً ما زال موجوداً على الساحة الفكرية والثقافية، وإن كانت النداءات الوطنية الاستقلالية صارت أكثر التصاقاً بالفكرية الإسلامية وأن صلة هذه النداءات بالتيار العلماني صارت إلى الوهن والتفكك وأنتقلت الحركة الإسلامية من مرحلة الدفاع عن أصول الإسلام وبيان أفضليته على غيره من العقائد والمرجعيات، أو على الأقل بيان أنه ليس أقل من غيره من النظم الفكرية والعقدية، إلى مرحلة الربط بين الأسس العقدية للإسلام ومناهج التفكير الإسلامي وبين مجالات علوم الواقع وفنونه سواء مجالات الاقتصاد أو السياسات الخارجية أو علوم السياسة أو الاجتماع. وبدأت خطوات لا بأس بها - في كل هذه المجالات - وأبدى البشري ملاحظتين مهمتين، الأولى تدعو إلى نوع من التشاؤم، ذلك أننا عندما نقارن بين أوضاع نهاية القرن التاسع عشر وأوضاع نهايات القرن العشرين، نكتشف أننا في المرحلة السابقة عندما أنشئت المنار كنا نقف على أرض الإسلام عقيدة وحضارة وأصولا شرعية واحتكاماً، وكنا نتناقش فيما نستدعي من تجارب الغرب ونماذج حضارته ونظمه وأنماط تعامله لنصلح بها شأننا. أما الآن في مرحلتنا الراهنة، فقد بتنا نقف على أرض خليط لم تعد خالصة للإسلام عقيدة وحضارة، وأصولاً شرعية واحتكاماً وصار ما نطلب استدعاءه هو تجارب الإسلام ونماذج حضارته ونظمه لنصلح بها شأننا. والملاحظة الثانية يرى فيها أنه يخفف عنا تشاؤمنا أننا صرنا أحصن في الانبهار بالغرب، وفكره ونظمه، ويخفف عنا أيضا ان تصاعد التأثير الغربي علينا بلغ ذروته وبدأ في الانحسار على مدى القرن الماضي. وان معركتنا كانت سياسية عسكرية واقتصادية وفكرية. وأنها كانت عاتية، وأنها تعلقت بذواتنا وهويتنا، فإذا كنا نجحنا في استرداد هذه الهوية، بمثل ما كنا في بداية القرن الماضي، فهذا حسبنا نجاحاً. ويطرح المفكر السوري محمد العبده نظريته في مسيرة الدعوة والاصلاح، ومنها أن إخراج المسلم المصلح الذي يملك المؤهلات لعملية التغيير أمر مغيب عن كل تيارات الإسلام الإحيائي. وبقي في داخل الفرد شركاء متشاكسون بسبب عدم إقامة التوازن بين الاشكاليات المطروحة، الدين والدنيا والتراث والتجديد، الاستفادة من علوم العصر مع بقاء الثوابت. فالفرد المسلم أصيب بالعطب في فهمه للإسلام. وأصبح في حاجة إلى محاضن تربوية واجتماعية تنقذه وتبنيه. وافتقد العمل الإسلامي للتحليل المنهجي للمرض، كما افتقد التخطيط الاستراتيجي والمرحلي ليستطيع وضع الخطط المناسبة التربوية والثقافية والاقتصادية، ولم يبرز مشروع علمي متكامل، بل اغراق في الجزئيات. وجاءت الشورى شعار للعديد من الحركات الإسلامية، إلا أن الحقيقة التي يذكرها العبده أن الشورى لم تمارس عملياً من قبل هذه الحركات، بل ناقشت بعض الحركات الزاميتها واعتبرها معلمه، والذين اعتبروها ملزمة استطاعوا الالتفاف عليها كما تلتف الحكومات في بلدان المسلمين على البرلمانات الصورية. فالقرارات والشؤون المهمة تكون جاهزة من قبل، وكأن العمل الإسلامي تأثر بالمناخ الاستبدادي الذي يعيشه في الخارج. ولم تستطع الحركة الإسلامية المعاصرة أن تجعل جماهير الأمة سنداً لها في تحقيق أهدافها، بل ربما نظر البعض إلى الجماهير نظرة احتقار، وأنهم عوام جهلة، لا يُعتمد ولا يعتد بهم، وهذا من وجهة نظر العبده، من الاخطاء الكبرى، فهذه الجماهير مخزون اسلامي تشكل تاريخيا على مدى أربعة عشر قرنا. وهي كمختزن تاريخ الأمة. وأخيراً يضع العبده يده على حل أساسي للحركات الإسلامية وهو ضرورة اعتمادها على المؤسسات المتخصصة في ميادين الفكر والعمل، وهذه المؤسسات ستفرز بالتبعية أصحاب الحكمة النظرية وابتكار الاستراتيجيات اللازمة. وتناول الدكتور يحيى اسماعيل أحد أقطاب جبهة علماء الأزهر، ومحنة التعليم الأزهري، إذ يرصد فيها تدهور المستوى الدراسي للأزهر نتيجة لمحاصرته بمشاريع تطوير، كذلك مصادرة أوقافه، وإخضاع ماليته للدولة وهو ما أعاق أي عملية تطوير للأزهر من داخله. وإذا كانت مشاريع التطوير شلت الأزهر كمؤسسة دينية مهمتها الأولى اخراج العلماء القادرين على استنباط الاحكام، فإن التيارات الإسلامية حرصت على تغذية الأزهر بنشء ربته هي، وكان من نتيجة ذلك ظهور جيل جديد أكثر وعياً بدور من الأجيال المغيبة السابقة، وهو ما سيجعل الأزهر له دور حيوي في المستقبل من خلال علماء تربوا على تقدير الازهر. وهو ما لم يذكره الدكتور يحيى اسماعيل. هذه هي أبرز دراسات "المنار الجديد"، وإن كانت المجلة لم تغب عن واحدة من أهم المعارك الثقافية على الساحة المصرية الحالية، فنشرت موضوعاً للدكتورة زينب عبدالعزيز تناوئ فيه بالحجة أنصار الاحتفال بمئتي عام من الحملة الفرنسية على مصر. مثلت "المنار الجديد" بموضوعيتها نمطاً خاصاً من المجلات الفكرية والثقافية يخرج عن الإطار المعتاد لمثل هذه المجلات في مصر. ويعتبر عددها الأول تقويماً للحياة الفكرية ولأداء الحركات الإسلامية على مدى قرن من الزمان، وفي الوقت نفسه نقد بعض ما يجري على الساحة من أحداث. ويبقى على المجلة في أعدادها المقبلة ان تطرح رؤيتها لمستقبل العالم ومعالجتها للمشاكل التي يعاني منها العرب والمسلمون لكي لا تتحول الى منبر لرصد الداء، كما تحول العديد من المجلات، من دون ان تطرح الدواء.