الحادث المؤلم الذي راح ضحيته عشرات الاحداث من مجندي الخدمة الالزامية في معسكر العيلفون على الضفة الشرقية للنيل الازرق جنوبالخرطوم، يجب ان لا يمرّ من دون تسليط الضوء عليه والبحث في اسبابه، ومحاسبة المسؤولين عنه ومراجعة النظام العقيم المثير للجدل والحيرة والدهشة في آن، الذي ظل نهج ادارة الخدمة الالزامية في المؤسسة العسكرية السودانية، خلال السنتين الماضيتين. لقد تناولت جهات عديدة من معسكر الحكم ومعسكر المعارضة هذا الحادث، وتضاربت التصريحات والبيانات حول عدد القتلى والمفقودين، ولكل بلا شك اجندته الخاصة، التي يحاول ان يخدم بها اجندته السياسية، بالتهويل والمبالغة من جانب المعارضة، وبالتعتيم والغموض من جانب الحكم. وبما ان حياة البشر اهم من كل هذا، وأهم من المزايدة عليها في سوق السياسة، تمنيت لو ان الكل او البعض تطرق الى المرض، بدلاً من مناقشة اعراضه او نتائجه، ففي ظل السياسة الحالية لهذه الادارة وفي غياب الرؤيا الاستراتيجية للهدف الاصلي من التجنيد او أداء الخدمة الالزامية، تصبح مأساة او كارثة معسكر العيلفون قابلة للتكرار في موقع آخر من مواقع التدريب، او مجسمة وبأعداد اكبر في مواقع القتال الحقيقي في جبهات الحرب الاهلية المتعددة، طالما ان هذه الادارة، او اصحاب القرار السياسي يدفعون الى هذه المواقع بافواج بشرية وراء افواج، من دون تدريب أوتأهيل قتالي كاف يؤمن لهم النصر في حروب اجبروا على خوضها، او على الاقل الاحتفاظ بأنفسهم احياء، وهي اولى واجبات المقاتل قبل البحث عن النصر. الخدمة الالزامية، او خدمة العلم لفترة زمنية محددة كشرف وواجب وطني، لا غبار عليها من حيث المبدأ، فقد عملت بها الديموقراطيات الراسخة، كما عملت بها النظم السلطوية ولكن بشروط وأسس وضوابط، اولها واهمها عدم اللعب بالارواح والحياة في سبيل تحقيق اهداف سياسية، وهذا امر آخر لا يتسع المجال هنا لتناوله. هذه الادارة لم تنشأ في هذا العهد، وخلال الديموقراطية الثالثة 86 - 1989 دار حديث طويل ونقاش اطول حول مفهوم هذه الخدمة، بين الجيش الوطني المحترف، وبين القوة الصغيرة المحترفة التي تكملها في اطار السياسة الدفاعية للدولة ادارة تحت اشرافها للخدمة الالزامية توازن في مراميها واهدافها بين: أ مساحة السودان الكلية وتقويم الاخطار المحتملة. ب عدد القوة "تحت السلاح" ونسبتها الى تعداد السكان الكلي، والقوى الاخرى اللازمة للانتاج في دولاب الحياة الاقتصادية والعامة. ج ما تستطيع ان تفرزه من نسبة من الدخل القومي للدولة لخدمة الاهداف الدفاعية، وتعداد واعداد الجيش الوطني العامل لخدمة الاهداف الوطنية. ولا اعتقد أن هذه المبادئ العامة، كان من الممكن ان تتغير بتغيير النظام او شخوصه، لأن من المفترض ان تكون مبادئ عامة للسياسة الدفاعية للدولة لا النظام. اذ ان للنظام اجهزة اخرى موازية لحمايته، كالامن، والدفاع الشعبي وكتائبه المتحركة وخلافه. القوانين العسكرية في كل نظم العالم الشمولية والحرة - والسودان ليس استثناء - توضح بجلاء شيئين وتفرق بينهما: 1- المتطوع للقوة النظامية المحترفة، مسؤول عن نفسه وعما يصيبه، بعد ان يوقع على الاتفاق بينه وبين المؤسسة العسكرية التي ينتمي اليها، لأنه جاء برضائه اولاً، وعلى علم بمخاطر الحرفة التي انخرط فيها، وواجب المؤسسة هو اعطاؤه وتمكينه من اعلى درجات التأهيل والتسليح والخطط التي تضمن له النصر او البقاء على قيد الحياة. وفي فترة العزل الاولى "Confinement Period"لا يعامل معاملة العسكري ولا تتطبق عليه قوانينها بصرامة، حتى تتم اعادة صياغته داخل سلك العسكرية المحترفة، ونزع التفكير المدني من رأسه. 2- المجندون في الخدمة الالزامية، لأنهم لم يأتوا طوعاً بل هم مجبرون، تقع مسؤولية حمايتهم بالكامل على الدولة - وموضوع تأهيلهم وتدريبهم واعدادهم والحفاظ على ارواحهم بالضرورة اول واجبات الدولة. هذا الاستطراد كان امراً لا بد منه، لأن حادث هذا المعسكر، والعشرات الذين ماتوا هرباً منه، ازاح الستار عن عشرات الحوادث، راح ضحيتها آخرون كثر لم تعلم اسرهم عن موتهم في ميدان المعارك، الا بالصدفة المحضة وعن طريق بعض زملائهم من رفقاء السلاح وبعد مضي شهور عديدة على استشهادهم. فادارة الخدمة دأبت على اخذ الشبان من الشوارع، ومن الحافلات العامة ووسائط النقل الاخرى، واخذهم مباشرة الى معسكرات التدريب، ثم الى جبهات القتال. واعتاد هؤلاء على اعطاء اسماء وهمية، وعناوين وهمية، أملاً في الهروب من المعسكرات التدريب واتقاء للملاحقة ان نجحوا في ذلك. فإذا مات احدهم واعلنت الدولة او القوات المسلحة ذلك، كثيراً ما لا يتعرف عليه اهله، ويبقون في الانتظار شهوراً حتى يخرج عليهم احد رفاقه لابلاغهم بالحقيقة. لذلك كنت اتمنى وارجو ان يكون في فتح ملف كارثة هذا المعسكر الاخيرة، فرصة لمراجعة أداء هذه الادارة بالكامل ووضع الاسس والضوابط التي بموجبها يصبح اداء الخدمة العسكرية شرفاً وواجباً يتدافع اليه الشباب والنشء، لا توابيت مجهولة الاسم مجهولة العنوان، لا تخدم غرضاً دفاعياً للدولة، ولا تخلق ثقة بين شعب لم يعرف عنه الجبن، وقواته المسلحة التي كان حرصنا على عزتها وقوميتها موازياً لحرصنا على تراب ارضنا نفسها. ولنعد في هدوء الى كارثة هذا المعسكر، والتضارب بين بيانات الحكومة وبيانات المعارضة. فالمعسكر تابع للقوات المسلحة السودانية وادارة التدريب تابعة لها وقواعد الاشتباك "Rule of engagement"في قوانين القوات المسلحة واضحة وجلية، وهي عدم اطلاق النار على هارب او اعزل، فإن اتضح ان هؤلاء الشبان ماتوا بعد اطلاق النيران، تصبح هذه المسألة جريمة تحت اي قانون كان، ولا بد من مساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها، فالقوات المسلحة ليست دولة داخل دولة، وبموجب قانونها هي لا القانون المدني، يعتبر هذا الامر جريمة يمكن ان تفضي الى محاكمة عسكرية للمسؤول عنها. والملاحظ ايضاً ان اجهزة الدولة واجهزة الاعلام تعاملت مع الأمر كأنه سر خطير جرى التعتيم عليه، وهو ما فاقم المشكل وخلق الحيرة وزرع بذور الشك في حقيقة موت هؤلاء الطلاب. وتخندق آخرون بمنطق القبيلة منددين او مدافعين عما حدث، وبمثل هذا التمترس والصخب الاعلامي تضيع الحقيقة. ولا اعتقد أن هذه الحادثة يمكن ان تهدأ او يهدأ الحديث عنها وعن تبعاتها وتداعياتها الا اذا: أ اعترفت الدولة او ادارة الخدمة الالزامية بوجود مشكلة او كارثة انسانية تتطلب تحقيقاً نزيها على قدر كاف من الشفافية حتى يطلع الرأي العام الداخلي والخارجي على حقيقة ما حدث. ب ان تضم لجنة التحقيق ممثلين للطب الشرعي، وبعض اساتذة كلية الطب، ونقابة المحامين، برئاسة قاضي مشهود له بالكفاءة والتراهة. ج ان تكون جلسات لجنة التحقيق ووقائعه متاحة لاجهزة الاعلام والنشر بكل انواعه حتى يعرف المواطنون حقيقة ما حدث، حتى لو ادى الامر الى تشريح الجثث التي دفنت وتصويرها. د معاقبة من تثبت ادانته في هذه الاحداث اذا ارادت الدولة اعادة الثقة المفقودة بين الناس واجهزة الحكم. بعد هذا اعتقد ان موضوع الخدمة الالزامية وما صاحبها من ظواهر سلبية في الممارسات، اثبتت بلا شك أن هنالك مركز قوة او مراكز قوى في النظام تعمد الى تخريب متعمد لأي مظاهر يمكن اعتبارها ايجابية في اعادة الحياة وانضباط الأداء على مستوى مؤسسات الدولة، ومثل هؤلاء ان تركوا في مواقعهم لا اعتقد بأن وفاقاً او انفراجاً في الافق السياسي يؤدي الى حالة استقرار يمكن ان يتم.