لا يمكن تناول البعد الانساني لقضية الجولان من دون الاستماع الى "النازحين"، أي المواطنين السوريين الذين يبلغ عددهم حالياً نحو نصف مليون نسمة، الذين تركوا الجولان وسط الفوضى والدمار اثناء الغزو الاسرائيلي في 1967. في حالات كثيرة يجد الباحث، في سعيه لفهم الأوضاع، ان عليه طرح الأسئلة الصعبة التي يفضل البعض عدم الخوض فيها. من بينها السبب في النجاح شبه التام لعملية "التطهير العرقي" التي شهدتها منطقة الجولان في حزيران يونيو 1967. ذلك لأن الجواب البسيط، وهو ان الاسرائيليين اجبروا السكان على الرحيل، ليس كافيا - على رغم وضوح مسؤولية الاسرائيليين عن عدم السماح للسكان المدنيين بالعودة الى بيوتهم وممتلكاتهم بعد انتهاء الحرب، وهو ما يتطلبه القانون الدولي والعرف الانساني. يوم الكارثة بالنسبة لسكان الجولان كان الجمعة التاسع من حزيران 1967. وحقق الاسرائيليون بحلوله معظم اهدافهم على الجبهتين المصرية والأردنية، بينما هاجموا، منذ اليوم الأول للحرب، غالبية مطارات سورية ودمروا سلاحها الجوي. في الساعة 11.30 قبل ظهر ذلك الجمعة، بدأ الاسرائيليون، المتمتعون بالسيادة التامة على الجو، هجومهم الجوي والأرضي الساحق على الجولان. وكتب موشي دايان ان "عمليات الاختراق استغرقت سبع ساعات حتى المساء، وكانت ساعات عنيفة فعلا. لكن خلال الليل لم يكن هناك سوى موقع سوري واحد يقاوم بقوة، فيما انهار النظام العسكري السوري في كل القطاعات الاخرى بعد ان اخترقنا تحصيناتهم ... بذلك كانت معركة الجولان عملية من مرحلة واحدة، مرحلة الاختراق. بعدها انسحبت القوات السورية - بل هربت في الكثير من المواقع - في حال من الفوضى نحو دمشق". لا مجال هنا لتفحص قرار القيادة السورية اعطاء الأولوية الحاسمة للدفاع عن دمشق، أو النظر في الأخطاء والنواقص التي، رافقت كما يبدو، تنفيذ الانسحاب. لكن الموضوع هو ملاحظة التأثير المدمر للانسحاب المتخبط هذا على سكان الجولان. وربما كانت العلاقة الوثيقة بين السكان والقوات المدافعة عنهم خلافا، على سبيل المثال، لوضع الضفة الغربية أدت الى مفاقمة الوضع، عندما تراجعت تلك القوات في شكل شبه مفاجيء. لكن مهما كانت الاعتبارات المتضاربة في اذهان السكان ازاء الصدمة كانت النتيجة واحدة في كل القرى والبلدات، عدا خمس او ست قرى في اقصى شمال الجولان، وهي نزوح الكتلة السكانية بأسرها، التي كان تعدادها نحو 140 الفا من الرجال والنساء والأطفال. *** أين هم الآن، نازحوا 1967؟ بدأت بالبحث عن الجواب في نهاية السبعينات، عندما كنت ازور سورية في مهمات صحافية. ولم تكن المهمة سهلة، اذ لم يكن لاصدقائي في وكالة غوث اللاجئين اتصال بالنازحين او معلومات تذكر عنهم. اما الاصدقاء من المسؤولين السوريين كان الموضوع كله مصدر احراج كبير لهم. وكانوا على استعداد لتنظيم الرحلات الى خرائب القنيطرة "المحررة"، لكن لم يظهروا الحماس نفسه لترتيب لقاءات مع أبناء المنطقة. خلال العقدين التاليين، اعادت الحكومة توطين عدد قليل من النازحين في "مدينة البعث" وغيرها من البلدات الجديدة التي انشأها النظام في الأراضي التي استعادتها سورية بموجب اتفاق فصل القوات في 1974. لكن الغالبية الساحقة من النازحين لا تزال منتشرة في انحاء سورية، وايضا بين المجاميع السورية العاملة في الخليج. وتزايد عددهم منذ 1967 ووصل كثيرون منهم الى مواقع مهمة في الحياة الاقتصادية والثقافية السورية. ويمكن ان تلتقي بعض هؤلاء في المكاتب الحكومية ومكاتب الشركات والمدارس والجامعات في كل انحاء سورية وخارجها أيضا. قال لي احد الخبراء السوريين "اعتقد النازحون أولا ان في امكانهم الرجوع خلال اسابيع، ثم ادركوا ان ليس من عودة سريعة وان عليهم التكيف مع الوضع". *** سكان الجولان قبل موجة النزوح كانوا في غالبيتهم من المزارعين والرعاة شبه المستقرين. وتشير نصوص الجغرافيا المستعملة في الجامعات السورية الى ان عدد سكان محافظة القنيطرة قبل الاحتلال بلغ 153 ألف نسمة، منهم 27 ألفا يسكنون مدينة القنيطرة نفسها وعدد اصغر بكثير في فيق، البلدة الثانية في المحافظة، بينما توزع الباقون على 131 قرية، اضافة الى 140 "وحدة سكنية صغيرة ومزرعة". الاعمال الرئيسية كانت تربية المواشي والزراعة، التي تعتمد على الامطار الغزيرة نسبيا، خصوصا في السهل على اعلى الهضبة، وتركز على زراعة الحنطة والشعير شتاء والخضار في الربيع والصيف. هناك ايضا مساحات واسعة مخصصة لزراعة الفواكه، مثل التفاح والكرز في المناطق المرتفعة، والحمضيات والموز في المناطق الدافئة عند بحيرة طبريا. وكانت للقنيطرة أسواق نشيطة وعدد من الصناعات الخفيفة وكل الخدمات المتوقعة لمركز اقليمي، فيما وفرت فيق عددا من الخدمات للقرى المحيطة بها. في حزيران 1967 سقطت المدينتان و107 من القرى 128 من "الوحدات السكنية الصغيرة والمزارع" تحت الاحتلال الاسرائيلي. ولم يبق من سكان هذه المناطق سوى 6 الاف و400 شخص هم سكان القرى الخمس الدرزية عموما، الواقعة في أقصى الشمال. جرى اسكان النازحين أولا في المباني العامة والمخيمات في انحاء جنوب سورية، من ضمن ذلك دمشق، ولم يتمكن غير عدد قليل منهم من العثور على عمل. وبذلت السلطات جهدها لاقامة برامج التشغيل لكن الاعمال الزراعية كانت نادرة. من هنا، خلال فترة قصيرة، تحول السكان عن الحياة الزراعية الى حياة واعمال المدن. وأوضح خبير آخر ان هناك خمسة أحياء في دمشق يسكنها النازحون، اضافة الى ثماني مناطق خارج العاصمة "لكن كلهم تقريبا اعتادوا حياة المدن". برهن الكثيرون من النازحين على قدرة كبيرة على العمل والمثابرة للبدء بحياتهم من جديد. وقال الخبير نفسه ان كثيرين تمكنوا خلال السنين من شراء المساكن ودخول عالم الاعمال. وساعدهم على ذلك "انفتاح فرص التعليم امامهم، من ضمن ذلك المستوى الجامعي". وقدر ان "من 35 الى 40 المئة من العوائل النازحة توصلت الى مستوى مقبول، وحتى جيد، من المعيشة، لكن كثيرين لا يزالون فقراء". كما ان انتزاعهم عن مواطنهم الأصلية جعل نسبة مهمة منهم لا تمانع في التنقل بحثا عن فرص المعيشة خارج سورية، من هؤلاء اعداد كبيرة في جاليات العمل السورية في الخليج. أضاف الخبير ان النازحين "ربما اصبحوا يشابهون جيرانهم من غير النازحين من نواح كثيرة، لكنهم لا يمكنهم أبدا ان ينسوا انهم من الجولان، وكلهم يريد العودة. كلهم، سواء ولدوا في الجولان أو خارج المنطقة بعد 1967، يريد العودة واعادة تعمير المنطقة". واكد الخبير الذي حادثت أولا ان "النازحين مستعدون تماما من الناحية النفسية للعودة عندما تصبح الظروف مواتية. لكن هذا لا يعني انهم يضغطون على حكومتهم لهذا الهدف، بل يتركون القضية في عهدتها، لأن كثرة الطباخية تفسد الحساء" كما يقول المثل. كما أكد ان 99 في المئة من النازحين، مثل بقية المواطنين السوريين، يريدون السلام مع اسرائيل. وأضاف: "انا شخصيا من الذين لا يهتمون بالسياسة، لكن الواضح ان لسورية ان تحصل على كل أراضيها المحتلة، وبعدها نكون قد تهيئنا للسلام". أشار واحد من الخبراء الذين تحدثت اليهم الى ان عودة النازحين الى مساكنهم ومزارعهم قد لا تكون امرا سهلا. "اصبحوا الآن نصف مليون، ولدى الكثير منهم بيوتهم واعمالهم في امكنة اخرى. لن تكون العودة الفورية امرا سهلا. وعندما يعود الشخص قد يجد ان بيته الأصلي لم يعد موجودا كما لا يجد عملا. لا شك في ان المحتلين سيأخذون كل شيء معهم كما فعلوا في القنيطرة، كل شيء حتى المسامير والصواميل وهياكل النوافذ". لم اجرؤ ان اخبره الحقيقة، وهي ان الدمار الذي الحقه الاسرائيليون منذ زمن طويل ببيوت سكان الجولان يفوق ذلك بكثير. واعتبر هذا الخبير ان اعادة النازحين الى الجولان وتأهيلهم، حتى مع المساعدات الحكومية والخارجية، سيتطلب الكثير من التخطيط وسنين طويلة. ودارت على المستوى الحكومي وبين النازحين انفسهم أواسط التسعينات، عندما سادت اجواء التفاؤل حول المفاوضات الاسرائيلية السورية، نقاشات حول عدد من برامج التأهيل. وقال الخبير انه سيكون من السهل بعد التحرير اقامة 12 سدا لتوفير المياه للزراعة وايضا لتوليد الكهرباء. وقد يكون من الممكن استغلال الرياح القوية في الجولان لتوليد الكهرباء. لكن التفكير في كل هذه المشاريع توقف الآن، بعد الشلل الذي اصاب المفاوضات السورية الاسرائيلية اثر مجيء بنيامين نتانياهو، وهو ما تأسف له غالبية النازحين الذين أملوا الكثير من عملية السلام. وقال لي واحد منهم: "الاسرائيليون يستمرون في الكلام عن الاستراتيجيا وأشياء كهذه. انهم بالغو العدوانية تجاهنا، مع اننا لا نريد سوى العيش في سلام كبشر واستعادة أرضنا". *** اذن امامنا النازح الذي يأمل بالعودة، والقروي السوري الذي بقي في الجولان ويستمر في المقاومة "من الداخل"، والمستوطن الذي يتحدث عن رسم حدود جديدة لاسرائيل من خلال الاستيطان، والمستوطن الآخر المستعد للتفكير بالمغادرة في سياق السلام - كل هؤلاء يشكلون البعد الانساني للصراع السوري الاسرائيلي. انه في نهاية الأمر ليس صراعا بين الجيوش والحكومات فحسب، بل حول ما اذا كان بامكان هؤلاء الناس التعايش سواء من النوع البارد ام الدافيء منه كجيران. خلال الأيام التي قضيت في الجولان، وأيضا في "جولان الذكرى" التي لا تزال حية في قلوب النازحين، لاقيت كل هذه الوجوه. هل تركت لي اللقاءات أملا في حل للمشكلة الانسانية في الجولان، في حال عودة الحكومتين للتفاوض الذي تم تعليقه بأصرار من اسرائيل في آذار مارس 1996؟ الجواب عموما هو الايجاب. ان روحية المقاومة الوطنية التي يتحلى بها سكان الجولان السوريين تحت الاحتلال الاسرائيلي وهو ما ينسحب على النازحين في انحاء سورية تعطيهم ما يكفي من الثقة بالنفس للتقدم نحو سلام مشرف: انهم بالتأكيد ليسوا شعبا مقهورا. كما ان للشعب سوري كله ان يفخر بما أبداه ويبديه النازحون من الصمود النفسي والتصميم الهادئ على التغلب على صدمة 1967. من الجانب الآخر هناك الواقعية والاستعداد للتوصل الى حل وسط لدى قادة حركة "طريق السلام"، الذين برهنوا بالأرقام على ان مواقفهم تعكس رأي الكثيرين من المستوطنين الاسرائيليين في الهضبة. ويشير هذا الى ان التعامل السلمي مع هؤلاء لن يكون صعبا مثلما مع غالبية المستوطنين في الضفة الغربية. لكن ماذا عن المستوطنين المتشددين مثل يهودا هاريل وأنصار حركة "الطريق الثالث"؟ هل يمكن اقناع شخص له هذا المنظور بتقديم تنازلات من اجل السلام، وان يعامل جيرانه العرب باحترام؟ من يعلم. لكن اذا نجحت سورية واسرائيل في التوصل الى اتفاق للسلام سيكون على الطرفين اتخاذ قرارات صعبة، من بين أصعبها بالنسبة لاسرائيل القرار في كيفية التعامل مع المتشددين من مستوطني الجولان القليلي العدد لكن الجيدي التنظيم.