مطلع الاسبوع الجاري قامت قوة كوماندوز تركية بعملية إنزال في كردستان العراق لخطف شمدين صاقيق، القائد العسكري السابق البارز في حزب العمال الكردستاني بزعامة عبدالله أوجلان، الذي لجأ في أواخر آذار مارس الماضي الى مناطق الحزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني بعدما استطاع الإفلات من أيدي مجموعة من المقاتلين كانوا اعتقلوه بخدعة تنفيذاً لأمر مباشر من أوجلان. يُلاحظ في هذا الخصوص أن أوساطاً كردية وتركية معنية تشكك بصدقية الاحتجاج الذي صدر عن حزب بارزاني على خطف صاقيق، مؤكدة أن التنفيذ الدقيق للعملية لا يترك مجالاً للتشكيك في أنها تمت باتفاق الطرفين. ويشير العارفون في أنقرة وكردستان الى حقيقة أن العلاقات بين قيادة بارزاني وأنقرة تتركز في صورة رئيسية على الجوانب الأمنية، وهي تتم مباشرة بين هذه القيادة ورئاسة الأركان التركية التي ترتبط بها قوات الكوماندوز التي نفذت عملية خطف صاقيق مباشرة. في أي حال تسلط هذه العملية أضواء جديدة على الصراعات الداخلية التي يواجهها هذا الحزب وزعيمه أوجلان، وتثير تساؤلات في شأن عواقبها: هل ستؤدي الى إحباط معنويات مقاتلي الحزب وتعميق هذه الصراعات، وهو التبرير الذي تسوقه المؤسسة العسكرية التركية لخطف صاقيق، أم أنها ستساعد أوجلان على احتواء الصراعات ومنع إنشقاقات أخرى يؤكد قياديون في الحزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني أن حزب غريمهم اللدود أوجلان كان يمكن أن يشهد المزيد منها الى حد ينذر بتفتته، لكنهم يتخوفون الآن من من أن العملية التركية قد تضع حداً لها؟ ما هي الخلفيات أولاً؟ كان صاقيق إسمه الحركي: زكي برماغسز، والصفة ككلمة تركية تعني "عديم الأصبع" من أبرز القادة الميدانيين لحزب العمال في الأراضي التركية، إن لم يكن أبرزهم. واشتهر بعملياته الجريئة وقدرته على النجاة، مراراً وتكراراً، من المطاردة وحتى التطويق، وظل طوال سنوات خنجراً في خاصرة القوات التركية. كذلك ارتبط إسمه بحادث مشهور أدى الى انهيار وقف للنار أعلنه أوجلان في آذار 1993 ومدده في نيسان ابريل. وفي 24 أيار مايو من السنة نفسها أمر صاقيق مجموعة من مقاتليه بنصب مكمن لباصات كان يستقلها جنود غير مسلحون عائدون الى ثكنهم من إجازات. وبعدما أخرج المقاتلون الجنود من الباصات فتحوا عليهم النار وقتلوا 33 جنديا، الأمر الذي أدى الى انهيار وقف النار وتجدد العمليات العسكرية على نطاق واسع بعدما كان الجيش علّقها، على رغم عدم اعترافه رسميا بوقف النار. وسبق لجوء صاقيق الى كردستان العراق وطلبه حماية بارزاني اتهامات وجهها إليه أوجلان بالخيانة والتقصير العسكري. وفي ظل الضربات العنيفة المتواصلة التي يوجهها الجيش التركي للقوة العسكرية لحزب العمال، ترك هذا تأثيراً سلبيا على معنويات المقاتلين. وشملت اتهامات أوجلان شقيقاً لشمدين اسمه سري صاقيق، وهو سياسي معروف انتخب في مطلع التسعينات نائباً في البرلمان التركي عن حزب العمل الشعبي الموالي للأكراد، وسجن لاحقاً مع عدد آخر من زعماء الحزب بعدما قررت المحكمة الدستورية حل الحزب، ثم أطلق بعدما أنهى ثلاث سنوات ونصف السنة في السجن. ويجمع مراقبون أكراد وخبراء وديبلوماسيون أجانب معنيون بالشأن الكردي في تركيا، على أن حزب العمال تعرض، خصوصاً في السنتين الاخيرتين لهزائم عسكرية فادحة على يد قوات تركية "من نوعية جديدة" لا في داخل تركيا فحسب، بل في كردستان العراق أيضاص. فقد أظهر الجيش التركي، المتحالف مع حزب بارزاني، عزماً واضحاً على شن عمليات عسكرية واسعة امتدت حتى الحدود الايرانية على رغم تحذيرات طهران من أنها ستعتبر اقتراب القوات التركية من حدودها المتاخمة لشمال العراق تهديداً لأمنها القومي. ويشير هؤلاء المراقبون والخبراء الى ان انهيار التحالف السياسي والعسكري الذي قام بين حزب العمال والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال طالباني، المعتمد على دعم إيران، هو احدى النتائج التي أسفرت عنها استراتيجية التحالف التركي - البارزاني. ولا شك في أن "الرسائل" التي ما برح طالباني يوجهها الى أنقرة، مباشرة أو عبر أطراف أخرى، ومفادها أنه بدأ عملية "فك ارتباط" مع أوجلان، ملمحا الى رغبته في فتح "صفحة جديدة" في العلاقات بينه وتركيا، إنما تعكس ما آل إليه مصير التحالف الطالباني - الأوجلاني. ويشير خبراء عسكريون غربيون في أنقرة الى أن حزب العمال صار يواجه قوات تركية خاصة كوماندوز مدربة بطريقة تمكّنها من القيام بمناورات أذهلت مقاتلي الحزب. ومن هذه المناورات استخدام طائرات الهليكوبتر لإنزال وحدات في أكثر المناطق الجبلية وعورة. وكانت مصادر الحزب ذكرت، قبل عملية خطف صاقيق، أن مسؤوليه العسكريين يدرسون خططاً لمواجهة الأساليب الجديدة التي تستخدمها وحدات الكوماندوز التركية. وفي هذا الخصوص نقلت صحيفة "توركيش ديلي نيوز" التي تصدر في أنقرة بالتركية عن نائب رئيس الاركان التركي الجنرال تشيفيك بير كشفه "عمليةً ناجحة قام خلالها الجيش التركي بإنزال ستة أفواج فوق شيرناخ جنوب شرقي البلاد خلال الليل". وكان بين ما أوضحه شمدين صاقيق، خلال الفترة القصيرة التي أمضاها لاجئا عند بارزاني، أن أحد أبرز أسباب الخلافات بينه وبين أوجلان، أن الأخير يدير "الثورة" بواسطة "الريموت كونترول" من مقره في دمشق، دون أي معرفة بما يجري بالفعل على أرض كردستان تركيا التي لم تطأها قدما أوجلان منذ غادرها قبل 20 سنة. ومن الواضح أن عزلة الاخير تمنعه من رؤية الحقائق كما هي، وتجعله يعيش في عالم الخيال ولا يفهم المستجدات والتطورات على الصعيدين السياسي والعسكري في تركيا وكردستان والمنطقة والعالم. ومن علامات عدم الفهم هذا أن أوجلان يعتقد أن الانتقادات التي تتعرض إليها تركيا من دول أوروبية والحملات التي تشنها عليها لوبيات معادية في الولاياتالمتحدة بسبب انتهاكاتها حقوقَ الانسان ورفضها استجابة المطالب الكردية المشروعة، يمكن ترجمتها دعماً وتأييداً لحزبه. يُضاف الى هذا كله العامل الأخطر وهو أن أوجلان يعتبر الوطنية الكردية، لا في كردستان تركيا فحسب، بل في كردستان العراق أيضاً، حكراً على حزبه على رغم أنه ربط كليا مصالح هذا الحزب بمصلحة الأمن القومي لسورية. ويُشار في هذا الصدد الى مقابلة اجرتها معه مجلة "الوسط" الأسبوع الماضي اعتبر فيها، ضمن تقوّلات عجائبية تعكس نرجسيته وفقره في الافكار، أن الكيان الكردي في شمال العراق "خنجر يطعننا يطعن مَن؟ من الخلف". وأضاف: "ولهذا أيضاً دخلنا في مرحلة مقاومة شديدة وعنيفة وكثيفة جداً في الجنوب كردستان العراق. ولو تم تأسيس ذلك الكيان لشكّل تهديداً مباشراً لشمال العالم العربي ولغرب إيران وشعوب المنطقة بأسرها، لكننا استطعنا أن نوقف ذلك الخطر". ويعرف الاكراد المتابعون لأوضاع حزب العمال أن أوجلان لا يمكنه حتى مجرد تخيّل اي نوع من القيادة الجماعية لحزبه، وهو يعامل جميع رفاقه دون استثناء كأنهم موظفون واجبهم تنفيذ أوامره ورغباته فحسب. ويعتقد العارفون أن الاستياء من أوجلان يمتد الى قياديين بارزين آخرين بينهم جميل بايك، قائد "جيش التحرير الشعبي الكردستاني" وهو الذراع العسكري للحزب، ورضا آلتون ونظام الدين تاش ومراد قره يلان. ويبدو أن انشقاق صاقيق أثار غضبه الى حد أنه قد يغير قيادة حزبه بالكامل وينقل المسؤوليات الى عناصر شابة مطيعة غير مزعجة، لكي يواصل قيادة الحزب على الطريقة الستالينية التي اعتاد عليها. ومع أن بايك إسمه الحركي "جمعة" أعلن عبر شبكة تلفزيون "ميد" التابعة للحزب والتي تبث بالكردية من لندن، أنه مازال مواليا لأوجلان، فالأخير قال ان بايك يعاني حالة نفسانية ناجمة عن أنه لم يحرس شمدين جيداً ما مكّنه من الفرار، مضيفاً أنه مازال "شريفاً" و"صديقنا". وبدا لافتا أن تلفزيون "ميد" وصف بايك بأنه "أحد قادة" جيش التحرير الشعبي وليس قائده. كذلك قال بايك في المقابلة ذاتها ان "تركيز الدولة التركية على الجوانب الضعيفة في شخصيتي، أي الجوانب الغريبة عن حزب العمال الكردستاني، جعلني أراجع نفسي". ووصف مراقبون أكراد هذه الملاحظة بأنها "نقد ذاتي على النمط الستاليني - الماوي". وفي مقابلة اخرى مع "ميد"، اتهم أوجلان شقيق شمدين، سري، بأنه قام باتصالات "قذرة" في انقرة هدفها ايجاد حل "سلمي" للمسألة الكردية في تركيا. واستند أوجلان الى ما وصفه بأنه رسالة "من صديق"، موضحا ان سري اجرى ايضا اتصالات مع مثقفين أكراد بارزين في تركيا، مثل شرف الدين أيلتشي وابراهيم غيوتشلو وبحث معهما في "امكان ايجاد حل للمسألة الكردية من دون حزب العمال الكردستاني"، الأمر الذي اقتضى "تطهير حزبنا من هؤلاء العناصر المريضة". ومعروف أن إيلتشي وزير كردي سابق تعرض للسجن سنتين في ظل الحكم العسكري في الثمانينات لتمسكه بهويته الكردية. وخاض معركة قضائية استمرت ثلاث سنوات ونجح في اقناع المحكمة باصدار حكم يسمح له باطلاق صفة "الكردي" على مركز للدراسات أسسه في اسطنبول. وفي العام الماضي أسس حزباً سياسيا بين أهدافه العمل من أجل حل بالوسائل السلمية في إطار المؤسسات التركية للمسألة الكردية. وقد يكون من السابق لأوانه الحديث عن بدء العد العكسي لنهاية حزب العمال الكردستاني، ولكن الأكيد أنه ليس من المبالغة الحديث عن أنه يواجه أزمات جدية، عسكرياً وسياسياً وايديولوجياً، وأن نخباً كردية متنورة في تركيا تتطلع الى أن يكون من نتائج هذه الأزمات تراخي قبضة الاحتكار الأوجلاني الستاليني للوطنية الكردية في بلادهم. وهذا في حال حصوله قد يشجع تيار الإعتدال الكردي الداعي الى اعتماد أساليب مختلفة في العمل من أجل تحقيق الطموحات القومية المشروعة لأكراد تركيا. والمؤكد أيضاً أن الاصرار على رفض الاعتراف بهذه الحقوق والاعتقاد بأن القوة العسكرية وحدها كفيلة بحل المشكلة الكردية في تركيا، هما بين أسباب رئيسية عدة لاستمرار الأزمة السياسية والديموقراطية في انقره.