لا ريب في انه حاجة عصرية. فصاحب الهاتف النقال لا يفقد على مدار الساعة وعلى تقلب الأمكنة فرصة الاتصال بمن يشاء في شبكة علاقاته الخاصة والمهنية والعائلية. لا يهدر فرصة سانحة أو حاجة طارئة أو خاطراً عابراً، على ما كان يقع له وعليه في زمن مضى مع اضطراره لملازمة المكتب أو البيت لمجرد اجراء او تلقي اتصالاته. لقد بلغت هذه الحاجة مبلغاً بات فيه الهاتف المتحرك "ضرورة" لأولاد وبنات المدارس ولعاطلين عن العمل ولربات البيوت المتسوقات. وقد رصد زميل كاتب أحد المنتظرين في طابور سيارة السرفيس وهو يتحدث الى هاتفه. لم يطرأ تغير يلحظ على على حاجات هؤلاء وحياتهم قبل استخدام وسيلة الاتصال هذه ومعها، لكنهم يستخدمونها. ذلك انها حاجة عصرية لمن لا يحتاجها، فهناك من يستخدمها وفاء وقضاء لحاجة، وهناك اغواء السلعة التي "تشتري" الزبون وتبسط عليه وهم الحاجة اليها، على ما كان يردد طيب الذكر هيربرت ماركوز عن مجتمع البعد الواحد المتشيء. وبعدئذ لا شك في ان هذه الحاجة تتوطن مع ما يجوز تسميته بذيوع سحر الاتصال. ولمن تغويه المقارنات، فما أشبه الجهاز الصغير المحمول بجهاز الراديو الترانزستور الذي شاع في بلادنا أوائل الستينات والذي كان رفيق الشبان في مشاويرهم اليومية، فيما كان جهاز الراديو آنذاك أكثر ثباتاً في موقعه في البيت من ثبات جهاز التلفزيون في البيت والمكتب هذه الأيام. ولئن كان الترانزستور وسيلة استقبال، فإن النقال وسيلة اتصال ترافق صاحبها مع مفاتيحه، وتتيح له الجمع بين العزلة والتواصل وبين الثبات والانتقال. وهي لذلك حاجة عصرية مطبوعة بما يسم الانسان المدني لهذا الزمان في لهاثه لتقصير، بل الغاء، المسافات والتحرر من قيود الزمان والمكان. لكن الهاتف كوسائل الاتصال الاليكترونية الأخرى يعزز موقع الوسائط في تكريس العلاقات غير المباشرة مع المحيط الاجتماعي، هذا مع استبعاد تلبية الحاجات الفعلية لرجال الأعمال والمهنيين علاقات غير مباشرة وكذلك فردية. ففيما يشيع استخدام هاتف البيت بين أفراد العائلة، فإن النقال لصيق بصاحبه أو صاحبته وقاصر عليه دون سواه، وهو امارة مستجدة على فرديته التامة. وفيما كان الشاب في زمن مضى، يدندن ويترنم مع جهاز الترانزستور في الشوارع الخلفية وعلى الأرصفة، فإن النقال يتيح لصاحبه ان يخطب ويثرثر ويتضاحك وهو يعبر الشارع، أو في جلسته المنفردة في مكان عام. وان يتحدث في حلقة السهرة ولكن ليس مع شركاء السهرة. انه الاعلان عن الخصوصية بعد الفردية، بما يوفر لصاحبها متعة شبيهة بنشوة بث ونشر الخصوصيات الجسدية والنفسية أمام انظار الآخرين وانتباههم. لذلك تبدو النساء اذ يستخدمنه على هيئة غير هيئة الرجال الذين يزدهون برجولتهم وهم يشددون قبضتهم عليه ويتلهفون الى رنينه.