من يسمع ب "هواة الراديو" أو هواة التخاطب عبر جهاز اللاسلكي قد يتصور اننا تجاوزنا ليس منذ زمن بعيد عهد الديناصور. فماذا لو علمنا ان في العالم اليوم قرابة المليونين وست مئة ألف منتسب في "اتحاد اللاسلكي العالمي" منهم 220 لبنانياً، وهو عدد ليس بقليل نسبة لعدد سكان لبنان، خصوصاً وانه يعتبر الاول من حيث عدد "الهواة" في الشرق الاوسط يأتي بعده مباشرة الاردن. طبعاً، ومقارنة مع عدد الهواة في اليابان 3.1 مليون وفي الولاياتالمتحدة 632 ألفاً وألمانيا 64 ألفاً قد نجد ان الرقم اللبناني رمزي جداً... ومع هذا فإن عدد الهواة فيه يزداد في شكل سريع كانوا 25 قبل عشرة اعوام على رغم ما قد يوحي به التقدم في مجال التقنيات "المواصلاتية" مثل الخليوي والإنترنت... وقبل اسابيع اعاد اعضاء "جمعية هواة الراديو اللبنانيين" انتخاب المهندس عارف منصور رئيساً مع اعضاء جدد في هيئة المكتب هم شربل حاج أمين سر، إميل الياس أمين صندوق، رزق الله أزرق مسؤول عن المراسلات وانتخب مستشاران فنيان هما رمزي عبدالله وحسن شاهين. ويشرح الرئيس المعاد انتخابه المهندس عارف منصور الفارق بين الهاوي المنتسب الى الجمعية وأي هاوٍ "مرتزقة" آخر يملك معدات عن طريق التهريب من دون ترخيص من الدولة: "ليس كل من حمل جهازاً نقالاً تحدث فيه مع صاحبته غزلاً او مع عائلته المهاجرة يكون هاوياً. وليس كل من استعمل هذا الجهاز في الحرب اكتسب ذلك اللقب حكماً. فصفة "الهاوي" يستحقها صاحبها بعد طول علم وتمرّس". ويضيف: "أهداف الراديو ليست في التخاطب والتواصل فحسب وإلا لكانت الهواتف النقالة الخليوية وانفلاش شبكة الإنترنت وبرامج الثرثرة اثرت عليها سلباً. والقصد من الهواية ان يركّب كل منتسب جهازه الخاص بيديه لأن الحشرية العلمية هي الحافز الاول. في العام 1959 كنّا نركّب اجهزتنا بأنفسنا، وكنا نتساعد عبر موجات الراديو في تبادل المعلومات التقنية. والملاحظ ان تلك الهواية تنتقل بالممارسة من تلميذ الى آخر عن طريق التقليد، انا مثلاً قلّدت استاذاً كان مدير المصانع حيث درست قبل ان اصبح مهندساً. كان عليّ أن أجد حجراً اسمه "بوست اغالين" وهو نوع من حجر الكريستال يتميز بالتقاط موجات الراديو وتحويلها صوتاً يمكن سماعه عبر سمّاعة الهاتف". وعلى الهاوي أيضاً ان يبني "أنتينه" الخاص، لذلك يكون الهواة في شكل اساسي من مهندسين او اصحاب "رؤوس" مركبة على التقنيات. وفي لبنان يتوزعون على الشكل التالي: ثمانية طيارين، 15 مديراً مصرفياً، ثمانية ضباط في الجيش اللبناني، 35 مهندساً، نحو 15 طبيباً معظمهم اطباء اسنان لأنهم يبرعون عادة في استعمال اليد. والبقية عمال ألكترونيك او هواة عن طريق الوراثة. ويقول منصور: "بعد الخمسينات بدأت شركات في إيطاليا وأميركا وفرنسا تصنّع قطعاً جاهزة وصار بإمكان الهاوي شراءها مع تعليمات عن كيفية تركيبها، وما عاد الهواة يركبون كل شيء بأنفسهم من الألف الى الياء. لكن بقيت قاعدة التجربة وإقامة الاتصالات الفردية للبرهان على ان الجهاز صالح وإلى أية مسافة يستطيع ارسال الأصوات والتقاطها. كيف يتأكد الهاوي ان احداً ما مستنفر في قطر ما من العالم ليلتقط "تجربته"؟ هو في كل بساطة لا يكون متأكداً. يوجه نداء عاماً، وبما ان عدد الهواة في العالم ليس قليلاً، لا بد وان يكون واحداً من المليونين على السمع. والأهم ان تكون المحادثة ذات مغزى علمي. فالسياسة ممنوعة، وكذلك الاحاديث العرقية والغرامية. المزاح مسموح، وكذلك الكلام عن الطقس والجغرافيا. قد تتساءلون "من سيراقب ليحاسب؟" لكن من المفترض ان يكون لكل بلد رقابة على كل ما يبث في الهواء... طبعاً في عزّ الحرب، انتشر في لبنان استعمال الموجات اللاسلكية خصوصاً كوسيلة للتخاطب ضمن الاحزاب والميليشيات الواحدة. وبعد أن سكت المدفع وصار من السهل "مراقبة" الموجات، شجعت "جمعية الهواة" اصحاب الاجهزة على تقديم امتحانات في وزارة البريد والمواصلات السلكية واللاسلكية تمكّنهم من الحصول على شهادة "هاوي راديو" بعد التأكد من توافر المعلومات التقنية الكافية لاستعمال هذا الجهاز وفق مبادئ وأصول تفرضها الهواية، ولهذا السبب ربما حدث الارتفاع السريع لعدد الهواة في السنوات العشر الاخيرة. لكن الحصول على الشهادة وحدها لا يكفي، فعلى الراغب ان يقدّم الى وزارة الداخلية او وزارة الدفاع طلباً للحصول على رخصة لإنشاء محطة لاسلكية تأخذ بعد الموافقة اسماً ورقماً... والهواية تتجاوز احياناً اسمها لتصير حاجة مفيدة في البلدان. كيف؟ في الحوادث الزلزالية يفقد البلد اتصالاته العادية لأن خطوط الكهرباء والهاتف تقطع تلقائياً. ولأن ل"هواة الراديو" في سائر البلدان لجاناً خاصة بالحوادث يملك اعضاؤها اجهزة على البطاريات يبرز دورهم كمنسقين اساسيين مع المسؤولين المحليين لتأمين المعلومات اللازمة عن مكان "الاحتياجات" وبالتالي توفير الخدمات الطبية والانسانية. ويقول منصور: "في ابان الحرب، كنّا على اتصال دائم بالصليب الاحمر من اجل تأمين المساعدات خصوصاً الخارجية منها. وعندما صارت الهزّة في أرمينيا أمّن الكثير من الهواة التواصل مع اهالي المواطنين الارمن في لبنان وكان قسم كبير يقصدهم للتأكد من سلامة الاقرباء عبر هواة راديو أرمن في أرمينيا. والأمر نفسه حصل عند وقوع هزّة في البرازيل...". ولا ينسى منصور التذكير بغرق باخرة شامبليون في خلدة وكم نقل هواة الراديو من اللبنانيين المعلومات الى أهالي الركاب المتصلين من الدول الاوروبية بواسطة هواة الراديو الاجانب: "لم تكن هناك اتصالات خارجية تذكر في لبنان فسدّت اجهزتنا نقصاً كبيراً ولعبت دوراً انسانياً ملحّاً". ويعترف منصور بأنه كلّما تقدمت الاتصالات خفّت الحاجة الى اجهزة الراديو في حالات الطوارئ. لكن يذكّر ان هناك الكثير من حقول التجارب التي يمكن أن تعصرن مثل تركيب أجهزة لاسلكية للاتصال بواسطة الإنترنت. وبواسطة الرايو يمكن "الهاوي" الدخول على أي جهاز كومبيوتر وسحب المعلومات المرادة والمسموح سحبها. ويمكن ايضاً ان يوصل كومبيوتر بأخر من دون مقابل، ويمكن كذلك الدخول الى الإنترنت من دون هاتف وتكاليف باهظة. طبعاً عدد هؤلاء الهواة القابلين للتطور مع تقدم التكنولوجيا يبقى محدوداً. في لبنان 30 هاوياً دخلوا الإنترنت من باب الراديو الواسع، أما في العالم فالرقم أكبر بكثير ويقارب نصف عدد هواة الراديو اجمالاً. والامر ليس مستغرباً فأعظم المهندسين المخترعين في الولاياتالمتحدة الاميركية هم الذين بدأوا هواة راديو بتشجيع من جامعاتهم قبل ان ينقلوا اكتشافاتهم الى الحقل التجاري تحت اسماء شركات كبيرة. وبما اننا نتحدث عن اسماء كبيرة، ففي العالم الكثير من الشخصيات "الكبيرة" الهاوية الراديو نذكر منها الملك حسين في الاردن، والملك خوان كارلوس في إسبانيا، والرئيس منعم في الارجنتين، والممثل مارلون براندو... طبعاً على الراديو تختفي الألقاب ليصير المخاطب اسم علم عادياً، لكن تبقى المنافسة في من ينجح في مخاطبتهم. وللهواة تسلياتهم الخاصة مثل المسابقة التي اطلقتها جمعية هواة الراديو اللبنانيين العام 1994 بمناسبة عيد الاستقلال الخمسين للبنان، وأعطت فيها مهلة محددة للهواة في العالم: من ينجح منهم بإقامة عشرة اتصالات مع هواة لبنانيين يحصل على شهادة عبر البريد ويرسل ثمن التكاليف خمسة دولارات! وتلك المسابقات تدرج خصوصاً في المناسبات الوطنية كالذكرى الخمسين لتتويج الملك الاردني او ملكة بريطانيا... ماذا يحصل في حال اشتكى احدهم على هاو خالف الاعراف النظامية المتبعة؟ "عندنا لجنة تحقيق". وهم كأعضاء في الجمعية عندهم اجتماع تقني مرة شهرياً يكون عادة اول اربعاء من الشهر. وفي كل اربعاء تبث آلة تسجيل تعيد نفسها كل 20 ثانية حاملة رسالة تبلّغ الاعضاء بكل جديد. واليوم صار للجمعية ارض في المنصف بهدف بناء مركز يكون على مسافة وسط بين بيروت وطرابلس حيث يتركز العدد الاكبر من الهواة. وصدّق أو لا تصدّق، فإن عصر الخليوي والإنترنت لم يزعزع أبداً ثقة هؤلاء الهواة بأنفسهم، فهم يرون ذواتهم الملهمين الاساسيين لأي تطور تقني سيحصل في المستقبل... وهم بهذا ليسوا مخطئين.