حين يدعوك المغرب اليه لا تملك الا ان تستجيب. حتى لو كانت المسافة الفاصلة بين مهرجاني الجنادرية في الرياض وعكاظ الشعر في وجدة لا تتعدى الساعات الثماني والاربعين، أي ما يتسع فقط لافراغ حقائبك وتوضيبها من جديد. هكذا فجأة من أقصى المشرق العربي الى مغربه الاقصى. ومن وريد النشيد القومي الذي تربينا على كلماته المفعمة بالأمل الى وريده الآخر، أو من نجد الى تطوان كما جاء في احدى فقرات النشيد. كل ذلك من اجل ان تلقي على مسامع مضيفيك حفنة قليلة من القصائد أو تنصت الى سواك من القادمين الذين ما يزالون يؤمنون بجدوى الشعر في عالم يكاد يحتفل بألفيته الثالثة على جثة القصيدة وأنقاضها. مسافات شاسعة تفصل بين الرياضووجدة. رمال تذر قرنها من كل صوب وآمال شعوب مبعثرة بين ربعها الخالي وبين صحرائها الباحثة عن هويتها الملتبسة عند اقدام الاطلسي. شعوب تعقد لواءها للشعر وتستسلم الى سلطانه منافحة بشراسة عن احدى آخر علاماتها الفارقة. الرياضووجدة مدينتان متباعدتان في الجغرافيا والتكوين والتشكل الاجتماعي. الأولى تذهب بعيداً في الإسمنت وتحاول مقارعة الصحراء بالحجر وتقيم في وجه الرمال سدوداً عالية من الأبنية الفخمة والجسور الحديثة والرخام المتربصة المتعالي والثانية تستسلم لأقدارها المبقورة بسيف الفقر ولا تجد بداً من محالفة الصحراء التي لا تجد من يدفعها الى الخلف عند الطرف الشرقي للمغرب الأقصى. ومع ذلك فان كلا من المدينتين تحاول ان تحتمي بنقيضها لتخفف من عبء اختيارها الثقيل. فالرياض تبني خيمة للشعر عند خاصرة فندقها الاسود الضخم لكي تصل الشعراء بمهد غنائمهم الاول ووجدة تبني قرب منصة الشعر المتواضعة مصنعاً ضخماً للإسمنت لكي تحمي نفسها من التلاشي في النسيان. لهذا السبب ربما اختارت وجدة ان تتوئم نفسها مع مدينة جدة. وهي إذ اختارت جدة دون الرياض فلأسباب تتعلق بالجناس دون سواه لان البعد الرمزي لهذه التوأمة يتجلى في رغبتها العميقة لأن تتحد ولو بالاسم مع الرخاء الذي ينقصها واللمعان الذي افتقدته منذ اقفال الحدود بين المغرب والجزائر قبل سنوات. حين يدعوك المغرب اليه لا تملك الا ان تستجيب، ليس فقط لكونه الضفة الاخرى من الروح بل لانه يتصل اتصالاً وثيقاً بلفحة السحر والغموض التي اندلعت في داخلك منذ سني الطفولة المبكرة. هذه اللفحة التي لم ينهتك سترها على امتداد زيارتين متقاربتين. بعض هذا السحر مرتبط بالتسمية وبعضه الآخر مرتبط بالتصورات والاطياف. فالمغرب من دون التسميات كلها لا يرتبط بقطر بعينه بقدر ما يرتبط بالغروب نفسه. فهو بالنسبة لك المكان الذي تغرب فيه الشمس وتنحدر نحو لجج الظلمات المبهمة. وهو المسايفة الدائمة بين ريح الثغور المشبوبة والامواج الهائلة للمحيط الاطلسي. وهو الثغر الذي سهر على حمايته سلاطين المرابطين والموحدين ومن جاء بعدهم. وهو الظهر الذي استند اليه ابو عبدالله الصغير بعد سقوطه عن صخرة الأندلس. اما التصورات فقد تشكلت خيوطها الأولى مع أولئك الرجال الداكني الوجوه الذين كانوا يجرون الخيول قبل اكثر من ثلاثين عاماً ويذرعون القرى بقاماتهم الطويلة ثم يتوارون خلف ظلالهم الغامضة. رجال لا أسماء لهم ولكنهم برغم ذلك يحملون أعشاباً وعقاقير تضمد الجراح المستعصية وتعيد المحبين الى حبيباتهم وتطرد الجن والشياطين وتمكن النساء العواقر من الحمل وتشفي من لسعة العقرب والأفعى. وحين تذهب الى المغرب بعد ثلاثين عاماً تكتشف في بعض مدنه وارجائه بأن الصورة لم تتغير كثيراً وان هذا البلد ما يزال يشكل مزيجاً غريباً بين الواقع والسحر وبين الحقيقة والاسطورة. لكل مدينة هناك شخصية تختلف عن الاخرى ورائحة تميزها عما عداها. كأن تلك البلاد خليط تواريخ وتصايح أزمنة وعناق بين الأضداد وائتلاف بين ما لا يأتلف. المضيفون الذين ينتبهون الى حيرتك يبتسمون بإشفاق ومودة ولا يخلصونك بدورهم من الحيرة. لا يحاولون تصحيح صورتك عنهم بل يتركون لك فرصة الاهتداء الى الحقيقة او مجانبتك لها. عليك انت وحدك ان تتنكب عناء البحث عما تريد الوصول اليه في بلد ينغلق على إبهامه كما تنغلق الصدفة على فواتها الحية ويتعاقب على رسم صورته المفكرون والمشعوذون، الشعراء والنساء الجميلات، المثقفون والدراويش، المتسولون والصيارفة، السحرة والمتدينون. كل شيء يتعاقب أمام ناظريك كلمح البصر ثم يخلي الساحة لنقيضه. بعضهم يخبرك ان في المغرب من مقامات الأولياء ما يفوق العالم الاسلامي كله. كأن الناس هناك وقد شعروا بالمسافة الشاسعة التي تفصلهم عن مسقط الدين ومهده الاول راحوا يزرعون الأولوياء والصالحين فوق كل تلة ومفترق ليثبتوا تعلقهم بالاسلام وليمنعوا أجيالهم من الشطط. ومع ذلك فان الاشياء تستوي جميعها فوق سطح واحد. وترى في المكان عينه مؤمنين منقطعين للعبادة ومغنين يلبسون ثياب الدراويش يتمايلون على ايقاع الدفوف ويمدون أيديهم الى الناس من اجل درهم أو درهمين. هكذا تحار دائماً في رسم صورة المغرب وتثبيته في اطار أو تعريف. فالدار البيضاء بشوارعها الواسعة والضاجة بالحياة وفنادقها ومراكزها التجارية المهمة تكاد تكون رمزاً للمغرب الجديد المنفتح على العصر والمصغي لنداءات الحداثة القادمة من وراء المحيط. في حين تقدم "ساحة الفنا" في مراكش صورة اخرى لعالم ما زال يجدد نفسه منذ مئات الاعوام في حركة دائرية دائبة. عالم تتألف كائناته من الحواة ومرقصي الأفاعي واللاعبين بالسيوف والنشالين والمداوين بالاعشاب والرقى والتعاويذ وقارئى الكف وشعراء المديح الجوالين وصانعي الفخار والخزف. هذا العالم استطاع ان يلهم عشرات الكتاب والشعراء فيهدي الياس كانيتي كتابه المميز "أصوات مراكش" كما يهدي سعدي يوسف احدى أجمل قصائده. لا تشي مدينة وجدة القابعة في أقصى الشمال الشرقي على بعد كيلومترات قليلة من الحدود الجزائرية بعلامات فارقة تميزها عن غيرها من المدن. ذلك ان المدينة تجر وراءها تاريخاً طويلاً كطنجة أو مراكش أو مكناس أو فاس. وحين بناها الزير بن عطية قبل ألف عام فقد أرادها ان تكون حصناً منيعاً لإمارته في وجه الغزوات القادمة من الشرق أو من المتوسط في زمن الدويلات التي سبقت عهد المرابطين. بعد ذلك تحوّلت وجدة الى واسطة عقد تجارية عند مفارق الصحراء والجبال والبحر. أما أهلها فكانوا خليطاً من التجار وبقايا الجيوش والفارين من الشرق الجزائري أو الشمال الأندلسي. غير ان المدينة التي تدين برفاهيتها لعلاقة التبادل التجاري اليومي بين طرفي الحدود تتراجع منذ سنوات عدة الى خطوط الفقر والعوز بعد إغلاق الحدود بين الجزائر والمغرب. فمطارها الصغير يقتصر على وصول بعض الطائرات القادمة من المدن المحلية الاخرى. وكذلك الامر مع محطة قطارها الشاحبة التي لم تعد تستقبل الكثير من الزائرين. أما فنادقها القليلة فقد تراجع مستوى خدماتها الى حد بعيد بتأثير انعدام الحركة والركود الاقتصادي المتفاقم. هكذا تحوّل "عكاظ الشعر" الذي تقيمه المدينة كل عامين الى فرصة نادرة تستعيد معها المدينة بعضاً من ألقها القديم. والإسم الذي اختارته تيمناً بتقليد شعري ومشرقي قديم مردُّه الى رغبتها العميقة في الخروج من عزلتها المقيمة وسباتها المطبق الذي غالباً ما يتهدد مدن الاطراف وحواضرها النائية. غير ان القيمين على المهرجان لم يقصروا التسمية على بعدها التراثي المغلق بل أضافوا اليها بعداً آخر هو "الشعر وتواصل الثقافات". وعمدوا تبعاً ذلك الى دعوات رمزية من خارج المغرب تمثلت بشاعر وحيد من لبنان وشعراء قليلين من فرنسا وإسبانيا وإنكلترا. كأن المدينة تريد في أوج عزلتها ان تصل نفسها بأسباب العالمية وان تصغي بانتباه لتلك الاصوات الوافدة التي تحمل اليها نكهة الغريب والمختلف. واذا كان الشعر هو عنوان المهرجان وعصبه الأساسي فقد كانت هنالك بعض المقاربات النقدية اللافتة التي لم تنتظم في محور واحد. فالناقد والشاعر المغربي محمد السرغيني تحدث عن علاقة الشعر بالفلسفة وعما سماه "عقلنة الوجدان ووجدنة العقل". وقد أقام في السياق مقارنات تحتاج الى تدقيق بين أبي العلاء المعري وهلدرلن المضحيين بالجسد من اجل اعلاء الروح. ومقارنات مضادة بين المتنبي ونيتشه اللذين سخرا الطاقة الروحية من اجل انتصار الجسد وتثبيت سلطاته المادية. كما أشار الى الأبعاد الشعرية والجمالية في شخصيتي هايدغر وهيغل والى قدرة سيوران على الجمع بين شذرات الشعر وقوة الحكمة وكثافتها. الناقد الانكليزي من اصل مغربي محمد أبو طالب تحدث عن عزلة الشاعر وعلاقته بالزمن وقدم ترجمة بالانكليزية لبعض قصائد أبي نواس. اما الناقد الاسباني فينانسيو أخلسياس مارتن فقد قدّم مداخلة قيمة في شعر غارسيا لوركا مركزاً على الابعاد الصوتية والمجازية لهذا الشعر نافياً عن لوركا أية مرجعية إيديولوجية أو مدرسية ومؤكداً ان مرجعية هذا الشاعر لا تأتي الا من داخل شعره بالذات. كما تحدث عن الموروث العربي الاندلسي الذي تمثل بخاصة في قصيدة "الانهار الثلاثة" حيث الترجيع العميق لشجن الأندلس القديمة. الشعراء الذين تعاقبوا على منبر كلية الآداب في جامعة وجدة لثلاثة ايام متتالية كانوا متفاوتين في التجربة والعمق والأهمية. معظمهم بدوا مجرد اصداء لشعراء من اجيال سابقة وبعضهم الآخر بدا غير متمكن من اللغة او الايقاع. وخلافاً لما يجري في الساحات الشعرية الاخرى من انتشار واسع لقصيدة النثر فان الشعر الذي قرىء كان يعتمد بغالبيته الحاسمة نظام التفعيلة الذي هيمن بدوره على القصائد العمودية القليلة. لكن اللافت ان الكثير من الشعراء كانوا يستخدمون التقفية الواحدة دون ضبط للوزن بحيث بدا ما يلقونه أقرب الى السجع منه الى القصيدة. ومن بين عشرات الشعراء الذين أدلوا بدلوهم في "عكاظ وجدة" استمعنا الى قصائد لافتة لادريس الملياني وبخاصة قصيدته "انتظار في محطة ماياكوفسكي" التي اعتمدت الحوار الدرامي والمسرحة غير المتكلفة في البحث عن معنى الحرية والانتماء والغربة. الشاعر حسن الأمراني، احد أبرز القيمين على المهرجان، قرأ قصائد ذات منحى صوفي من "كتاب الليل" حيث تتحول ليلى الى رمز للحقيقة الانثوية الكونية المتوارية في ظلام المعنى. وكذلك فعل فريد الانصاري في "زهرة الحناء" حيث القصائد قصيرة ومكثفة بما يشبه البرقية او اللمحة الخاطفة. عبدالكريم الطبال قرأ بدوره قصائد تنحو الى السرد الواقعي ومساءلة الاشياء في حين قرأ عبدالمجيد بن جلون بالفرنسية قصائد لافتة تعتمد السطر الواحد أو السطرين وتتقاطع مع الحكمة في غير مكان: "اذا ما أغلقنا أعيننا للشمس/ فلأن داخلنا شمساً... السكين يقطع/ ولكن لا يحتقر الخبز... اذا كانت هويتي مهلهلة/ فلأنني الآخر..". دون ان نغفل بالطبع بعض اللغات المميزة في قصائد احمد الطريبق ومنيب البوريمي وآخرين. لم تكن وجدة قبل تلك الزيارة سوى اسم مبهم وغامض لمدينة في المغرب. لكنك لا تحتاج لغير ايام قليلة لكي تقيم مع مدينة الظل والحنين تلك مودة لا تتيحها لك العواصم والمدن الكبرى. سرعان ما تفتح لك المدينة قلبها ومنازلها وتفاتحك بما استغلق من وحشتها المبهمة. تحس انها تشبه الى حد بعيد المدن الصغيرة التي ألفتها ففي طفولتك وصباك وان أهلها يشبهون أهلك ورياحها شبيهة بتلك الرياح التي لفحت وجهك في دروب الأماكن الاولى. وحين تغادرها تشعر ان جزءاً من قلبك ما زال هناك وان المدينة تناديك من جديد كما لو انها صرخة في أعماقك.