في 25 آذار مارس 1998 أصدرت القمة الأميركية الافريقية في عنتيبي بياناً، وأهم ما يلفت في هذا البيان الذي شارك في صياغته سبعة رؤساء دول افريقية بالاضافة الى الرئيس الأميركي كلينتون، انه حدد موقف الولاياتالمتحدة من قضية الديموقراطية في افريقيا على اعقاب القرن الجديد وفي اطار الشراكة الجديدة بين واشنطن وافريقيا. أشار البيان في عبارة واضحة الى "انه ليس هناك نموذج واحد للديموقراطية أو المؤسسات والعمليات الديموقراطية"، بل ان القمة قبلت النموذج الديموقراطي الذي لا يقوم على تعدد الاحزاب أو بلا احزاب أصلاً. هذا الموقف يناقض تماماً الموقف الغربي التقليدي الذي يصرّ على نقل النموذج الغربي الى خارج القارة الاوروبية، ولا يعترف الا بخصائص هذا النموذج للديموقراطية. وأهم هذه الخصائص أولاً وجود احزاب، وثانياً احتكام مرشحي هذه الاحزاب الى صناديق الانتخاب لتشكيل المؤسسات الديموقراطية، واختيار الرئيس الذي يشكل الحكومة - حتماً - من اكثر الاحزاب حظاً في نتائج الانتخابات. ولما كان الموقف الاميركي الجديد يعكس - افتراضاً - الموقف الغربي عموماً من قضية الديموقراطية، وهو يمثل قطعاً انتقالاً تاماً من النموذج الذي أصر الغرب عليه في افريقيا الى الاعتراف بامكان تعدد النماذج الديموقراطية في شكلها وآلياتها ووظائفها، وان ليس للديموقراطية شكل واحد أو نموذج واحد، فقد يثير هذا الموقف تفسيرات كثيرة محتملة. التفسير الأول هو ان واشنطن، ومعها الغرب، اقتنعت بحقيقة اصبحت ساطعة، وهي ان فشل معظم التجارب الديموقراطية التقليدية في افريقيا في وجه الانقلابات العسكرية أو الواقع العرقي يوجب الاعتراف بأن الديموقراطية ثوب اجتماعي فصل على مقاس المجتمعات الغربية وأصبح النموذج مكتملاً بعد قرون عدة، ولكن هذا النموذج الاجتماعي أساساً لا يقبل النقل الآلي الى اجساد اجتماعية مغايرة، ويراد له ان يتفاعل بسرعة مع هذه الاجساد، ولذلك فان البديل المنطقي هو القبول بتعدد النماذج الديموقراطية، ولكن مصدر الخطورة هو انه اذا كانت الديموقراطية اداة لترقية المجتمع وتحسين طرق تداول السلطة وتحسين مستوى الحكم Governmance، فان التسليم بأنه ليس للديموقراطية شكل واحد قد يفضي الى نماذج لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالديموقراطية نفسها، وبذلك ينتقل الحكم على النظم الديموقراطية من معيار المعيارية المطلقة Standardism الى النسبية المطلقة التي يضيع معها كل مشترك ولو في حدوده الدنيا. غير ان من اهم محاسن هذا الموقف الجديد هو دلالته وليس مضمونه بذاته، اذ يعني ان الغرب بدأ يعترف بالتنوع الثقافي والاجتماعي مثلما اعترف بالتنوع البيولوجي، وان النموذج الغربي ليس هو النموذج المثالي ولا شيء سواه. ومؤدى هذه النتيجة ان اختفاء النظم الشمولية والشيوعية ليس معناه ان يقف التاريخ رافضاً التحرك عند نقطة واحدة وهي انتصار القيم الرأسمالية في مختلف ميادين الحياة. وهذا يسمح لنا بمواصلة ما كنا بدأناه في هذا المكان حول البحث عن نمط من الديموقراطية المهجنة adapted التي تستفيد بالتراث الديموقراطي الغربي كمنطق أو مدرك فكري وتنظيري ومن حماس الغرب ومساندته لترقية صور نقل السلطة وتداوله سعياً الى العدالة والاستقرار. ومن ناحية اخرى تولد النموذج الذي يتناسب مع ظروف كل مجتمع، وقد يبدأ النموذج متواضعاً في نسبته الى النموذج التاريخي للديموقراطية، ولكن ينمو في هذا المدرج حتى يصل - بتطور المجتمع - الى غايته، وعلى افتراض ان كل النظم السياسية والاجتماعية لا يمكن استيرادها جاهزة، كما انها جميعاً وسائل الى غايات. وقد يفتح هذا التطور في الفكر الغربي الطريق الى قبول الاجتهادات الاسلامية في مجال الحكم والادارة. اما التفسير الثاني الذي قد يجول في خاطر بعض نقاد الموقف الاميركي من أوغندا عموماً واغراقه في تدليلها، فيذهب الى ان الرئيس الاميركي قد تغاضى عن موقفه التقليدي الذي ساندته واشنطن منذ نهاية الحرب الباردة 90 - 1991 وشعارات نشر الديموقراطية داخل الدول وبين الدول واشاعة الديموقراطية في العلاقات الدولية، وذلك تفادياً لاحراج شركائه الذين يحكمون في نظم تتواضع فيها خصائص النموذج الاميركي للديموقراطية. فكأن التغير في الموقف الاميركي قد يكون دافعه الاقرار بواقع لا سبيل الى تغييره، كما قد يكون الدافع ايضاً التغاضي مقابل بناء شراكة مصلحية أخذاً بالمذهب البراغماتي الذي يلقى قبولاً واسعاً من مدارس العلاقات الدولية الاميركية خصوصاً في عصور ظهور القوة الاميركية وتقديم المصالح على المثاليات من الاخلاق العامة، وهو على أي حال صراع تاريخي بين المدرستين: الواقعية التي يمثلها موغنتاو وروزناو حالياً، والمدرسة المثالية التي انحسر نفوذها عموماً في السنوات الاخيرة بعدما نصح أحد اساتذة المدرسة العراقية بتدريس النظرية المثالية في دور العبادة أو في كتب الفلسفة والأخلاق! ومن المتصور ان ينهض الى جانب التفسيرين السابقين تفسير ثالث - نميل اليه - ومؤداه ان الغرب لم يعد يهمه من العالم الخارجي الا ما يمثله هذا العالم من مصالح، وانه لا يهم الغرب ان تعم الفوضى السياسية والممارسات غير المنضبطة في افريقيا أو غيرها ما دامت لا تؤثر في المصالح الاقتصادية للغرب. ولمن يريد ان ينظر بجدية في هذا التفسير نسوق المواقف الاميركية من بعض القضايا من دون تفصيل لضيق المقام ولعلمنا بأن ما يفهم بالتلميح لا يجوز تفصيله احتراماً لذكاء القارئ، يكفي ان نتأمل الموقف الاميركي من قضايا رواندا وبوروندي والكونغو كينشاسا والكونغو برازافيل وأنغولا وغيرها كثير، ومن قضايا المرتزقة وغيرها. وأخيراً فلا شك ان مقولة ليس للديموقراطية شكل واحد تقود الى القول بأنه ليس للديموقراطية وطن واحد، وهو يذكرنا بموقف النظرية الشيوعية التي اتجهت الى انه ليس للشيوعية شكل واحد ولا وطن واحد هو الاتحاد السوفياتي، كما ليس للشيوعية تطبيق واحد. فاذا كانت واشنطن هي قلعة الديموقراطية والحرية فانه مما يخدم قضية الديموقراطية ان تتعدد صور الديموقراطية واجتهادات الممارسات في هذا السبيل، وهو اعلان عن ان الشراكة تعني القبول المتبادل بظروف الشركاء وخصوصيات أوضاعهم وهي لهجة لم تألفها افريقيا التي درجت على ان تسمع من اوروبا ان للديموقراطية وطن واحد وتطبيق واحد وان الخروج على حرفية سقوط في هوة البربرية ونكوص عن التقدم أو اللحاق بالحداثة كما يحلو للبعض، ولكن هذا الفارق في الخطاب بين اميركا وأوروبا هو - عندنا - جزء من لغة سياسة الاحلال التي تعد القارة الافريقية آخر ساحاتها، منذ ان بدأت بعيد الحرب العالمية الثانية.