اعتاد الكتاب وأصحاب البرامج الإذاعية، والتلفزيونية، الحديث عما يسمونه ظاهرة التكفير يعنون بها الحركات الاسلامية، وأنها تكفّر المجتمع، ويكفر بعضها بعضاً، وأنه لا مجال للخلاف وتعدد الآراء عندها. فالرأي لديها "عقيدة"، والعقيدة واحدة، من خالفها خرج عن الملة وصار كافراً. ويبنون على ذلك، أن "الديموقراطية" الغربية هي الحل، فهي المأمن والملجأ، الذي يحمي كل أصحاب الآراء، مهما تباينت، واختلفت، وهي التي تسع الناس جميعاً، وتتيح لأصحاب الرأي الذي عليه الأكثر، أن يقودوا المجتمع في أمان وهدوء، وتتيح في الوقت نفسه للآراء الأخرى أن تعيش في سلام واطمئنان، ومن هنا يقولون: "الديموقراطية هي الحل"، ويضعونها في مواجهة القائلين: "الإسلام هو الحل". ومن يتابع حياتنا الثقافية، والفكرية، والإعلامية، يجد أن هؤلاء - بحكم ما هو ممكن لهم من منابر الإعلام والتثقيف - استطاعوا باللجاجة والإلحاح ترويج هذه المغالطة، حتى صار العامة لها مصدقين، وشبه مصدقين. وأخيراً شاهدت حلقة في برنامج "بازغ" في إحدى الفضائيات العربية تحدث المشاركون فيه برصانة ورزانة، وتؤدة وثقة، وكأنهم يقولون القول الفصل الذي لا راد له، ولا حق سواه. تحدثوا عما سموه الإسلام السياسي، وعن الخيار بين الاسلام والديموقراطية، حتى وجدنا مقدم البرنامج النابغ يوجه السؤال هكذا بكل جرأة: أنت مع الاسلام أم مع الديموقراطية؟ وعبثاً حاولت أن أتدخل في الحوار عن طريق الهاتف فلم يُسمح لي، فعلى الفور أعددت رسالة بالفاكس، وتلطفت للمسؤول عن البرنامج راجياً ان يقرأ رسالتي عملاً ب "الديموقراطية"، لكن يبدو أن الشعار صار الآن: "الديموقراطية كل الديموقراطية للجرأة والتطاول على الاسلام، ولا ديموقراطية للدعاة وأنصار الاسلام" عوضاً عن شعار الاشتراكية السابق: "الحرية كل الحرية للشعب، ولا حرية لأعداء الشعب" والله وحده المستعان على كل بلية. إن القول بآحادية الرأي، وتكفير الرأي الآخر عند الاتجاه الإسلامي والاسلاميين مغالطة كبرى من مغالطات الحوار. فاولاً: ليس هناك إسلام سياسي، وإسلام عبادي أو مسجدي. الاسلام نظام حياة، ومنهج أمة، ومشروع حضاري، تلك قضية مفروغ منها. وأي مشروع وأي دستور في الدنيا رأته البشرية فيه خطوط عريضة، وثوابت اساسية تكون محل اتفاق بل تقديس من الجميع. ثم يبدأ بعد ذلك العمل على تطبيقه وهنا يأتي الخلاف في التفسير، واستلهام روح الدستور والالتزام بنصوصه، ولا حرج ولا حجر على احد في هذا الاختلاف، وتلك سنة كونية من سنن الله، كدوران الأرض وهبوب الرياح وسقوط الأمطار. ومثال على ذلك ما نسميه الدولة الحديثة: عندها دستور، هو موضع اتفاق مع الجميع، وهو الذي يقسم عليه رئيس الدولة، والوزراء، وكبار المسؤولين تقديساً له. ومع ذلك فإن هذا لا يمنع ان تقوم أحزاب لا حصر ولا قيود على تعددها - كلها تؤمن بالدستور، وتدافع عنه ورغم هذا فكثيراً ما يدور الجدل بينها حول انتهاك هذا الحزب أو ذاك للدستور. بل إن السلطة الحاكمة نفسها - وهي المنوطة بتنفيذ الدستور والالتزام به - تتهم احيانا بأنها "خرقت" الدستور و"اعتدت" عليه، وسنت قوانين تخالفه، وتعرض اعمالها وقوانينها على جهات مختصة لتحكم في دستورية القوانين، او عدم دستوريتها. فالمشروع الحضاري الاسلامي ليس بدعاً، دستوره القرآن والسنة، فلنتفق جميعاً - ولا نملك إلا هذا بصفتنا مسلمين - على الالتزام بهذا المشروع. ولا حرج بعد ذلك إذا تعددت الرؤى بين جماعات اسلامية واختلفت، وتنازعت وتناحرت. فماذا في ذلك؟! إنه خلاف حول تفسير او تنفيذ مشروع اتفقنا كلنا على الالتزام به. فلماذا نجعل هذا الاختلاف سبباً للزراية والازدراء، ونرتب عليه اقصاء هذا المشروع الاسلامي؟. لماذا لا نستخدم المنهج نفسه؟ ولماذا نجعل الخلاف حول الدستور الاسلامي وتفسيره سبباً في الازدراء والسخرية، ونرتب عليه إلغاء هذا الدستور؟. أعلم أنهم سيقولون: إن الخلاف حول المشروع الاسلامي يؤدي الى تكفير المخالف، وهذا في الواقع ادعاء وافتراء يكذبه الواقع. فها هي الجزائر كان بها أكثر من جماعة اسلامية، على أكثر من منهج، ولم يكفر بعضهم بعضاً، وها هي مصر فيها منذ زمن بعيد جماعات عدة: الجمعية الشرعية، والإخوان المسلمون، وانصار السنة، وشباب محمد صلى الله عليه وسلم وغيرهم، ولم يكفر بعضهم بعضاً، على بعد ما بينهم من اختلاف في المنهج. ألم يأتك نبأ من يحاكمون عسكرياً بتهمة أنهم فكروا في الاعتداء على الدستور؟ لم يعتدوا على الدستور بعد، ولكن جال في ذهنهم وحاك في صدرهم - مجرد تفكير - أن يؤلفوا حزباً، والدستور يمنع قيام احزاب على اساس اسلامي. وهم لم يعلنوا ذلك، لكن توجههم الاسلامي معروف مشهور، فهم إذاً كفروا بالدستور. أليس هذا تكفيراً سياسياً، عصرياً، مدنياً، حديثاً، أبشع من التكفير الديني؟ ثم هناك النقطة الثانية وهي: وضع الاسلام في مقابل الديموقراطية، بمعنى: إما مع الاسلام أو مع الديموقراطية. فإننا نرى أن من حُسن الحظ أن أعداء العمل الاسلامي، وأعداء الحل الاسلامي يقعون في هذه الأخطاء الفاحشة فيبدون كالصبية الذين يحاولون اخفاء قرص الشمس بأكفهم في وسط الظهيرة، أو كمن يحاول اخفاءها بذيل ثوبه، فتنكشف سوءاته، فيصير أضحوكة للجميع. إن الاسلاميين ما عرفوا تزوير الانتخابات، وتزييف إرادة الشعوب بالقهر والإرهاب، وسجن المعارضين وسحلهم. وليس الاسلاميون اصحاب نتائج الانتخابات التي غدت اضحوكة في العالم ماركة الثلاث تسعات 9.99، أو الخمس تسعات 999.99 في المئة. لا علاقة للاسلام ولا للاسلاميين بهذه الدكتاتوريات المستبدة الغاشمة الا علاقة المعارضة والرفض - فليسوا من جناتها علم الله. إن الاسلاميين التزموا بكل اصول وقواعد وضوابط اللعبة الديموقراطية لأنهم يؤمنون بأن الادلاء بالصوت الانتخابي شهادة، وأن شهادة الزور من أكبر الكبائر، وتزييف ارادة الناخب او اجباره وارهابه هو عين الاستشهاد بالزور "ألا وشهادة الزور". ومن هنا رأينا شعوبنا بحسها الفطري وسجيتها السليمة، لا تختار غير الاسلام، يشهد بذلك الواقع، والواقع ابلغ بيان وأفصح لسان. فحينما تتاح الفرصة للجماهير، لتقول كلمتها، وتعطي صوتها، وتدلي بشهادتها، لا تعطيه الا للإسلام، ولا تشهد إلا للاسلام. تأمل حينما كانت الانتخابات النيابية حرة نزيهة في الاردن، وما اسفرت عنه الصناديق الزجاجية الشفافة في الجزائر، وبمن أتت؟ تأمل مجلس الامة الكويتي. وإذا قال قائل: إن الجماهير والدهماء، والعامة والبسطاء، يستهويهم الخطاب باسم الدين وينخدعون به، فإني احيله على انتخابات النقابات المهنية في مصر وفي الاردن وفي غيرهما. فإذا امكن استهواء العامة، فكيف بالأطباء والمهندسين، والمحامين، واساتذة الجامعات. كيف يمكن خداع هؤلاء أو استهواؤهم؟! ولكن من هو الديموقراطي؟ من الذي انقلب على الديموقراطية؟ من الذي ألغى نتائج الانتخابات ولم يعبأ بإرادة الشعب. ما هذا الذي حدث في الجزائر؟ إنكم تكلموننا عن عداء الاسلام او مغايرة الاسلام ومناقضته للديموقراطية، وكأننا ليست لنا عقول، وكأن "جبهة الانقاذ" هي التي ألغت نتائج الانتخابات، ووضعت ممثلي الشعب وحكام البلد الحقيقيين في السجن!