العلماء الحديثون يعتقدون في صورة توافقية بأنه بات أمراً مقرراً وثابتاً ان الثقافة الاسلامية دخلت في حالة من التقهقر أو الانحطاط بعد سقوط الخلافة في الحقبة العليا أو، في أقصى تقدير زمني، في فترة الاحتلال المغولي في القرن الثالث عشر، ومنذئذ أخذوا يعتبرون كل شهادة تدل على الحيوية أو على العظمة في حقبات لاحقة، خصوصاً في القرن السادس عشر، كما لو أنها شيء استثنائي، وكما لو أن هذا لم يكن يشكل جزءاً من الثقافة الاسلامية في المعنى الصريح للكلمة بل كان يشكل مجموعة من الحوادث العرضية وبدون صلات في ما بينها. اعتقد بأن ثمة ها هنا سوء فهم، ويعود هذا جزئياً الى واقعة أننا لا نمتلك حتى الآن أية نظرة عامة حقيقية حول الثقافة الاسلامية في مجموعها. وعلى أي حال، ان الفكرة المتحدثة عن انحطاط اسلامي لا يسعها أن تثبت وتستقر في صورة جدية ما دمنا لم نحذف الأثر الناتج عن سلسلة من الشروط المسبقة ومن الاجراءات البحثية الاحادية الجانب والتي تنزع الى التزاوج في ما بينها من أجل توليد التوهم بوجود انحطاط قديم نسبياً، سواء كان هناك بالفعل انحطاط أم لا. ليس مقدوري هنا سوى التدليل على بعض الحالات، وينبغي لتحليل أكثر اكتمالاً أن يتساءل حول عدد معين من الأفكار الخاطئة التي تحظى بقيمة فائقة في التاريخ الغربي نفسه وصول الصلاحية المناسبة، في مجال دراسة الاسلام، لعدد معين من المشكلات المتضمنة في كل مقارنة تاريخية وكذلك في الطرائق المستخدمة لدراسة التاريخ الاسلامي كما هو. أحد الاتجاهات الطبيعية والتعيسة التي أثّرت في صورة فعّالة على مفاهيمنا حول عالم الاسلام، كان يقوم على تركيزنا على المناطق المتوسطية، نظراً لكونها الأكثر قرباً من الغرب. في زمن سابق، كان هذا الاتجاه يعني تركيز الانتباه كله على العثمانيين في اللحظة التي كانوا فيها يدخلون في التاريخ الديبلوماسي الأوروبي. وفي فترة قريبة، كان هذا الاتجاه يفصح عن نفسه من خلال الخطوة النجومية المعطاة الى البلدان التي تستخدم اللغة العربية، والسبب يعود جزئياً الى الاهتمام الفيلولوجي باللغة والاهتمام "بالأصول الكلاسيكية". ان المماهاة الشعبية بين المسلمين والعرب أسفرت عن مجموعة من التصورات الخاطئة والعنيدة في صورة خاصة. في الواقع، نجد أن المراكز الأكثر إبداعاً في الاسلام كانت تقع، في كل الأوقات، شرق المتوسط، من سورية الى حوض الأوكسوس وبالتالي الى حد بعيد في أرض اقليمية غير عربية. ففي هذه المناطق ولد الرجال الذين أحدثوا التأثير الأكبر والأوسع في بلاد الاسلام، هذا بينما نجد أن عدداً قليلاً منهم مولود، على سبيل المثال، في مصر. ونجد أن الكثير من المؤسسات الأساسية متحدرة على ما يبدو من المناطق الواقعة أكثر فأكثر نحو الشرق من هذه المنطقة. في خراسان، أي في الهضبات العالية شمال - شرق ايران: المدارس، الأخويات الطرق الصوفية، إقرار علم الكلام بوصفه جزءاً من الاسلام، الخ. ثمة مصدر آخر لهذه المفاهيم الخاطئة، وهو يكمن في ميل المسلمين أنفسهم، منذ القرن التاسع عشر، الى اطراح ماضيهم المباشر باعتباره اخفاقاً والتطلع الى الحقبات "الكلاسيكية" الأقدم زمنياً لتراثهم، والتي يبدو أنها تمنح موارد قوة ضد التطاولات الغربية الحديثة، وهو الميل الذي ظل الغربيون أنفسهم يشجعون عليه لأسباب تخصهم هم. على هذا النحو، يناقش العلماء الغربيون مسألة التقهقر الثقافي للاسلام، محاولين اعطاء معلومات دقيقة عن زمن ونمطيات الانحطاط في الفنون، والدين، والفلسفة والعلوم، بدون أن يثبتوا في صورة حقيقية بأن مثل هذا الانحطاط حصل فعلياً، وبدون ان يحكموا على الأعمال الكبيرة في الحقبات اللاحقة لاعطائها القيمة التي تستحقها في ان معايير مثل هذا التقويم، كما جرى تقديمه، تميل الى أن تكون ذاتية جداً. المعايير الجمالية والفلسفية المستخدمة لهي اليوم موضوعة قيد النظر والتساؤل في ضوء التبدلات التي يشهدها الذوق في الغرب. وليس هناك مجال غير دراسة الاقتصاد الاسلامي والعلوم الطبيعية يمكن أن نعلق عليه آمالاً طيبة من أجل بحث منزّه عن الأغراض في صورة معقولة. إذ يبدو بوضوح أن تشنجاً أصاب اقتصاد معظم المناطق المركزية للعالم الاسلامي في الفترة ما بين القرن التاسع والقرن السابع عشر، غير أن هذا لا يمنحنا معرفة حقيقية لجماع اللوحة. ففي حالات معينة، نعرف أن التشنج كان يعود، جزئياً على الأقل، الى شروط تتعدى الاشراف الانساني في تلك الحقبة، على هذا النحو، وفي اجزاء معينة من العراق، تحققت مهارات تقنية ملفتة للنظر، لكنها أخفقت في التصدي للتدهور الحاصل في نظام الري والسقاية والذي كان جزئياً نتيجة لتبدلات جيولوجية. لا يمكن أن نرد التقهقر ببساطة التى تضاؤل الحيوية الثقافية. من ناحية أخرى، وحتى في مواضع التشنج الاقتصادي التي يمكن تحديدها في معنى محدد أو في غيره، فإنه لم يحصل بما فيه الكفاية التمييز بين النتائج الثقافية للتشنج بوصفها سيرورة حصلت في وقت معين وبين تلك التي تعود الى مستوى من الموارد الاقتصادية أدنى من غيره، وهو مستوى جرى تثبيته بعد زمن طويل من حصول التشنج، أو التمييز بين حصر نطاق الموارد الجاهزة لرعاية وترؤس الأنشطة الثقافية غير الاقتصادية والتي يسعها أن تدل، بالتالي على تقهقر معين، وبين اختزال فعلي لمستوى التقنية الاقتصادية والتعقيد، وهذا أمر سيكون من الصعب جداً في كل الأحوال البرهنة عليه قبل القرن الثامن عشر. باختصار، حتى وان كنا نقدر على التحدث عن تشنج اقتصادي، فإنه لا يسعنا بعد أن نحدد بطريقة مؤكدة أي وجه من وجوه التعالق الثقافي، والاقتصادي أو غيره. العلوم الطبيعية في الاسلام هي أيضاً موضوع نقاشات لدى العلماء الغربيين، الذين يرون بأنه حتى وان كان الجزء الأفضل من الانتاج الاسلامي في هذا المضمار ظل فائقاً لا يضاهى طوال القرن الخامس عشر وعلى الأرجح طوال القرن السادس عشر، فإنه حصل تضاؤل في انجاز أعمال كبيرة بعد عام 1300، ومستوى كتب التبسيط تقهقر بعد عام 1500. ولكننا نتفطن، بعد البحث والتدقيق، الى أن المعطيات التي تقوم عليها هذه الدراسات مأخوذة، في معظمها، من منطقة البحر المتوسط مفضلة المناطق الأكثر مركزية للاسلام. يمكننا أن نفترض بأنه أمكن وجود مرحلة أقل إبداعاً في صورة نسبية في عالم الاسلام ولنقل أنها ما بين عام 1350 وعام 1450 كما هي الحال في أجزاء أخرى من العالم في ذلك الوقت، وحتى في أوروبا الغربية الى حد معين، لكننا نعتقد، على كل حال، بأن الانسداد الرئيسي للابداعية في جماع التراث لم يحصل إلا بعد عام 1650 أو 1700، إثر التنافس مع غرب شهد حديثاً تحولاً ملحوظاً. في هذه الحالة، يسعنا أن نتوقع أن تكون كبرى الشخصيات في القرون التي سبقت مباشرة عام 1700 قد بقيت عرضة لسوء وقلة التقدير، ذلك أنه عندما شرع البحث الحديث يشق مجراه، وبات مطلوباً تعيين أي الأعمال من بين الأعمال الأكثر قدماً تستحق الاهتمام، لم يكن هناك غير روّاد من الدرجة الثانية. وكان في مقدور هؤلاء أن يعرفوا بدون شك ألمع الأسماء القديمة، إلا أنهم كانوا عاجزين عن الحكم على الشخصيات الأقرب عهداً اليهم، والتي لم تكن شهرتها بعد تسمح بالغربلة في اللحظة التي راح فيها الجزء الأكبر من الاهتمام ينصب على صور ومواضع أخرى. ان اللوحة المقدمة على النحو الموصوف نجمت في صورة طبيعية عن التشخيص السابق، خصوصاً في المناطق الأقل مركزية. ان أمثال هذه الشهادات من شأنها أن تتفق مع فرضيتنا. وعلينا أن ننتظر عمليات بحث مدقق لاحقاً قبل أن نقدر على الاقرار إذا ما كان حصل بالفعل انحطاط، حتى في الميدان الخاص للعلوم الطبيعية. أحد الأسباب المذكورة لافتراض وجود انحطاط أعرق زمنياً وأكثر تجذراً، لهو سؤال يحظر على البال في صورة طبيعية، بالنظر الى الأفكار المألوفة والمتعلقة بالتاريخ العالمي في منظار حديث. الغربيون يطرحون السؤال في معظم الأحيان: ما الذي جعل البلدان الاسلامية، القوية في السابق، تعجز عن مواكبة التحولات الغربية الكبرى في القرنين السابع عشر والثامن عشر من أجل الدخول في العالم الحديث على قدم المساواة مع الغرب؟ سوف نعالج باختصار هذه المسألة في موضع لاحق. والجواب لا يكمن جوهرياً، وأنا متأكد من ذلك، في نوع من الفشل السابق للمجتمع الاسلامي، وهو بالتأكيد لا يمكن كذلك في نوع من الظلامية الخاصة بالدين الاسلامي. على العكس من ذلك، قبل المقدرة على طرح صائب للسؤال عما جرى في القرن الثامن عشر، ينبغي علينا بادئ ذي بدء أن نفهم كيف استطاع الاسلام أن يلقى نجاحاً كبيراً الى هذا الحد طوال ألف عام. ويقتضي هذا أن نعود الى أصول الاسلام والى تاريخه، وهذا بدوره يقتضي منا أن نفهم التراثات الثقافية الايرانية - السامية الأكثر بعداً في الزمن والتي كان المسلمون ورثتها. عندئذ فقط سيكون في وسعنا أن نعود في صورة صالحة الى القرن السادس عشر. عن الفرنسية: حسن الشامي