علاقة الحضارة الغربية المعاصرة-بصفتها موئل نهاية التاريخ- بغيرها من بقايا الحضارات والثقافات الأخرى محكومة على ما يبدو بمضمون علاقة الغالب بالمغلوب، تلك المقولة -حتى لا نقول النظرية- التي اشتغل عليها عالم الاجتماع العربي عبدالرحمن بن خلدون في مقدمته المشهورة. وإذا كان ابن خلدون قد وصل في دراسته لأحوال المجتمع العربي حتى زمانه إلى أن"المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب, في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده". وأن السبب في ذلك:" أن النفس -أبداً- تعتقد الكمال فيمن غلبها", فإن ذلك الاقتداء والاعتقاد قد أصبحا مع الحضارة الغربية المعاصرة حقيقة معاشة تعيشها شعوب الأرض كلها مع ردة فعل انبهارية تتموضع على أرضية مزدوجة قوامها:رفض وهيام يلخصان نرجسية مجروحة للمغلوب. مع ذلك فالنتائج التي تمخضت عن تلك النظرة المزدوجة لم تكن واحدة. فهناك من الثقافات الأخرى من استطاعت رغم رعب الصدمة الحضارية محاكاة النموذج الحضاري الغربي(اليابان مثلا)تكنولوجياً, حتى وصلت إلى درجة منافسة المنتج الغربي في عقر داره مع الاحتفاظ بالحقوق التدشينية الحضارية لصاحب الحق(الغرب المعاصر). فيما كان هناك منها من حوَّل علاقته مع الحضارة الغربية المعاصرة على وقع إيحاء نسخة متطرفة من تلك النظرة المزدوجة إلى سلوك لا يختلف في شيء عن مرض الفصام؛ لعن الغرب وشتمه والتحذير منه ومن فلسفاته وأفكاره وإباحيته و(علمانيته!)، وتنفس نتاجه التكنولوجي الذي هو نتاج مباشر لحداثته الفكرية صباح مساء!. الثقافتان:الآسيوية,والعربية/الإسلامية كانت لكل منهما ردة فعل مزدوجة تجاه الحضارة الغربية. فقد أراد أو رغب كل منهما محاكاة الحداثة الغربية تقنياً, مع رفض أساسها الفكري باعتباره معبراً عن منظومة قيمية لا تتناسب والمنظومة القيمية المعاشة.إذ هي-أعني المنظومة القيمية الغربية- منظومة مشبعة بخفوت الجانب الروحي, وبانفصال الرباط الأسري, وبشيوع الحرية الفردية إلى الدرجة التي لم تعد معها مؤسسة الزواج هي المجال الوحيد للعلاقات الجنسية!. هذا الرفض الفكري الرُهابي للمنظومة الفكرية الغربية يقابلها من الناحية الأخرى قبول,بل شغف وهيام بالغرب التكنولوجي إلى حد الوله الطفولي الذي لا يستغني فيه الطفل عن ثدي والدته ومخدعها لحظة من الزمن!.فهذا الغرب الملعون المستعاذ بالله منه كشيطان رجيم لا يمكن أن يغادر الوعي واللاوعي على مستوى المعاش اليومي لتلك الثقافات. ذلك أن حداثته التكنولوجية لم تترك شيئاً في حياة أفرادها إلا ودخلته,بل وتحكمت به كلية, بما في ذلك دور العبادة.بل إن التكنولوجيا الغربية المعاصرة راحت في سياق رهابها الحضاري تتدخل حتى في "تنظيم" بعض الشعائر الدينية لتلك الثقافات!. إذا كان هذا الفصام النكد بين التعلق المرضي بالغرب التكنولوجي والبراءة منه فكرياً هو إحدى أهم-إن لم نقل أهم-السمات البنيوية للثقافة العربية/الإسلامية المعاصرة, فإن الذي سيعيد للنرجسية العربية شيئاً من اعتبارها-مؤقتاً على الأقل- أن تلك النظرة المزدوجة للغرب ليست مقصورة عليها وحدها,فثمة من يشاركها ذاك الرهاب من جهة,والعشق والهيام بالمنتج الغربي من جهة أخرى,لكن مع فوارق مؤثرة ستتضح لاحقا. مَن مِن الثقافات العالمية غير العربية يمكن أن تشارك العربية تلك النظرة المزدوجة؟ هناك الثقافة الآسيوية ذات القيم العريقة عراقة أعمق تاريخياً وسوسيولوجياً من الثقافة العربية, ومع ذلك فجرحها النرجسي لا يقل وقعاً وردة فعل عما لدى بني يعرب. كل من الثقافتين اكتشف تأخره بمسافات ضوئية عن الغرب على وقع المدافع الغربية. فالعرب الذين اكتشفوا تخلفهم على وقع أصوات المدافع الفرنسية بقيادة (نابليون) وهي تجثم على أنفاس الشرق في نهاية القرن الثامن عشر, لم يختلفوا في هذا الجانب عن الآسيويين الذين اكتشفوا عمق ومرارة تأخرهم على وقع أصوات المدافع الأمريكية وهي تدوي في ميناء مدينة (أوراوا) في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وبالتالي فإن كلا التاريخين:الآسيوي والعربي سيُكتبان منذ ذلك الحين, وكما يقول الدكتور:جورج طرابيشي بازدواجية جذرية قوامها:كراهية الغرب المستعمر والمهيمن من جهة, والإعجاب في الوقت نفسه بتقدم هذا العدو الغربي. من ذلك التاريخ(تاريخ اللقاء)الصدمة تشكلت في كلا الذهنيتين:العربية والآسيوية ما يمكن أن يُطلق عليها:الممانعة الثقافية للقيم الغربية, كما أُلبس كلاهما لباساً عقدياً وتقاليدياً, بل ورهاباً دينياً. في الناحية العربية لن تعدم من يُثرِّب على الغرب ويصفه بكل الصفات المنحطة والسالبة والمتهِِمة. بل إن هجاء الغرب وتعليق أسباب تخلف الذات بكافة مظاهر التخلف على شماعته أضحى بالنسبة للساحة الثقافية العربية نسقاً ثقافياً عاماً يستوي في النهل من معينه, وتقديم القرابين الثقافية لإثبات استلهامه التقليديون والمتشددون جنباً إلى جنب مع من يصفون أنفسهم ب"التقدميين أو الليبراليين". وأصبحت درجة الوجاهة الاجتماعية والوطنية، بل ودرجة الصلابة العقدية مقرونة برباط لا ينفصم مع درجة الاستعاذة من الغرب ولعنه على رؤوس الأشهاد. مثلما أن الرمي بالانحطاط الثقافي والوطني، بل والديني مقرون بدوره بالقرب من هذا الغرب أو الثناء عليه,أو حتى مجرد الدعوة إلى اقتفاء أثره التكنولوجي!. في المقابل، فالممانعة الثقافية الآسيوية (نعني بالآسيوية هنا دول شرق آسيا,وتحديداً:النمور الاقتصادية منها),أفرزت بدورها جيلاً ممن أعقب صدمة اللقاء الأولى,أخذ على عاتقه عبء التبشير ب"انحطاط" القيم الغربية, وبالمناداة بحماية الموروث القيمي والديني للمعقل الذي تتدافع إليه أيقونات التقدم الغربي، تستوي في ذلك اليابان والصين وغيرهما من معاقل النمور الآسيوية. يقول جورج طرابيشي في هذا المجال:" هذه الازدواجية(=في المجال الآسيوي) لم تثلم حدتها نجاحات المعجزة الاقتصادية,بل على العكس فلم يحدث قط أن شعر الآسيويون بأنهم آسيويون كما أفلحوا في احتلال مكان لهم تحت الشمس في مسيرة التقدم على الطريقة الغربية". وهذه في تقديري قمة الازدواجية، بل وقمة التناقضات.تلك هي الحالة التي يجد فيها شعب أو مجتمع ما أنه في الوقت الذي يلعن فيه"عدوه" صباح مساء, فإنه لا يستطيع أن يشعر بهويته في أخص خصوصياتها إلا عندما يتقدم على طريقة العدو نفسها!. تتلخص الممانعة الآسيوية ضد"الآخر"الغربي في كلمتين:ضرورة محاكاة الغرب تكنولوجيا, والتمايز عنه ثقافيا. وهو شعار يغري العرب والمسلمين, وبالذات متعهدي الممانعة الدينية ,بأن ينادوا باقتفاء أثر الشعار الآسيوي:توطين أو محاكاة النموذج الغربي في الصناعة والتكنولوجيا, والاحتفاظ في الوقت نفسه بما يطلقون عليها(الثوابت) سواءً كانت ثوابت دينية أو اجتماعية, وبالذات الأولى منها. لا حاجة في تقديري لاستعراض شيء من النماذج العربية/الإسلامية للممانعة الثقافية ضد الغرب,فالكل في هذه المنطقة المكلومة يتنفس هذه المقاومة آناء الليل وأطراف النهار. وبدلاً من ذلك، فإن السياق الذي نتحرك فيه,سياق مقارنة نماذج الممانعات الثقافية,يحدونا لاستعراض نماذج من الممانعة الثقافية الآسيوية للقيم الغربية لنرى كيف تتماثل الممانعات شعاراتياً, وتختلف نتائجياً على المستوى الحضاري.ثم لنتساءل بعد ذلك عن الفروق بين الممانعتين. وكيف أن آسيا تقدمت وصعدت إلى إحدى قمم الحضارة المعاصرة بفضل محاكاتها للنموذج الغربي تقنيا, في الوقت الذي فشل فيه العرب والمسلمون أن يوجدوا لهم موطئ قدم في تلك الحضارة على الرغم من رفعهم لنفس الشعار الآسيوي؛ المحاكاة تقنياً, والرفض فلسفيا وفكريا. لعل من أبرز نماذج ما ندعوها ب"الممانعة الثقافية الآسيوية" للقيم الغربية,من بين نماذج عديدة,صوت( لي كوان يو)رئيس الوزراء السنغافوري السابق,والأب المؤسس لسنغافورة الحديثة منذ استقلالها عن ماليزيا عام 1965م. هذا الصوت الآسيوي المميز كان قد حكم سنغافورة منذ ذلك العام حتى عام 1990م بشعار مفاده:ضرورة دمغ النهضة الآسيوية بالتقدم المادي على الطريقة الغربية,لكن بعيداً عن أن تتماس مع الجذر الفلسفي المؤسس لها, وبالذات ما يتعلق بشقه السياسي: ديمقراطية الحكم. ولذا؛ فقد جاءت فترة حكمه الطويلة لسنغافورة أشبه بالطريقة الشمولية الاستبدادية الأحادية. لكن مع هذا الفارق, وهو أن سنغافورة كانت قد تحولت خلال حقبة حكمه من بلد يعيش سكانه في أكواخ من الصفيح, وبدون ماء نظيف صالح للشرب,أو تصريف صحي, وبدخل سنوي لا يتجاوز المائة دولار للفرد,إلى واحد من أبرز النمور الآسيوية.فقد ارتفع معدل الدخل الفردي السنوي خلال عشرين سنة فقط إلى أربعة وعشرين ألف دولار. وتحولت سنغافورة إلى قبلة للسائحين والمستثمرين رغم أنها لا تملك موارد أولية ضخمة كالنفط!.السؤال هنا هو:بأية ثقافة يا تُرى حول هذا الأب المؤسس بلده من بلد ممعن في التخلف, إلى واحد من أسرع النمور الآسيوية تقدماً؟ قبل أي جواب محتمل عن ذلك السؤال,دعونا نستمع إليه وهو يقول:"إن الديمقراطية هي الجواب الأيديولوجي للغرب على الشيوعية. فالغرب قد رفع عالياً شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان كحل كوني لمشكلات دول العالم أجمع,بصرف النظر عن تاريخها وقيمها الثقافية ووضعها الاقتصادي". ثم يضيف:"... والحال أن المشكلة الأساسية لجميع البلدان الآسيوية-عدا اليابان- هي الحفاظ على استقرارها السياسي. فالاستقرار السياسي يبقى الشرط المسبق للتقدم. ولكن المشكل هو أن هذا الاستقرار أول ما يقع عليه الضغط في مرحلة الانتقال إلى دولة حديثة". بالإضافة إلى ذلك, يستخلص مؤلف كتاب:هرطقات:جورج طرابيشي من مجموع أقوال الأب السنغافوري ما مضمونه أن"الديمقراطية لم تغدُ حقيقة في الغرب بين عشية وضحاها. فلماذا يريد المبشرون الغربيون, وفي مقدمتهم الأمريكان أن تبدأ آسيا أول ما تبدأ بالديمقراطية؟(قارن مع سعي الولاياتالمتحدةالأمريكية لنشر الديمقراطية في دول الشرق الأوسط!),فالديمقراطية ومعها التعددية الحزبية لا يصلحان إلا لمجتمعات متطورة ومتقدمة فعلا. ولا شك بأن الحكومة في آسيا-كما في كل مكان من العالم- لا بد وأن تكون شرعية ومقبولة من الشعب. ولكن إقامة نظام على أساس الدستور الأمريكي أو البريطاني أو الأوروبي الغربي ليس الحل الذي تريده آسيا أو تستطيع أن تتبناه". مع ذلك فثمة فروق ثقافية حاسمة بين الممانعتين. فروق آتت أكلها ضعفين في التجربة الآسيوية إلى الحد الذي جعل بلدانها- والنمور منها بالذات- تنافس الغرب تكنولوجياً, في عقر داره مع الاحتفاظ بقدر ما من طابعها الثقافي الخاص. في الوقت الذي أوصدت فيه الممانعة العربية والإسلامية الأبواب أمام محاكاة النموذج الغربي, فحولت بذلك المجتمعات العربية والإسلامية إلى صور من المتناقضات التي تخفي عوراتها التنموية, فغدت إما مجتمعات غنية بموارد أولية لا يد لها فيها,أو هي كما يقول أحد المثقفين: صدفة جيولوجية فحسب, في الوقت الذي تعتمد فيه استهلاكياً على الغرب ومحاكيه في آسيا وغيرها في كل ميادين حياتها. وإما فقيرة لا يجد قسم من شعبها ما يسكنه إلا بجوار القبور!. ما هي هذه الفروق التي تهمنا على المستوى العربي والإسلامي؟ لعل بعضاً من ملامحها يتضح في الجزء القادم من هذا المقال.