أشرت في مقال سابق الى المشاكل والعقبات التي واجهت محاولات اقامة حوار اسلامي - مسيحي وفي أحيان أخرى حوار مع الغرب، والسدود التي حالت دون عبوره الى طريق النجاح أو على الأقل الوصول الى نتائج مثمرة لمثل هذا الحوار الضروري الملح. وكما ذكرت فإن الأسباب كثيرة من بينها الوقوع في خطأ التعميم والمعاني السطحية للحوار والانطلاق من عموميات لا تتيح أي مجال لقطف الثمار أو وضع الحصان أمام العربة. وهناك من يؤكد ان هذا الحوار كان بمثابة حوار طرشان لأن أي طرف لم يحدد ثوابته ومنطلقاته وأهدافه المرجوة، بل ان هذا الحوار، واذا افترضنا انه حصل فعلاً فإنه كان حواراً من طرف واحد وبرغبة من الطرف العربي تحديداً لأن الأطراف الاسلامية الأخرى تعيش في واد آخر. اما الطرف الثاني المعني بالحوار، أي الغرب، أو الطرف المسيحي وأيضاً لو افترضنا جدلاً بأنه طرف واحد وليست أطراف عدة وافرقاء، فإنه غير مهتم وغير متحمس لمثل هذا الحوار بل انه لم يستوعب بعد أهميته ولم يدرك ان مفتاح أبواب مصالحه موجود في ثنايا الحوار مع العرب والمسلمين. بل ان هناك من يقول: اننا نشغل أنفسنا بموضوع محسوم لأن "الآخر" إما غير مبالٍ وغير ميال للحوار ولازالة الحواجز، أو انه عنصري يرفض الاعتراف بنا وبحضارتنا وبدورنا وبقيمنا وبوزننا، او انه منساق للجهات المعادية ويخاف من سطوتها أو متأثر بالحملات المعادية المغرضة. ولو افترضنا جدلاً ان هذه التحليلات موضوعية وواقعية، وان الآخر لا يقبل بنا، ولا يريدنا، ولا يرغب بالحوار معنا فإن من حقنا ان نتساءل هنا: لماذا نركض وراء البعيد وننسى القريب؟ ولماذا لا نبدأ بحوار عربي - عربي وحوار اسلامي - اسلامي من اجل الوصول الى صيغة، أو لبنة صلبة في بناء الموقف العربي والاسلامي المرهوب الجانب والمهاب حتى يفرض نفسه على الآخر فلا يجد مفراً ليس من الحوار فحسب، بل من الاعتراف والتفاهم وأخذنا في الاعتبار. الحوار العربي - العربي تحدثنا عنه طويلاً وقتلناه بحثاً ودرساً وتحليلاً، ولا حاجة لتكرار "الاسطوانة المشروخة" وتعداد أسباب الفرقة والتشرذم والضياع. ولهذا أردت ان أركز اليوم على الحوار الاسلامي - الاسلامي في شقيه الديني والدنيوي. في البداية يجب ان نعترف ان العرب قصروا كثيراً في تطبيع علاقاتهم مع الدول الاسلامية وفي التقرب من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في الوقت الذي تبدو فيه الدول والشعوب الاسلامية وكأنها تعيش في عالم آخر وتعزل نفسها عن قضايا الأمة التي تبدأ بالتضامن وتصل الى قضية القدس والمسجد الأقصى المبارك. صحيح ان منظمة مؤتمر العالم الاسلامي تجتمع دورياً وتعقد قمة فخمة كل 4 سنوات، وانها تتخذ مقررات وتوصيات مفيدة، ولكنها تبقى محصورة في الاطار الرسمي والاحتفالي والمعنوي، ومعلقة في الأبراج العاجية للقمة ولم تنزل الى الشارع لتكريس وحدة المسلمين وتعارفهم وتعايشهم بعد ان وحدهم الاسلام وفرقتهم السياسة. فعلى الصعيد الديني اعتقد ان الوقت حان لكي يدرك حكماء الأمة ان من غير المعقول ولا المقبول ان تستمر الخلافات المذهبية والطائفية وتتعمق يوماً بعد يوم، وانه لا بد من بدء حوار بناء للتقريب بين الطوائف وانهاء عصور الاختلاف وازالة أسبابها وأبعادها وخلفياتها وذيولها ووضع صيغة تتضمن نقاط الاتفاق طالما ان الأساس واحد وهو القرآن الكريم والسنة المطهرة. وبكل أسف فإنه ما من أحد في عالمنا الاسلامي والعربي يتحدث عن هذا الموضوع بمثل هذه الصراحة، ولا سيما في صفوف الطائفتين الكبريين أي: السنة والشيعة. ولا أكشف سراً اذا قلت ان المغفور له الملك فيصل بن عبدالعزيز الذي حمل لواء الدعوة للتضامن الاسلامي أدرك أهمية الوفاق وازالة أسباب الشقاق والنفاق فدعا الى حوار بناء لتحقيق هذا الهدف السامي وطالب رجال الدين المسلمين بتحمل هذه المسؤولية التاريخية التي تدفن تركة مئات السنين من الفتن التي لا مبرر لها. ولم يكتفِ الملك فيصل، رحمه الله، بهذه الدعوة بل أرفقها باجراءات عملية جريئة فتشكلت في عهده هيئات عدة مرشحة لحمل هذه الرسالة، مثل رابطة العالم الاسلامي، والمجمع الفقهي الاسلامي ثم في عام 1970 منظمة المؤتمر الاسلامي التي تأسست رداً على محاولة احراق المسجد الأقصى المبارك. كما شهدت الرياض وبيروت وطهران في عهد الشاه، لقاءات عدة بين رجال الدين المسلمين السنة والشيعة برعاية مباشرة من الملك فيصل الذي دعا الإمام موسى الصدر رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى الى السعودية مرات عدة، فدار حوار أسفر عن تشكيل لجنة مصغرة بدأت تعد الصيغة المثلى لتوحيد المسلمين. ولكن الرياح لم تجرِ كما تشتهي سفن دعاة الخير ورجاله المخلصين فتوقف هذا الحوار بعد اختفاء السيد الصدر في زيارته الشهيرة لليبيا، واغتيال الملك فيصل عام 1975 ومن يومها لم تشهد الساحة الاسلامية سوى دعوات فردية من قيادات عدة فاعلة مثل خادم الحرمين الشريفين والأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي عهد المملكة العربية السعودية الذي عاد أخيراً ليؤكد في قمة طهران الاسلامية الى طي صفحة الماضي والالتفات لبناء المستقبل والغد الأفضل للمسلمين جميعاً. كما صدرت دعوات مماثلة من الملك الحسن الثاني عاهل المغرب عن طريق الدروس الحسنية في شهر رمضان المبارك أو من خلال الحوار المستمر الذي يجري بين رجال دين ومفكرين من المغرب وايران ودول اسلامية عدة. ولكننا لا نستطيع ان نتفاءل بقرب اتمام هذه الخطوة التاريخية، رغم الايحاءات الايجابية التي صدرت من الرئيس الايراني محمد خاتمي أخيراً والاشارات البناءة التي تحمل الرغبة في وحدة المسلمين وحل خلافاتهم والتشديد على أهمية الحوار لحل الخلافات وازالة ما علق في أذهان الكثيرين من مخاوف بأن قيام الثورة الاسلامية في ايران قبل 18 سنة، ونشوب الحرب العراقية - الايرانية شكلا بداية مرحلة جديدة لشق الأمة واحداث شرخ هائل بين الشيعة والسنة يصعب ان يتم ردمه على مدى العقود المقبلة، خصوصاً ان دولاً عربية واسلامية عدة من أفغانستان وباكستان الى الخليج ولبنان بدأت في فترة من الفترات تعاني من انعكاسات هذين الحدثين على توازناتها الداخلية وسلمها الأهلي. فلماذا لا يأخذ العرب المبادرة في هذا المجال، كعادتهم منذ رفع راية الاسلام خفاقة في العالم، ويعلنوا مبادرة التفاهم والتعايش والتضامن والتكافل بين أبناء الأمة الاسلامية؟ ولماذا لا ينطلق الحوار من القاعدة الى القمة في كل ديار المسلمين لشرح أهمية تحقيق هذا الهدف الذي يجمع مصالح قوة عظمى تمثل أكثر من بليون و200 مليون مسلم في العالم؟ قد تبدو الدعوة ضبابية وشاعرية صعبة التنفيذ، ولكن من الذي نادى بالشعارات والعواطف فقط؟ خصوصاً وأن هناك هرولة نحو الحوار مع الغرب، والحوار الاسلامي - المسيحي رغم فشل المحاولات الأولية؟ فلماذا لا ننطلق نحو حوار مع أهل القربى، والأقربون أولى بالموضوع على أسس عقلانية ومنطقية بعد اهمال استمر عقوداً كاملة. وهنا لا أتحدث عن الأمور الدينية والمذهبية التي أشرت اليها في بداية المقال، بل أركز على خطوات عملية وعلاقات انسانية خاصة وان العالم تحول الى قرية صغيرة في عصر الأقمار الصناعية وثورة التكنولوجيا والبث عبر الأقمار الصناعية والعولمة والإنترنت. وقد سبق ان تحدثت في كتاب "الاعلام والاسلام" عن هذه النقطة بالذات منتقداً "التقصير والقصور" في هذا المجال؟ فإذا كان من الصعب أو المستحيل الوصول الى الرأي العام الأجنبي فإن من الممكن والسهل الوصول الى الرأي العام الاسلامي المهيأ لتلقي الدعوات الخيرة عن طريق التبادل الثقافي والبرامجي والاعلامي والتعاون في مجالات الانتاج وتبادل البرامج التي تحث على التعاون والتقارب بين المسلمين والتضامن في قضاياهم وهمومهم وشجونهم مع التركيز على المقدسات الاسلامية في فلسطين ولا سيما في القدس الشريف والأهمية الدينية للمسجد الأقصى المبارك بوصفه أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. وهناك جانب آخر مهمل من قبل العرب، ولم يعيروه أي اهتمامهم في مجال كسب المناصرين في دول العالم ولا سيما في الغرب ويتعلق بالوزن الكبير للجاليات الاسلامية التي انخرطت في مجتمعات الاغتراب والهجرة ويمكن ان تلعب دوراً كبيراً في الدفاع عن القضايا العربية والاسلامية في بريطانيا لوحدها حوالى 4 ملايين مسلم. فلماذا همش دور هذه الجاليات، ولم تحاول الدول والمؤسسات العربية فتح باب الحوار مع فعالياتها ومؤسساتها وجمعياتها؟ ولماذا لا يتوجه الاعلام العربي ولا سيما الفضائي منه لهذه الجاليات ويقدم لها برامج تحقق رغباتها وبالتالي تنجح في بناء جسور من التواصل بينها وبين قضايا الأمة. لقد نجح اليهود في اقامة مؤسسات فاعلة ومؤثرة في شتى أنحاء العالم، وربطها بمصالح اسرائيل، بحيث تؤمن لها الامداد البشري والسياسي والمالي وتقيم شبكات اللوبي ومراكز القوى للتأثير في القرار السياسي في دول الغرب… والشرق؟ فلماذ فشل العرب والمسلمون في هذا المجال مع ان عدد جالياتهم في الولاياتالمتحدة وأوروبا وأميركا اللاتينية يفوق أضعافاً مضاعفة نسبة اليهود ليس من حيث العدد فحسب بل من حيث النوعية أيضاً بعد ان تمكن أبناء الجيل الثاني والثالث من الوصول الى مراكز متقدمة في المؤسسات السياسية والرسمية والعلمية. انها أسئلة مطروحة في عالم متغير، تحتاج الى أجوبة ونقاش وحوار، بعد الاجابة على السؤال الكبير والعنوان الرئيسي وهو: ماذا عن الحوار الاسلامي - الاسلامي؟