تعاني دول جنوب شرق آسيا - أو ما اصطلح على تسميته "النمور الآسيوية" - أزمة اقتصادية ومالية خانقة منذ نحو تسعة أشهر. ومما لا شك فيه أن أزمة طاحنة بهذا المستوى، ستلقي بظلالها على النمو في اقتصادات تلك الدول ككل، اذ يقدر بعض الدوائر الاقتصادية تقلص معدل النمو السنوي فيها الى 2.5 في المئة سنة 1998. ويتوقع ان يمتد الأثر السلبي للأزمة الآسيوية الى الاقتصاد العالمي، الذي سيتقلص الى معدل نموه السنوي بمقدار نصف نقطة مئوية. وقد يزداد الأمر سوءاً إذا امتدت تلك الأزمة الى الصينوالهند اللتين لم تتأثرا بها بعد. وبطبيعة الحال فإن أزمات تلك المنطقة قد تشكل فوائد لاقتصادات بعض الدول الغربية، إذ يرجح أن تؤدي الى تخفيف الضغوط التضخمية على الاقتصادات النشطة الولاياتالمتحدة وبريطانيا تحديداً. وما يهمنا هنا بيان الآثار المتوقعة لهذه الأزمة على صناعة البتروكيماويات الخليجية. وقبل التطرق الى هذه الجزئية، من المهم الاشارة الى أن هذه الصناعة، تشكل جزءاً من صناعة البتروكيماويات العالمية، وبالتالي فإن ما تتأثر به الأخيرة نتيجة هذه الأزمة أو غيرها - سواء سلباً أم ايجاباً - سينسحب على صناعة البتروكيماويات الخليجية. ووفقاً لذلك سنستعرض "موجزاً" للآثار المتوقعة للأزمة الاقتصادية الآسيوية على صناعة البتروكيماويات العالمية، ومن ثم صناعة البتروكيماويات الآسيوية، وانتهاء بصناعة البتروكيماويات الخليجية. الانعكاسات العالمية تعاني صناعة البتروكيماويات العالمية - منذ منتصف هذا العقد - من فائض في طاقات الانتاج، وطلب متراخ في الأسواق العالمية. فعلى سبيل المثال، تجاوز اجمالي الطاقات الانتاجية العالمية نهاية عام 1996 نحو 380 مليون طن، في حين بلغ مجمل الطلب العالمي على البتروكيماويات أكثر بقليل من 300 مليون طن. بمعنى آخر فإن معدلات التشغيل للوحدات الانتاجية - على مستوى العالم - كانت في تلك السنة بحدود 80 في المئة. في ضوء هذه المعطيات يتوقع ان يكون للأزمة الاقتصادية الآسيوية تأثير متوازن في صناعة البتروكيماويات العالمية. فمن جهة سيتقلص الطلب بشكل كبير على البتروكيماويات في الدول الآسيوية وضمنها الصين، والذي بلغ نحو 20 في المئة من اجمالي الطلب العالمي عام 1996، ما سينتج عنه المزيد من المصاعب لصناعة البتروكيماويات العالمية خلال السنتين المقبلتين. وفي المقابل، سيكون لهذه الأزمة جانب ايجابي يتمثل في تقلص مستويات الانتاج الآسيوية ما يساعد في تخفيف أثر حالة طاقات الانتاج الفائضة عن الطلب العالمي. الانعكاسات الآسيوية اما الانعكاسات السلبية للأزمة على صناعة البتروكيماويات الآسيوية، فتتمثل في ما يأتي: 1- ضعف الطلب المحلي كان الطلب على البتروكيماويات في دول آسيا قبل الأزمة يتجاوز معدل اجمالي الناتج المحلي بمقدار مرة ونصف. إذ بلغ معدل النمو السنوي لاجمالي الناتج المحلي في تلك الدول نحو 9 في المئة، بين 1990 و1995، في مقابل نمو في الطلب السنوي على البتروكيماويات يزيد على 14 في المئة. وكانت التوقعات تشير قبل حدوث الأزمة الحالية الى أن الاستهلاك الآسيوي من البتروكيماويات، سيواصل نموه ليصل - نهاية القرن الجاري - الى 25 في المئة من اجمالي الاستهلاك العالمي. لكن مما لا شك فيه أن تباطؤ النمو الاقتصادي في دول آسيا سيؤدي الى انخفاض النمو في الطلب في تلك الدول. وفي المدى القصير سيتمثل أثر هذه الأزمة في ضعف الطلب الآسيوي على البتروكيماويات، ومن المؤكد ان حدوث انخفاض في نمو الطلب السنوي في الدول الآسيوية الى معدلات أقل بكثير مما كان متوقعاً قبل الأزمة الحالية، وربما تصل الى معدلات سالبة خلال هذه السنة. وعلى رغم ذلك، تشير بعض الدراسات الى أن الطلب الآسيوي على البتروكيماويات سيعود الى الارتفاع خلال السنوات الثلاث المقبلة. ولعل أحد أهم الأسباب وراء الانخفاض المتوقع للطلب الآسيوي على البتروكيماويات، يعود الى خسارة العملات الآسيوية المحلية أكثر من 50 في المئة من قيمتها أمام الدولار، ما سينتج عنه تقلص حجم الواردات الآسيوية التي تدخل ضمنها البتروكيماويات، نتيجة تأجيل الكثير من المشاريع الانشائية والصناعية الضخمة. في المقابل، سيؤدي ضعف الطلب على البتروكيماويات في الأسواق الآسيوية، الى توليد حافز قوي لدى المنتجين الآسيويين للبحث عن أسواق تصدير خارجية، سببه قروضهم المصرفية الخارجية التي ينبغي تسديدها بالدولار لمؤسسات التمويل الدولية. وسيساعد المنتجين الآسيويين في دخول الأسواق الخارجية التراجع الكبير في أسعار سلعهم ومنتجاتهم، نتيجة انخفاض أسعار العملات الآسيوية. 2- تأجيل مشاريع البتروكيماويات كانت الدول الآسيوية تخطط قبل الأزمة لاقامة 20 مجمعاً لانتاج البتروكيماويات في كوريا الجنوبية، وتايوان ودول مجموعة "آسيان"، لتلبية الطلب المحلي لتلك الاقتصادات السريعة النمو. وأشارت التوقعات الى ان أسعار البتروكيماويات العالمية ستنخفض إذا ما أبصرت تلك المشاريع النور. وكان مرجحاً ان تكتمل 12 من هذه المجمعات في موعدها المقرر مطلع السنة 2000 مضيفة نحو سبعة ملايين طن من البتروكيماويات، الى مستوى الانتاج العالمي الحالي. لكنه من المؤكد الآن ان كثيراً من هذه المشاريع سيؤجل، نتيجة للصعوبات التي سيواجهها منتجو البتروكيماويات الآسيويون في استقطاب استثمارات خارجية من مؤسسات مصرفية عالمية. ولا شك في أن تأخر توسيع المشاريع أو تأجيل المشاريع الجديدة سيزيد قدرة المنتجين الخليجيين التنافسية. ويذكر ان الطاقات الانتاجية لصناعة البتروكيماويات الآسيوية لا تسد الطلب المحلي، إذ مثلت الواردات الآسيوية نحو 20 في المئة من مجمل الاستهلاك المحلي عام 1996، واستوردت دول جنوب شرق آسيا في العام نفسه نحو ستة ملايين طن من البتروكيماويات. وكانت المؤشرات ترجح تقلص الواردات الآسيوية بحلول سنة 2000، الى نحو مليوني طن نتيجة تشغيل المجمعات البتروكيماوية التي كان مخططاً لاقامتها. ويشار في هذا السياق الى أن طبيعة التنافس القوية في تجارة التصدير العالمية، ستلعب دوراً اضافياً في تقليص هامش الأرباح لدى المنتجين الآسيويين نتيجة الصعوبات التي يواجهها معظمهم في الحصول على خطابات اعتماد من المصارف الدولية التي يشترطها منتجو المواد الخام. وفي ضوء هذه الضغوط يصبح من المؤكد أن يلجأ منتجو البتروكيماويات الآسيويون الى إعادة هيكلة الصناعة، بما يجعلها قادرة على تجاوز آثار تلك الأزمة. معلوم ان دول مجلس التعاون الخليجي تبنت اقتصاد السوق المفتوح، وهي لذلك تستفيد من نمو الاقتصاد العالمي، وتتأثر ببطئه. ونظراً الى كون دول آسيا من الزبائن المهمين للنفط الخام والمنتجات النفطية والبتروكيماوية الخليجية، فإن دول المجلس الست ستتأثر حتماً بالتباطؤ الاقتصادي في آسيا. وعلى رغم ذلك - وفي ضوء القراءة المتأنية للمؤشرات آنفة الذكر - من الطبيعي أن يتبادر الى الذهن تساؤل عن انعكاسات هذه الأزمة على التوسعات الجارية في المجمعات البتروكيماوية، القائمة في دول المجلس أو المجمعات الجديدة المخطط لاقامتها في الوقت الحاضر، أو في المستقبل المنظور. وللاجابة عن هذا التساؤل، نذكر أن هذه الأزمة لن تبطئ من وتيرة تنفيذ الخطط الطموحة، بالتوسع في صناعة البتروكيماويات التي تشكل حجر الزاوية في الاستراتيجية التي تبنتها دول المجلس لتنويع مصادر الدخل، وتعظيم القيمة المضافة المتحققة من تصنيع الثروة الهيدروكاربونية التي حباها الله بها. ومن هذا المنطلق فإن أزمة من هذا النوع لن تكون عائقاً في وجه تنفيذ تلك المشاريع، لأن صناعة البتروكيماويات الخليجية أقيمت - أساساً - وفقاً لرؤية بعيدة المدى، لتطوير القاعدة الصناعية في دول المجلس. وليس من المبالغة توقع فوائد للاقتصادات الخليجية قد تنشأ نتيجة للأزمة الآسيوية تتمثل بكون دول مجلس التعاون ستصبح في موقع أفضل لاجتذاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة في قطاع صناعة البتروكيماويات، مقارنة بدول آسيا. لكن ماذا عن أثر هذه الأزمة على الصادرات الخليجية الى الدول الآسيوية؟ للاجابة عن هذا السؤال نذكر ان صناعة البتروكيماويات الخليجية ذات طابع تصديري، اذ تجاوز حجم ما تم تصديره من المنتجات البتروكيماوية الخليجية عام 1996 ال 80 في المئة من مجمل الانتاج الذي تجاوز 16 مليون طن. وشكلت الصادرات البتروكيماوية في تلك السنة نحو 38.5 في المئة من اجمالي الصادرات غير النفطية. وبلغت حصة الأسواق الآسيوية منها نحو 60 في المئة من اجمالي صادرات البتروكيماويات الخليجية. وقبيل الأزمة الراهنة كانت تلك الحصة مرشحة للانخفاض في ضوء خطط الدول الآسيوية المعلنة لاقامة 20 مجمعاً لانتاج البتروكيماويات لتلبية الطلب المحلي، وكانت التوقعات تشير الى أن أسعار البتروكيماويات - على مستوى العالم - ستنخفض إذا ما نفذت كل تلك المشاريع. وإذا ما علمنا أن الغالبية العظمى من تلك المجمعات تختص بانتاج الاثيلين ومشتقاته، التي تشكل الجزء الأعظم من الصادرات البتروكيماوية الخليجية، فإن تنفيذ تلك المشاريع كان سيؤدي الى تقليص كبير في صادرات البتروكيماويات الخليجية الى الدول الآسيوية. لكن في ضوء المصاعب التي تواجهها الاقتصادات الآسيوية، فإن الغالبية العظمى من تلك المشاريع لن تكتمل في موعدها المقرر للأسباب المذكورة اعلاه. في ضوء ذلك، تشير التوقعات الحالية الى أن الأسواق الآسيوية ستبقى من الأسواق المهمة للبتروكيماويات الخليجية، وستكون الكلمة الفيصل في انسياب تجارة البتروكيماويات هي القدرة التنافسية كلفة الانتاج المنخفضة للبتروكيماويات واصلة الى الأسواق المستهدفة، والتي على المنتجين الخليجيين العمل الدؤوب على تدعيمها في المستقبل - من خلال خفض كلفة التشغيل، وتطوير الانتاجية. من جهة أخرى، وإذا ما أخذنا صغر حجم السوق الخليجية في الاعتبار، فإن المشاريع الجديدة أو توسعات المشاريع القائمة في دول المجلس ستحتم العمل على زيادة الصادرات الخليجية في المستقبل. وفي هذه الحالة سيكون من المهم أن يبحث المنتجون الخليجيون مستقبلاً عن أسواق أخرى غير الأسواق الآسيوية حتى بعد خروجها من أزمتها الحالية، ولعل الأقرب للمنطقة هي أسواق الهند وأوروبا. فالهند سوق واعدة تنمو فيها الصناعات البتروكيماوية اللاحقة لتلبية الطلب المحلي المتنامي. وتشير التقديرات الرسمية الى أن الهند ستحتاج الى استيراد ما مجموعه خمسة ملايين طن من البتروكيماويات الأساسية سنة 2000. وبالطبع فإن قرب الهند من المنطقة يعتبر ميزة مضافة الى الميزة النسبية التي يتمتع بها منتجو البتروكيماويات الخليجيون. أما في ما يتعلق بأوروبا، فقد شكلت حصة الأسواق الأوروبية عام 1996 نحو 10 في المئة من اجمالي صادرات البتروكيماويات الخليجية. وهذه الحصة مرشحة للنمو في المستقبل القريب نظراً لتقادم الوحدات الانتاجية العاملة في أوروبا وصغر طاقاتها الانتاجية ما يجعل كلفة تشغيلها عالية وبالتالي غير مجدية اقتصادياً. وعلى هذا الأساس فمن المتوقع - على سبيل المثال - ان تتحول أوروبا من مصدر الى مشتقات الاثيلين في الوقت الحاضر الى مستورد لها بحلول سنة 2005، ويتوقع أن تستورد في حينه نحو 750 ألف طن من تلك المنتجات. إن الأزمة الطاحنة - التي لا زالت تعصف بالأسواق الآسيوية - ستزيد من الضغوط على صناعة البتروكيماويات العالمية، التي تعاني - أساساً - من ضغط مزدوج مرده: زيادة الطاقات الانتاجية الفائضة، وضعف الطلب العالمي. ولكن على رغم ذلك، وفي ضوء القدرة التنافسية العالية التي تتمتع بها صناعة البتروكيماويات الخليجية، قد يكون من السابق لاوانه توقع تأثيرات سلبية على حركة النمو التصاعدي للصناعة البتروكيماوية الخليجية، ومن المؤكد ان هذه الصناعة في موقع قوي يؤهلها لمجابهة تلك العاصفة أو أي عاصفة مستقبلية.