القاسم المشترك الظاهري للتقنية والعولمة وما بعد الحداثة، هو انها تطَلق، عربيا، لنعت العالم الذي نعيشه: فتارة ينعت بأنه عصر التقنية، واخرى بانه "عصر ما بعد الحداثة، وتارة بأنه عصر العولمة، فهل تعني هذه النعوت الشيء ذاته، ام انها تختلف؟ يمكننا ان نجيب بتقصي المعاني "الحقيقية" لهذه المفاهيم والمقارنة بينها. ولكن يلزمنا ان نرصدها في كيفية تداولها عسى ان نتبين مدى تطابقها او اختلافها. المعنى الشائع والمقبول لمفهوم التقنية عندنا يتحدد بخاصيتين اساسيتين: فالتقنية، في التداول العربي، تقابل العلم كما تقابل الممارسة النظرية، والتطبيق والمعرفة ثم انها شيء محايد. وهي ليست خيراً في ذاته ولا شراً في ذاته. انها مجرد وسيلة تتخذ معناها من التوظيف الذي توظف به. وعليه، فعندما يتحدث العربي عن التقنية فهو لا ينعت عصراً ولا يحدد وجوداً، ما دامت التقنية نفسها قد تتخذ هذا المعنى هنا، وتتخذ عكسه هناك، وذلك بحسب ما يعطى لها من توظيفات. اما عندما يتحدث عما بعد الحداثة فهو يقصد عصراً من العصور، لكن ليس بالمعنى الذي يحدده فيلسوف كهايدغر عندما يقول ان العصر هو الكيفية التي تتحدد بها الحقيقة، ولكن بالمعنى الزمني الكرونولوجي، "ما بعد الحداثة" في التداول العربي الشائع هي حقبة تلت حقبة مضت اسمها "الحداثة". وهي حقبة لا تعنينا كثيراً لأنها تخص مجتمعات تجاوزت "الحداثة" لتنتقل الى ما بعدها. اما العولمة، فان اللغة العربية تتحدث عنها في نتائجها، اي من حيث هي مرحلة اقتصادية ادت الى احتكار شركات محدودة للرأسمال العالمي والتي تحكم تلك الشركات بقدر العالم، وما ترتب عن ذلك من انهيار للحدود السياسية والثقافية والمعلوماتية. لا رابطة تكاد تربط هذه المفهومات الثلاثة فيما بينها في التداول العربي. او قل اننا امام نعوت ثلاثة، كل منها يبرز خاصية من خصائص العصر، او جانباً من جوانبه. فهل نستطيع ان نستخلص الامر ذاته ان نحن قارنا بين استعمال هذه المفهومات في السياق الغربي؟ الحقيقة الاولى بهذا الصدد ان هذه المفهومات ليست مجرد صفات يتصف بها العصر وانما "كيفيات وجود"، او كما يقول احد المفكرين الغربيين "انماط لتجلي الموجود". فالتقنية ليست تطبيقاً للمعرفة وانما الوجود وقد اتخذ صبغة رياضية. اما "ما بعد الحداثة" فلا نجد لها المجد الكبير نفسه في الخطاب الغربي، وأغلب المفكرين الغربيين يتأففون من استعمالها، وحتى عندما يستخدمونها فليس للدلالة على حقبة زمانية ومرحلة تاريخية، وانما للالحاح على المعنى الانفصالي الذي يطبع الحداثة التي ما تفتأ تتجاوز نفسها. "ما بعد" الحداثة اذن هو كون الحداثة دائماً "ما بعد". وعن العولمة نتساءل: ألا يتعلق الامر في النهاية باستفحال ما سبق لهايدغر ان جعله الميزة الاساسية لعصر التقنية من حيث انها "غياب للاختلاف"، وبما دعاه ادورنو "العالم كجهاز اداري" يُسيّر ويُساس ويدبر مثلما تسير كل ادارة وفق تصاميم تغيب فيها الحدود وتذوب القوميات.