«التشيع» ليس همنا وفكرنا الإسلامي بحاجة إلى التجديد سؤال التقدم والتخلف سوف يتغير و علينا جعله السؤال الذي ننشغل به على الأسئلة الأخرى. في هذه المرحلة ينبغي أن نتجه إلى العناوين التي تبرز الجوامع وليست التي تبرز التمايز. لا شك أن أزمة الفكر الإسلامي المعاصر وتشعبه بين الحداثة والاجتهاد وكذا مفهوم الاجتهاد وتطبيقاته، ومتطلبات نجاح حوارنا مع الغرب، وسبل التقدم ومن أين يبدأ؟ كل ذلك من الموضوعات الهامة والملحة في عصرنا الحاضر، ولا شك أيضا أن تلك النقاط تحديات عاشتها أمتنا العربية والإسلامية عقودا من الزمن وما زالت تعيشها، وربما ستظل عليها ردحا من الزمن. ففي هذا الحوار يطرح زكي الميلاد جوانب من تصوره لاختراق هذه التحديات ومحاولة لفك بعض شفراتها والتباساتها.. فيما يلي نص الحوار: الإسلام والحداثة ذكرت في إحدى مقالاتك وعنوانها «هل توجد حداثة إسلامية؟» أن مفهوم الحداثة الذي ابتكره الغرب قد عبرت عنه كل التجارب الحضارية التي مرت على التاريخ الإنساني، من حيث مضمونه وجوهره، برأيك هل يمكن الوصول لرؤية فكرية موحدة بشأن الحداثة تصلح لأن تكون أرضية مشتركة للتيارات المتنازعة تمهد للنهوض الحضاري للأمة؟ هذه الفكرة التي شرحتها كانت في دراسة نشرت سنة 2000م، بعنوان (الفكر الإسلامي المعاصر بين الحداثة والاجتهاد)، توصل إليها لاحقا الدكتور طه عبد الرحمن في كتابه (روح الحداثة.. المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية) الصادر سنة 2005م، وعبر عنها بقوله: (ليست روح الحداثة كما غلب على الأذهان من صنع المجتمع الغربي الخاص، حتى كأنه أنشأها من عدم، وإنما هي من صنع المجتمع الإنساني في مختلف أطواره، إذ أن أسبابها تمتد بعيدا في التاريخ الإنساني الطويل، ثم لا يبعد أن تكون مبادئ هذه الروح أو بعضها قد تحققت في مجتمعات ماضية بوجوه تختلف عن وجوه تحققها في المجتمع الغربي الحاضر). وبالتالي فليست روح الحداثة في نظر الدكتور طه عبد الرحمن ملكا لأمة بعينها، غربية كانت أو شرقية، وإنما هي ملك لكل أمة متحضرة، ومن جانب آخر،فإن الحداثة هي حداثات، ولكل أمة حداثتها بحسب مرحلتها التاريخية، وطبيعة حاجتها للتقدم والعمران، وهذا الرأي لسنا في الشرق، أو في المجال الإسلامي من يقول به فحسب، فهناك في الغرب من يقول به أيضا، هذا يعني ضرورة الكشف عن الحداثة التي نحن بحاجة إليها، لتلبية شروط ومقتضيات التقدم والعمران، فهذه القضية هي التي ينبغي أن تشكل محور نقاش للتيارات الفكرية في الأمة بحثا عن أرضية مشتركة تمهد للنهوض الحضاري في الأمة.. وما نقصده بالحداثة هنا هي تلك الرؤية الفكرية الفعالة المعبرة عن فلسفة التقدم والعمران، المستندة على المرجعية الإسلامية، والمنفتحة على الفكر الإنساني الخلاق، التي تنير درب الأمة نحو النهوض الحضاري. الجهد العلمي مفهوم الاجتهاد ارتبط تاريخيا في المنظومة الإسلامية بجوانب معرفية محددة شرعية في غالبها، وقد يكون هناك استثناء كابن خلدون مثلا، ألا ترى أننا في حاجة إلى فك هذا الارتباط حتى يكون مفهوم الاجتهاد حركة حداثية إسلامية شاملة وواعية؟ وكيف يمكن ذلك؟ لا أرى أننا بحاجة إلى فك هذا الارتباط، وإنما النظر إلى مفهوم الاجتهاد من زاويتين، زاوية المعنى الخاص، وزاوية المعنى العام. في المعنى الخاص يتحدد مفهوم الاجتهاد بالفقه وعلوم الشريعة بالطريقة التي تعارف عليها علماء الفقه والأصول قديما وحديثا. وبالمعنى العام يتحدد مفهوم الاجتهاد بمنهج التفكير الإسلامي الذي يتصل به العالم والمفكر والخبير والمثقف في المجال الإسلامي، هذا هو الجانب الحيوي والغائب عن مفهوم الاجتهاد. لقد وجدت بعد النظر في عناصر ودلالات ومكونات مفهوم الاجتهاد في تجربة المسلمين الحضارية، أنه المفهوم الذي يعادل ويقارب مفهوم الحداثة في الغرب، كما يعادل مفهوم العمران مفهوم التقدم، فمن دلالات ومكونات مفهوم الاجتهاد إعطاء العقل أقصى درجات الفاعلية باستفراغ الوسع، وبذل أرفع مستويات الجهد الفكري والعلمي والبحثي، والحداثة في الغرب بدأت من مقولة الانتصار للعقل. ومن دلالات مفهوم الاجتهاد أيضا، التحريض المستمر والدؤوب على البحث العلمي والمعرفي، لأن الاجتهاد هو دعوة لمضاعفة الجهد العلمي بلا انقطاع أو توقف، وإنما بتواصل وتراكم. ومن دلالاته كذلك، امتلاك القدرة على مواكبة تجدد الحياة، ومتغيرات العصر، وتحولات الزمن، والاستجابة لشروط ومقتضيات التقدم والتمدن. ومن دلالاته، مقاومة عناصر الجمود، والتفكير السطحي، والنظر القشري، وكل أشكال الاعوجاج والشلل الفكري، فهذه الحالات وما يماثلها هي من أشد ما يناقض ويعارض مفهوم الاجتهاد. لهذا فإن مفهوم الاجتهاد يعد أحد أهم المفاهيم الذي ابتكرته المنظومة الإسلامية، وانفردت به الحضارة الإسلامية، وهو اليوم بحاجة إلى حفريات معرفية، وإلى إعادة اعتبار وإحياء من جديد، لينهض بوظيفته النقدية والتأصيلية والإبداعية، وبالتالي التأسيس لحداثة إسلامية تنهض بالأمة حضاريا في هذا العصر. العلاقة مع الغرب في علاقتنا مع الغرب.. هل يستقى منها الآلات والتقنيات فقط دون الأفكار، بسبب أنها نبتت في بيئة غير بيئتنا، أم أن هذا ينافي التعارف الحضاري (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)؟ في هذا الشأن هناك نقاش يرجع إلى النصف الأول من القرن العشرين، حصل في المجالين الإسلامي والأوروبي، حول هل يمكن اكتساب الآلات والتقنيات من الغرب دون الأفكار؟ وهل هذه الآلات والتقنيات تتجرد من الأفكار المنتسبة إلى محيطها وبيئتها؟ أو هل يكفي اكتساب الآلات والتقنيات من دون الأفكار؟ أو ليس الأفكار هي أهم وأكثر قيمة من الآلات والتقنيات؟ أمام هذه التساؤلات هناك العديد من وجهات النظر، فهناك من يرى إمكانية الفصل والعزل بين الأفكار والآلات، وبالتالي يمكن تجنب الأفكار في حالة الخشية منها، وتحصيل الآلات من دون خوف أو ضرر، وهناك من يرى أن تحصيل الآلات سيمهد الأرضية إلى وصول الأفكار، إما لأن هذه الآلات لا تتجرد كليا من الأفكار، وإما لأن هذه الآلات سوف تخلق جاذبية للأفكار التي أبدعت مثل هذه المنجزات، وهناك من يرى أن الأفكار هي أهم من الآلات، لأن بهذه الأفكار يمكن إبداع مثل هذه الآلات. إلى جانب وجهات نظر أخرى. والذي أراه لا خشية من تحصيل الآلات والتقنيات التي هي من منجزات العلم الإنساني، لكن لا يمكن أن نرفض الأفكار بشكل مطلق، فهناك الأفكار التي هي من إبداعات العقل الإنساني، ويصلح أن يكون العقل دليلا وحجة في تحصيلها، فهي تندرج تحت عنوان الحكمة التي هي ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، وتندرج أيضا في العنوان العام بما حث عليه القرآن الكريم في قوله تعالى (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)، هذا يتطلب تكوين المعرفة بهذه الأفكار، من خلال العقل النقدي القادر على فحص هذه الأفكار وتحليلها وتفكيكها، لمعرفة ما يؤخذ منها، وما لا يؤخذ، وما يحتاج إلى نقد ومطارحة. مهمة الاستغراب الجميع يطالب ويدعو للحوار مع الغرب، ما هي الأسباب الذاتية والموضوعية التي يجب علينا اتباعها أولا مع الغرب لضمان نجاح حوارنا معه؟ الحوار مع الغرب ستظل مهمة مستمرة لن يتوقف الحديث عنها، والحاجة إليها على المدى البعيد، لأنه يرث اليوم تراث الإنسانية الطويل في التمدن والتقدم، هذه الحقيقة ينبغي أن تكون واضحة لدينا عند التفكير في هذه القضية، وبخصوص الشروط الذاتية، فإن في مقدمة الشروط التي تجب علينا لضمان نجاح حوارنا مع الغرب، أن نخطو خطوات جادة نحو التقدم، فكلما تقدمنا هيأنا سبل النجاح لهذا الحوار الحضاري الكبير، وكلما فشلنا في طريق التقدم تعثرت خطواتنا إليه، وذلك لأن الحوار مع طرف متقدم بحاجة إلى طرف متقدم، والحوار مع أمة متقدمة بحاجة إلى أمة متقدمة، ليكون الحوار متكافئا وفعالا. وفي غير هذه الصورة فإن الطرف المتقدم لن يكون جادا في الانخراط لحوار مع طرف أقل تقدما أو فاقدا للتقدم، وفي الجهة الأخرى فإن الطرف الأقل تقدما لن يكون متكافئا في الحوار مع طرف يفوقه تقدما، أما بشأن الشروط الموضوعية، ففي مقدمة هذه الشروط، تكوين المعرفة بالغرب ليس سياسيا فحسب، وإنما فلسفيا في الدرجة الأولى، هذا ما ينقصنا فعليا، وما نعرفه نحن عن أنفسنا، وما يعرفه الآخرون عنا أيضا، غربيون وغير غربيين، والغرب من جهته قام من قبل بمهمة الاستشراق، وأنجز هذه المهمة التي استمرت عدة قرون في تكوين المعرفة بالشرق، أما نحن فلم ننهض حتى اليوم بمهمة الاستغراب لتكوين المعرفة بالغرب. التقدم والتخلف سؤال التقدم والتخلف متشعب ومحير في عالمنا العربي الذي ما زال في دائرة الانبهار ومحاولة تلمس الطريق الصحيح، برأيك الخطوة الأولى التي ينبغي التقدم إليها، ولا تحتمل التأخير أين ينبغي أن تكون؟ كنت قد خصصت كتابا يتمحور حول سؤال التقدم والتخلف في المجال الإسلامي، وهو كتاب «المسألة الحضارية.. كيف نبتكر مستقبلنا في عالم متغير؟»، صدر في طبعته الأولى سنة 1998م، وفي طبعته الثانية 2008م. في هذا الكتاب أشرت إلى أن سؤال التقدم والتخلف سوف يتغير ويختلف، ويزداد تعقيدا في ظل ثورة المعلومات التي فتحت أمام العالم أوسع الطرق السريعة للوصول إلى المعارف، وفي ظل زحف تيار العولمة الذي أحدث تغيرا جذريا في رؤية الناس إلى العالم، وفي ظل تداول مقولات ونظريات مستفزة بشدة مثل مقولة نهاية التاريخ، ومقولة صدام الحضارات، ومقولة البحث عن عدو جديد وغيرها، وفي ظل ما يشهده العالم من تحولات وتغيرات متسارعة ومتعاظمة على مستوى المجالات كافة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والمعلوماتية والتكنولوجية وغيرها، الأمر الذي يتطلب إعادة النظر من جديد في سؤال التقدم والتخلف، وتعميق المعرفة بهذا السؤال، وجعله السؤال الذي ننشغل به على كافة الأسئلة الأخرى. أما الخطوة الأولى التي ينبغي التقدم نحوها فهي بلورة الرؤية الحضارية الجامعة للأمة، التي تخرجها من التيه إلى الرشاد، ومن الظلمات إلى النور، ومن الانقسام إلى التضامن، ومن الإحساس باليأس إلى الإحساس بالأمل، الرؤية التي يتوقف عليها مصير الأمة ومستقبلها هذه هي المهمة العاجلة اليوم. الفكر الشيعي هل ترى أن الفكر الشيعي بحاجة إلى تجديد وإعادة نظر في بعض مسلماته، فإن وجدت حاجة إلى مراجعات وتجديد لهذا الفكر.. ما هي أبرز جوانب هذا التجديد؟ الحاجة إلى التجديد ليست هي حاجة الفكر الشيعي، وإنما هي حاجة الفكر الإسلامي بصورة عامة، والتجديد الذي يحصل على مستوى الفكر الإسلامي ينعكس ويتجلى بصورة طبيعية في جميع الخطابات والمنظومات التي تنضوي في إطار المرجعية الإسلامية. نحن في هذه المرحلة بالذات، ينبغي أن نتجه إلى العناوين العامة وليس إلى العناوين الخاصة، العناوين التي تبرز الجوامع، وليس العناوين التي تبرز التمايز، العناوين التي تكون ناظرة إلى الأمة بكليتها، وليس العناوين التي تكون ناظرة إلى فريق في الأمة فحسب، في إطار الفكر الإسلامي العام يمكن القول أنه لأول مرة في تاريخ الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، يحدث هذا المستوى من التراكم الكمي في الحديث عن تجديد الفكر الإسلامي، القضية التي كانت وما زالت موضوعا للعديد من الندوات والمؤتمرات الفكرية والإسلامية، الرسمية والأهلية، المحلية والدولية، وموضوعا كذلك للعديد من المجلات والدوريات الفكرية والإسلامية، وموضوعا أيضا للعديد من المؤلفات والكتابات التي صدرت وما زالت تصدر على امتداد الساحة الإسلامية. الأمر الذي يكشف عن التوافق بين النخب الإسلامية من علماء ومفكرين وخبراء على الحاجة إلى هذه القضية. أما أبرز جوانب التجديد في الفكر الإسلامي، فتأتي في الطليعة قضية الانقسامات الحاصلة اليوم بين المسلمين على مستوى المذاهب بشكل خاص، إلى جانب الاهتمام بتجديد وتطوير الرؤية إلى العالم الذي يتغير من حولنا بصورة مذهلة، والعناية بالمسألة الحضارية الناظرة مشكلات التراجع من جهة، ومقتضيات التقدم والعمران من جهة أخرى، وتركيز النظر نحو فقه المستقبل.