يميز فوكو بين مفهومين عن الحداثة. أو لنقل بين موقفين: موقف كرونولوجي ينظر الى الحداثة كحقبة تاريخية. ثم موقف، لا أقول بنيوياً، وانما أفضل ان انعته بالموقف الاستراتيجي. وهو الذي يعتبر "ان موقف الحداثة، منذ نشأته، قد وجد نفسه في مواجهة المواقف المضادة للحداثة". لا يتعلق الامر اذن بالمقابلة بين البنية والتاريخ، بين "السانكروني" و"الدياكحروني"، بمقدار ما يتعلق بالتقابل بين السلم والحرب. ذلك ان الموقف الاول يتميز اكثر ما يتميز ببرودته الوضعية، وسمته الوصفية التقريرية التي تنظر الى الحداثة كمجموعة من المميزات التي تطبع حقبة تاريخية معينة، حيث يتم ايجاد مكان لها داخل يومية تتقدمها حقبة "ما قبل الحداثة" التقليدية والقديمة، وتتبعها حقبة "ما بعد الحداثة". ربما لا ينبغي ان ننعت هذا المفهوم حتى بالموقف، اذ لا يتلعق الامر اساساً باتخاذ موقف اكثر ما يتعلق بتحقيب التاريخ وتقطيع الزمن. اما المفهوم الآخر "فهو يعتبر الحداثة موقفاً عوض اعتبارها حقبة من حقب التاريخ. وأعني بالموقف شكلاً من العلاقة مع ما يحدث في الوضع الراهن، واختياراً واعياً يقوم به البعض، واخيراً نمطاً من التفكير والاحساس، وطريقة في السلوك والاستجابة التي تدل على انتماء معين، وتظهر كمهمة يجب القيام بها". الحداثة، بهذا المعنى الثاني، مسؤولية تاريخية، وموقف نضالي، ووعي "بالحركة المتقطعة للزمن من حيث انه قطيعة مع التقليد واحساس بالجبرة والنشوة بما يمر الآن". ها هنا لا تقابل الحداثة "ما قبلها" ولا "ما بعدها"، وانما تقابل ما ليس اياها، اي تقابل التقليد. أو قل ان الحداثة هنا لا تحدّد الا سلباً. انها دوماً ضد ما ليس اياها. وهي اساساً حركة انفصال وابتعاد. وفي هذا المعنى يورد فوكو تحديد بودلير للحداثة عندما يعرفها بأنها "المتنقل او الهارب او الطارئ". ان تكون انسان الحداثة اذن ليس هو ان تتعرف على سير التاريخ وتقف عند تلك الحركة الدؤوبة، وانما ان تتخذ موقفاً منها. ليس ان "تقف على" وانما ان "تقف من". على هذا النحو تغدو الحداثة دوماً "ما بعد". فالحداثة لا تقطّع الى ما قبل وما بعد، لأنها هي نفسها حركة قطع وانفصال. وهي ليست فترة تبدأ عند نقطة وتنتهي عند اخرى، لأنها بداية متجددة و"نشأة مستأنفة" وموقف لامتناه. اما الانشغال بالوساوس التأريخية، وتحديد الما قبل والما بعد، وتعيين نقاط البدايات والنهايات، وتقطيع التاريخ الى ادوار وحقب، فلا شأن كبيراً له بالحداثة وبالاحرى بالتحديث.